الملك الإسباني ألفونسو (الحكيم) والتراث العربي

الملك الإسباني ألفونسو (الحكيم) والتراث العربي

ثلاثة من كبار ملوك أوربا في العصور الوسطى كانوا رعاة للحضارة العربية الإسلامية في بلادهم، وهم الملك النورماني روجر الثاني، الذي حكم صقلية وجنوب إيطاليا ما بين 1130و1154م، والإمبراطور فردريك الثاني، الذي حكم ألمانيا وإيطاليا وصقلية ما بين 1215و1250م، والملك الإسباني ألفونسو العاشر، الذي عُرف بالحكيم، (لاهتمامه وإسهامه بالحركة العلمية في بلاده تأليفًا وترجمة)، والذي حكم مملكة قشتالة ما بين 1252و1284م.

 

 تميز هؤلاء الملوك بشغفهم بالحضارة العربية الإسلامية ورعايتهم لها ولرجالها في بلادهم، كما أنهم جعلوا بلادهم، ولاسيما صقلية وإسبانيا، مراكز لنقل التراث العربي إلى الغرب الأوربي. ومن ناحية أخرى يُلاحظ أن هؤلاء الملوك قادوا حملات عسكرية ضد العرب المسلمين، فهذا روجر الثاني يحتل مدينتي طرابلس الغرب عام 1146 والمهدية في تونس عام 1148م، وهذا الإمبراطور فردريك الثاني يقود الحملة الصليبية السادسة على بلاد الشام عام 1228-1229م. كما حارب ألفونسو الحكيم المسلمين في إسبانيا قبل اعتلائه العرش وبعده، أي أن شغف هؤلاء الملوك بالثقافة العربية وإعجابهم بها لم يردعاهم عن محاربة أصحابها.
 كان ألفونسو الحكيم قد اعتلى عرش  مملكة قشتالة، بعد وفاة والده فرناندو الثالث عام 1252م. وكانت  هذه المملكة تضم مدنًا رئيسة مثل طليطلة وقرطبة وإشبيلية، بل لم يكن بيد المسلمين آنذاك سوى مدينة غرناطة،  التي سقطت بيد الإسبان عام 1492م. ويهمنا أن نؤكد أن ألفونسو الحكيم كان محبا للعلم وشغوفا بالثقافة العربية، حتى قال عنه أحد المفكرين الغربيين إنه كان «أعظم تلاميذ العلوم العربية الإسلامية في إسبانيا المسيحية»، بل لقد  اتهمه بابا روما بأنه «إسلامي» إلى الدرجة التي لا يصلح معها أن يكون «إمبراطورًا رومانيًا مقدسًا». والواقع أن ألفونسو كان يحمل مشروعًا ثقافيًا للنهوض ببلاده وجعلها منارة للعلم والمعرفة في أوربا. وكان يرى أن الطريق إلى ذلك هي ترجمة ما يمكن من علوم العرب وآدابهم إلى اللغة الإسبانية. ولهذا اتخذ خطوات، منها على سبيل المثال:
 1- نهج ألفونسو سياسة التسامح الديني مع أبناء الأديان الذين يعيشون في مملكته، ولاسـيـمـا مـع المـسـلمـين واليـهود، متحديا بذلك المتعصـبين الإسـبـان. وترتب على ذلك استقطاب أعداد من  العلماء، أمثال الفيلسوف المسلم  أبي بكر الرقوطي. 2- أنشأ معهدا للدراسات العربية – الإسبانية في مدينة مرسيه الإسبانية، وكان الرقوطي هو الساعد الأيمن له في إقامته وإدارته والتدريس فيه، والتف حوله طلاب من كل الأديان والبلدان. 
3- أقام ألفونسو جامعة أشبيلية عام 1254م، التي خًصصت بشكل رئيس للدراسات العربية - اللاتينية. وقام بالتدريس فيها أساتذة من المسلمين، ونالت هذه الجامعة حماية البابوية لها ببراءة موقَّعة من البابا إسكندر الرابع عام 1260م. 
4- دعم حركة الترجمة التي بدأت في طليطلة منذ أن استولى عليها الإسبان عام 1085م، حيث تُرجمت فيها، من «العربية» إلى «اللاتينية»، مكتبة كاملة من التراث العربي والإغريقي. ويكفي أن نذكر شخصيتين كان لهما الدور البارز في ازدهار هذه الحركة، أولهما: ريموندو (ت1152م) وهو كبير أساقفة طليطلة. وثانيهما: جيرار الكريموني (ت1187م)، الذي جاء من مدينة كريمونا الإيطالية إلى طليطلة عام 1165م، وأمضى تسع سنوات فيها يترجم من التراث العربي والإغريقي, من العربية إلى اللاتينية. وقد وصلت حركة الترجمة في طليطلة إلى ذروتها في عهد ألفونسو الحكيم، ولكنها لم تقتصر على الترجمة من العربية إلى اللاتينية فحسب وإنما من العربية إلى الإسبانية أيضًا. 
5- أفاد ألفونسو من العلماء العرب واليهود الإسبان ومن المستعربين (أي من الإسبان المسيحيين الذين عاشوا في ظل الحكم العربي في إسبانيا وأتقنوا العربية واصطبغوا بالثقافة العربية)، كما أفاد من المدجنين (أي المسلمين الذين ظلوا تحت الحكم الإسباني وأتقنوا العربية والإسبانية). 
 ولا شك في أن هذه الخطوات التي اتخذها ألفونسو ساعدت المثقفين الإسبان على التفاعل مع علوم العرب وآدابهم، وقد تجلى ذلك في ما تُرجم في عهده من المؤلفات العربية وفي ما تم تأليفه تحت تأثير هذه المؤلفات، وسنقتصر على ذكر بعضها على سبيل المثال: 

أولًا: ألفونسو وعلم الفلك العربي 
أ- في ميدان الترجمة
 لقد تُرجم في عهد ألفونسو الحكيم عدد من الكتب المتعلقة بعلم الفلك، من العربية إلى الإسبانية، ومنها:
 1- كتاب «الزيج الصابئ»، الذي ألفه العالم الفلكي البتاني (ت929م). وقد أمر ألفونسو بترجمته من العربية إلى الإسبانية. واشتمل هذا الزيج على نتائج الأرصاد التي قام بها البتاني، حول حركات الأجرام السماوية وأفلاكها، في مرصدي الرقة وأنطاكية، على امتداد اثنتين وأربعين سنة. 
2- وبتوجيه من ألفونسو ترجم كتاب «صور الكواكب الثابتة»، لمؤلفه الفلكي عبدالرحمن الصوفي (ت986م)، من العربية إلى الإسبانية، بعنوان «كتب المعرفة الفلكية».
 3- وبرعاية ألفونسو تُرجم كتاب العالم الفلكي الطليطلي الزرقالي (ت1087م)، من العربية إلى الإسبانية، والذي عرف باسم «الصفيحة الزرقالية». وقد ترجمه طبيب ألفونسو وهو اليهودي أبراهام الطليطلي. وفيه وصف للإسطرلاب الذي اخترعه وآلية عمله. وكان الإسطرلاب أهم الآلات التي ترصد الكواكب، وأطلق عليه العرب اسم «الآلة الشريفة» لفوائده. وقد اقتبس كوبرنيكوس (ت1543م) الكثير من آراء البتاني والزرقالي في كتابه «دوران الأجرام السماوية». 

ب- في ميدان التأليف
 اعتمد ألفونسو الحكيم في ما كتبه بنفسه أو كُتب له في علم الفلك على مؤلفات كبار الفلكيين العرب أمثال المجريطي والبتاني والزرقالي وغيرهم. وأبرز مؤلفاته في هذا المجال كتابه «الجداول الألفونسية»، والذي عرف باسم «الأزياج الألفونسية»، ويشتمل على نتائج الأرصاد التي تمت في طليطلة. وقد شارك في إعداده نخبة من الفلكيين العرب في إسبانيا. وظل الاعتماد على  هذه الجداول في أوربا حتى صدور كتاب كوبرنيكوس عام 1543م.

ثانيًا: ألفونسو الحكيم والأدب العربي
 أ- في ميدان الترجمة
 ومما ترجم من الأدب العربي إلى الإسبانية واللاتينية بأمر ألفونسو وإشرافه نذكر:
 1- كتاب «كليلة ودمنة»، وهو كتاب هندي الأصل، وقد تُرجم من السنسكريتية إلى الفارسية، ثم ترجمه ابن المقفع، في مستهل العصر العباسي، من الفارسية إلى العربية. وفي عام 1261م (أي في عهد ألفونسو) تُرجم من العربية إلى الإسبانية، وكانت هذه أول ترجمة لهذا الكتاب إلى لغة أوربية، على الرغم من معارضة بعض رجال الدين في إسبانيا، بحجة أنه يهدد العقيدة الكاثوليكية. وكان لهذا الكتاب تأثير عميق في الأدبين الإسباني والأوربي.
 2- كتاب «السندباد»، وهو قصص هندية الأصل أيضا، وقد تُرجمت من العربية إلى الإسبانية عام 1253م. ولم يمض زمن طويل حتى ظهرت في الآداب الأوربية قصص مُحَاكة على منوال «السندباد»، مثل قصص الأديب الإيطالي بوكاشيو، التي ألفها حوالي عام 1348م، بعنوان «الديكاميرون» أي «الليالي العشر».

 ب- في ميدان التأليف
 ألَّف ألفونسو الحكيم عام 1283م واحدة من أعظم المجامع الشعرية في العصور الوسطى، ألا وهي «أناشيد مريم العذراء»، وقد كتبت باللغة الإسبانية وبتأثير مباشر من الأدب العربي. كما أن موسيقى هذه الأناشيد هي أندلسية إسلامية،  والآلات الموسيقية التي ظهرت في الرسوم الموجودة في المخطوطة عربية، هذا فضلًا عن أن ثياب بعض الموسيقيين كانت ثياباً عربية. ولاتزال أناشيد ألفونسو إلى اليوم تُعّد من أقدم روائع الشعر الغنائي الديني. ومن اللافت للنظر أن نشاطات ألفونسو في ميدان الأدب العربي تركت أثرًا عميقا في الأدباء الإسبان. ففي منتصف القرن الرابع عشر وضع الأمير خوان مانويل (ت1349م)، وهو ابن شقيق ألفونسو، مجموعة من القصص بعنوان «كوند لوكانور»، والأصول العربية فيها واضحة، حتى أن اسم الكونت «لوكانور» هو تحريف لاسم «لقمان الحكيم» الذي تنسب إليه حكايات عديدة في الأدب القصصي العربي.

ثالثًا: ألفونسو الحكيم ومصادر التاريخ العربي 
 اعتمد ألفونسو على المصادر التاريخية العربية في كل ما ألفه أو أشرف على تأليفه من كتب التاريخ. فقد ألَّف كتابين، الأول بعنوان «التاريخ العام لإسبانيا» وقد كتب باللغة الإسبانية، وهو يتناول تاريخ إسبانيا منذ العصور القديمة حتى عصر ألفونسو نفسه. واستعان في تأليفه بالعلماء العرب والمستعربين واليهود، وقد اعتمد هؤلاء بدورهم على المصادر العربية ولاسيما كتاب «البيان الواضح في الملم الفادح» للمؤرخ الأندلسي ابن علقمة (ت1115م)، وكتاب «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» لمؤلفه ابن الكرديوس الذي عاش في أواخر القرن الثاني عشر. أما الكتاب الثاني فهو بعنوان «التاريخ العام»، وهو يتضمن تاريخًا عامًا للعالم منذ بدء الخليقة مرورا بتاريخ الأنبياء والشعوب القديمة حتى مولد السيد المسيح عليه السلام، وقد اعتمد ألفونسو على المصادر الكلاسيكية والمسيحية والعربية. وأشار صراحة إلى أن ما ذكره عن مصر , مثلًا, نقله من كتاب «المسالك والممالك» للجغرافي الأندلسي البكري (ت 1094).

 رابعًا: ألفونسو والإسلام 
 يبدو أن الملك الإسباني رغب في أن يُطلع شعبه على الكتب الدينية للشعوب التي تعيش في إسبانيا، بلغة الشعب أي باللغة الإسبانية، وليس باللغة اللاتينية التي كانت آنذاك لغة الكنيسة والنخبة. ولهذا أمر بترجمة الإنجيل والتلمود إلى «الإسبانية»، متحديًا بذلك الكنيسة التي كانت تجرّم كل من يترجم الكتاب المقدس عن «اللاتينية» إلى أي لغة من اللغات،  وذلك حتى يحتكر الكهنة فهم النصوص الدينية وتفسيرها للبسطاء من المؤمنين. أما بالنسبة إلى الإسلام، فقد اتخذ ألفونسو خطوتين: الأولى أنه أمر بترجمة القرآن الكريم من «العربية» إلى «الإسبانية»، علمًا بأن القرآن كان قد ترجم منذ عام 1141م من «العربية» إلى «اللاتينية» على يد بطرس الموقر (رئيس دير كلوني) وساعده في عمله ثلاثة من العلماء المسيحيين وأحد العلماء العرب المسلمين. أما الخطوة الثانية فهي أنه أمر بترجمة قصة «المعراج النبوي»، من العربية إلى الإسبانية. وقام بهذه الترجمة طبيب ألفونسو نفسه وهو أبراهام عام 1263م. وعلى أساس الترجمة الإسبانية هذه قام في العام التالي (1264م) – وبتكليف من ألفونسو - مترجم إيطالي اسمه بوينا فينتورا، يعمل رئيسًا لسجلات ألفونسو، بترجمة قصة «المعراج» من «الإسبانية» إلى اللغتين الفرنسية واللاتينية، أي أن الترجمة إلى اللغتين الأخيرتين تمت قبل مولد دانتي بعام واحد. وبعبارة أخرى فإن قصة «المعراج» كانت منتشرة بلغة أو بلغات يفهمها دانتي، وهذه كانت الحلقة المفقودة التي كان يبحث عنها العالم الإسباني بلاثيوس قبل وفاته عام 1944م، لكي تتحول نظريته إلى حقيقة علمية. فمن المعروف أن بلاثيوس أثبت أن قصة «المعراج» هي المصدر الرئيس الذي اعتمد عليه الأديب الإيطالي دانتي في كتابه «الكوميديا الإلهية»، في حين كان الأوربيون يعتبرون أن «الكوميديا» هي معجزة الأدب الأوربي، والتي لا سابقة لها في آداب العالم. ولكن اكتشاف الترجمتين الفرنسية واللاتينية لقصة «المعراج» حطم «نظرية المعجزة» هذه، وجعل تأثر دانتي بها أمرًا لا يقبل الجدل. وهذا كله يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن أوربا كانت تحت ظلال الثقافة العربية الإسلامية وهي تصوغ هويتها الثقافية. 

خامسًا: ألفونسو وكتب المواعظ والفنون 
إن المواعظ الأخلاقية والسياسية من الفنون الأدبية التي انتشرت في إسبانيا، وهي مجموعة من الحِكم والأمثال التي عرفها الإسبان عن طريق ما صنفه العرب فيها أو نقلوه عن غيرهم. ولعل من أهم الكتب التي تُرجمت في هذا الميدان، في عهد ألفونسو الحكيم، من «العربية» إلى «الإسبانية»، هو كتاب «مختار الحكم ومحاسن الكلم» لمؤلفه الأديب مبشر بن فاتك الذي ألفه في أواخر القرن الحادي عشر. والمبشر هو أديب دمشقي، ولكنه عاش في مصر. ويعد كتابه هذا من أهم الكتب التي اشتملت على أقوال الفلاسفة والحكماء اليونانيين، وبالتالي فهو كنز من الحكم الرائعة والآراء الرصينة. ومن هنا جاء اهتمام الأوربيين به مبكرًا. ويعرض العالم الإسباني آنخل في كتابه «تاريخ الفكر الأندلسي» عددًا من كتب الحكم والمواعظ التي ترجمت من «العربية» إلى «الإسبانية» في أيام ألفونسو، مثل كتاب «سر الأسرار» المنسوب إلى أرسطو، وكتاب «الأمثال الطبية» وكتاب «الأقوال الذهبية» وغيرها. كما أمر ألفونسو بتأليف وترجمة بعض الكتب المتعلقة بالألعاب والفنون الشرقية مثل الشطرنج والموسيقى... إلخ. فالشطرنج، مثلا، لعبة هندية الأصل، ونقلها العرب عن الفرس ومن ثم اقتبستها أوربا عن العرب في إسبانيا في أوائل القرن الحادي عشر، إلا أن أول وصف واضح للعبة الشطرنج في اللغات الأوربية هو ما ورد في كتاب عن «لعبة الشطرنج» كان قد أمر ألفونسو بتأليفه عام 1283م. وقد اعتمد الكتاب في مادته على مصادر عربية، كما أن الصور التوضيحية الموجودة فيه تُظهر اللاعبين في ثياب شرقية ويظهر معهم موسيقيون شرقيون. كما تأثر الموسيقيون الإسبان بالموسيقيين العرب، حيث كانوا يعزفون معًا في بلاط ألفونسو، وهذا يدل على وجود ذخيرة أدائية مشتركة أو تشابه في اللغة الموسيقية يكفي لضمان تذوق وقبول من الطرفين. 
وقصارى القول: كان ألفونسو الحكيم ملكًا استثنائيًا في تاريخ إسبانيا من حيث الاهتمام بالتراث العربي، فقد حمل مشروعًا للنهوض بالحياة العلمية والأدبية لشعبه من خلال الإفادة من علوم العرب وآدابهم. وقد تركت جهوده في هذا السبيل أثرًا عميقًا لا في نهضة إسبانيا وتطورها فحسب، بل في النهضة الأوربية أيضا ■