أوربا واليهود... علاقة تسامح أم كراهية؟

أوربا واليهود... علاقة تسامح أم كراهية؟

حين ينظر المرء في زماننا إلى العلاقات المتميزة بين الدول الأوربية وإسرائيل - وما تتضمنها من مساعدات على كل المجالات - سيشعر ويعتقد على الفور أن اليهود كانت لديهم مكانة مرموقة في أوربا على مر الأزمان، وأنهم عاشوا ويعيشون في كنف يرحب بهم دومًا، وأن علاقاتهم مع الأوربيين كانت تحمل طابع التعاون المستمر، لذلك لا تنفك أوربا في تقديم كل مساعدة لإسرائيل حاليًا، لكن حينما نستنطق التاريخ لمعرفة تاريخ اليهود في أوربا لكي يكون جسرًا إلى صلب موضوعنا هنا، لا بد أن نشير قبل ذلك باختصار إلى وضع اليهود في بلاد المسلمين ذات الفضاء المترامي آنذاك، لكي تكون المقارنة عادلة بين أهم قوتي ذلك الزمن.

وجد اليهود معاملة طيبة لا نظير لها في الدول والمناطق الإسلامية بلا استثناء، فقد تمتع اليهود بشكل عام بحرية التعبير والحرية الاقتصادية وحرية التنقل وكانوا يملكون العقارات بلا تقييد، بل إنه لم يكن لليهود أو الثقافة العبرية حضور أو أدب واضح إلا في العصور الإسلامية، وخاصة العصر العباسي الثاني، أما ما قبل ذلك فليس هناك أي أثر للثقافة اليهودية، لدرجة يمكن القول بكل ثقة إن العصر الذهبي للثقافة اليهودية هو في الأندلس الإسلامية، وهذا خبر مشهور، متعارف، تداولته الأفواه وتسقط فيه ظلمات الشكوك، والسبب هو الأرضية الثقافية المنفتحة التي وفرها المسلمون في الأندلس لمختلف الأقليات، بل لم تقم أنقاض اللغة العبرية الخاملة إلا على عروق اللغة العربية الخالدة، وذلك حين استفاد علماء اليهود من مناهج المسلمين في البحث اللغوي وتقعيد القواعد، ما يبين ويوضح الدلالة القاطعة على مدى تسامح المسلمين عاطفيًا وحقوقيًا مع جميع الطوائف واحترام الرأي الآخر، وتفاصيل هذه الأخبار التي تثير العجب مبثوثة في بطون أمهات الكتب التاريخية، أضف إلى ذلك ما وصل إليه بعض رجال اليهود مع ارتقاء أعلى المناصب في الدول الإسلامية، وهذا ما لم يحدث في تاريخ أي أمة من الأمم، لدرجة أن بعضهم وصل لمنصب وزير وهو منصب مهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر ابن شبرود الذي كان مترجمًا، كذلك الوزير الأديب صموئيل بن النغرلة الذي رد عليه ابن حزم بسبب تعصبه، أيضًا موسى بن عزرا الشاعر والناقد الأدبي، الذي وصل إلى منصب صاحب الشرطة، وهو منصب خطير في حكومة إسلامية. ومن هنا يمكن القول لا الزعم إنه لم يجد اليهود تلك العنصرية البغيضة في بلاد المسلمين كما وجدوها في بلدان أخرى.

اليهود في أوربا
أما اليهود في أوربا - وهو ما نريد تتبعه -  فقد ظلوا يعانون قرونًا طويلة من البؤس والعذاب الذي يزيد وينقص وفق شخصية حاكم البلاد، ومورست ضدهم العنصرية بأبشع صورها، وخاصة بعد سقوط الأندلس وانتشارهم في أوربا، والحكايات والروايات في ذلك تزيد وتفيض، بل إن كل بلد أوربي على حدة فيه من قصص التنكيل والاضطهاد والتهجير لليهود ما يستحق البحث والوقوف عليه، ومن ذلك على سبيل المثال، كثر اضطهاد اليهود في القرون الوسطى، وانتشر القول بأنهم يخطفون الأطفال المسيحيين، كجزء من إقامة طقوسهم وشعائرهم الدينية، وقد ترسخت هذه الأقاويل في أذهان الناس، حتى طالب أهالي إسبانيا من الملك فرديناند بإجلاء اليهود غير المعمدين عن أوربا، وهو ما اضطر بعضهم للهرب أو التعميد قسرًا. أما اليهود الذين استقروا في إنجلترا فقد عانوا كثيرًا من تسلط الملوك الإنجليز ومن كراهية الشعب لهم، فقد أصدر الملك إدوارد الأول 1307م الأمر التاريخي لعام 1290 الخاص بطرد اليهود عن بكرة أبيهم من إنجلترا والموت لكل يهودي يخالف هذا الأمر. وفي الحقيقة لم يكن هذا الأمر مفاجأة لمن يتتبع تاريخ اليهود في إنجلترا، فقد شهد القرن الثاني عشر عددًا من المآسي تعرَّض فيها اليهود للخسف والعذاب، كإلحاق الدمار المالي بهم وإجبارهم على اعتناق المسيحية، إلى جانب شحن الكنيسة مشاعر الإنجليز ضدهم، باعتبارهم هم قتلة المسيح عليه السلام، لذلك، كان مقت المسيحيين لهم يزداد كلما أخفق المسيحيون في إلحاق الهزيمة بالمسلمين، ما جعل القرارات الملكية تصدر ضدهم تباعًا، فمنها إلزامهم بتعليق شارات على صدورهم مميزة، ومنها عدم توظيف النساء المسيحيات في إرضاع أو تربية أطفال العائلات اليهودية، إلى جانب الضرائب المتواصلة للملك أو للحملات الصليبية. أما اليهود الألمان فلم يكونوا في بحبوحة ورغد عن غيرهم، ففي عام 1348 وبسبب الهستيريا المحيطة بالطاعون الأسود، كان اليهود يُذبحون في عدة مناطق ألمانية ظنًا أن لهم يدًا في ذلك، ما جعلهم يفرون إلى بولندا، ثم حاول الراهب الألماني مارتن لوثر مؤسس المذهب البروتستانتي المسيحي في القرن السادس عشر التقرب من اليهود والثناء عليهم بين فترة وأخرى استمرت عشرين سنة بقصد هدايتهم إلى المسيحية، وذلك بعد صراعه مع الكنيسة، إلا أنه في النهاية بعدما أيقن بفشل تنصيره لليهود، نصب لهم العداء والشر وألّب الألمان عليهم وأظهر مساوئهم، ودعا إلى تهجيرهم والخلاص منهم، فألّف كتابًا باسم «اليهود وأكاذيبهم» بلغ فيه من حدة التطرف سنامه، ومن الكراهية ذروتها، فقد قال فيه: «إن اليهود أمة من الناس غلاظ كفرة متكبرون خبثاء ممقوتون» كما طالب بإذلالهم وتعذيبهم: «ومن يستطيع أن يلقي عليهم بوابل من النار فإنه يُحسن صنعًا كرامة لربنا وللمسيحية». وفي الحقيقة أن الدافع الرئيس الذي جعلنا نقدم هذا العرض التاريخي هو وجود بعض الآثار الباقية من هذا التعصب ضد اليهود في أوربا إلى وقتنا، والتي ربما لا يعلم عنها الكثيرون، فقد ذكرت مجلة «شبيجل» الألمانية بتاريخ 15/8/2014 أن الصراع الدائر في فرنسا منذ مدة طويلة زاد تفاقمًا حديثًا، وذلك بسبب اسم إحدى القرى الفرنسية الصغيرة جدًا والتي تحمل اسم «La Mort aux Juifs» أي (الموت لليهود).
تقع هذه القرية جنوب باريس وتبعد عنها 116 كيلومترا، وهي تابعة لمحافظة «Montargis» التي تبعد عنها 12 كيلومترا شرقًا، وتتكون في الواقع هذه القرية الصغيرة من دير ومزرعة وعدد قليل من المنازل كما توصف، وفي عام 1990 نزعت بلدية (Courtemaux) المسؤولة عن هذه القرية - بعد مناقشات عنيفة - جميع اللوحات الإرشادية التي تفيد باسم القرية من الطريق العام مثلاً أو في داخل المنطقة، إلا أن اسم هذه القرية مازال قائمًا وموجودًا في إدارة التسجيل العقاري الفرنسي وفي الخرائط العامة للجمهورية الفرنسية (أو محرك البحث العالمي جوجل)، كذلك بين السكان، بيد أن منظمة «سيمون فيزنتال»، وهي منظمة حقوقية يهودية ومقرها في الولايات المتحدة رفضت استمرار وجود هذا الاسم واعتبرته معاداة لليهود، لذلك تقدمت بطلب إلى وزير الداخلية الفرنسي بتغيير اسم هذه القرية نهائيًا.

مغالطات تاريخية
ووصفت هذه المنظمة هذا الاسم بـ «بالصدمة البالغة»، ثم كعادة اليهود في محاولة تزوير التاريخ، حين ذكروا أنه من المخزي أن يستمر هذا الاسم بعدما تحررت فرنسا من الاحتلال النازي، وكأنهم يريدون إيهام المتابع لهذا الحدث بنسب هذا الاسم إلى الاحتلال النازي الذي شن العداء على اليهود، وأنه هو من وضعه حديثًا، وليس من الماضي البغيض لليهود في أوربا، وهذا غير صحيح البتة، بل من أبسط الردود على ذلك: لماذا يطلق النازيون آنذاك هذا الاسم على قرية صغيرة لا تكاد تعرف، بدلاً من إطلاقه على مدينة كبيرة ذات شأن ولافتة للنظر؟ لأجل ذلك رد الإعلام الفرنسي على هذا الزعم بأنه فقط «اسم قديم يعود إلى حادثة تاريخية تفيد بتمرد اليهود ضد دفع الضرائب، ما أقام مذبحة ضدهم»، ثم أشاروا بسخرية «لماذا يجب أن نغير اسمًا يعود إلى حقبة القرون الوسطى؟»، علاوة على ذلك في الرد على مزاعم منظمة سيمون تسرد بعض المصادر شواهد وخرائط قديمة منذ القرن الـ17 تؤكد وتثبت وجود هذه القرية بهذا الاسم، مضيفة أنها من أملاك أحد النبلاء، وهو السير بيتر أوزون. أما ما يخص هذه المذبحة ضد اليهود فهي تعتبر أحد الآراء في سبب هذه التسمية، إلا أننا نقرأ رأيًا آخر يشير إلى أصل هذا الاسم، وهو كونه مرسومًا من ملك فرنسا يوهان الثاني، الذي أصدره في يوم 16/6/1353 من قلعته التي كانت تبعد خمسة أميال عن هذه القرية، للإشارة إلى أعمال العنف واسعة النطاق ضد اليهود آنذاك، سواء بتلقائية أو مع الإصرار والترصد، والتي كانت تعرف بـ «Pogrom». كذلك من باب الأمانة العلمية نذكر أن هناك أيضًا فرضية أخرى ذكرها المؤرخ الفرنسي بيير ميكيل، وهي أن هذا الاسم متعلق بحكاية حول مكان للدفع، وذلك بعد خسائر اقتصادية كبيرة آنذاك، حيث تم إلزام التجار اليهود بالدفع، ثم تم تحريف الاسم لاحقا. وأيًا كانت حقيقة هذا الاسم فإن ما يشد انتباهنا من هذا الجدال هو أنه لا يمكن أن تأتي هذه التسميات من فراغ، بل من خلفية ثقافية معينة ضد اليهود، ومما يدعم ذلك وجود أيضًا حالة مشابهة في شمال إسبانيا، حيث توجد قرية صغيرة كانت معروفة منذ عام 1627 باسم «Casrtillo Matajudios» (كاستريو تقتل اليهود)، إلا أنه بعد سلسلة من الترويج لتغيير اسم القرية تم التصويت على تغييره في شهر مايو الماضي، وبموافقة 29 شخصا ورفض 19 شخصا من أصل 56 وهم سكان القرية، تم تغيير الاسم إلى «Mata de Judios» أي «هضبة اليهود». يتضح مما سبق أن الأوربيين لم يكونوا مرحبين باليهود بينهم، ولم تكن هناك أي أواصر صداقة أو تسامح حقيقي لا ظاهري، بل تؤكد وتدعم لنا هذخ المسميات حقيقة متدثرة، وهي أن إقامة دولة إسرائيل في وقتنا كانت حلا مثاليا للمسألة اليهودية بالنسبة للغرب، وللتخلص من مواطنيه اليهود، فأصبح أعداء الأمس حلفاء اليوم في تزاوج المصالح، ومصداقًا على ذلك ما طالب به رجل الأعمال الأمريكي وليم بلاكستون عام 1891 بأن يتم توطين اليهود في فلسطين، بعدما رأى تدفقهم على الولايات المتحدة عام 1881 وخشي من استفحالهم ومزاحمتهم في وطنهم، لأجل ذلك تقدم بعريضة إلى الرئيس الأمريكي آنذاك بنيامين هاريسون يطالبه بتنفيذ رؤيته في ترحيل اليهود، ومما يلفت النظر أن المئات من الشخصيات الأميركية البارزة وقَّعت على هذه العريضة.
أخيرًا إن العرب والمسلمين الذين يوصمون حاليًا بالإرهاب ضد اليهود أبرياء من التعصب الديني ضدهم، وتاريخهم مع اليهود يخلو من التعذيب ومحاكم التفتيش، لذلك لا يملكون تسميات محرضة ضد اليهود، ولم يخبرنا التاريخ بأي مذابح أو اضطهاد شعبي أو حكومي ضدهم، عدا أن يقوموا بأعمال ضد المسلمين تستلزم العقاب، بل لم يؤلف علماء العرب كتبًا تدعو وتحرض على قتل اليهود، بل كتبوا كتبًا علمية ترد على كذب اليهود حول الإسلام والقرآن وتناقشهم في ذلك ■