مشاهد من الانفتاح على الآخر لدى الجاحظ

مشاهد من الانفتاح  على الآخر لدى الجاحظ

استطاع الجاحظ أن يقدّم لنا في مؤلفاته صورة حقيقية للأمة الإسلامية في لحظة تألق حضاري، دون أن يغفل عما تخبّئه في أعماقها، وتسكت عنه، مما قد يخدش حياءها.

وثّق لنا الجاحظ في كتاب «البخلاء» ظاهرة عانى منها المجتمع الذي انتقل من البداوة إلى المدنية في العصر العباسي، فرصد لنا لحظة تاريخية تغيّرت فيها العادات والتفكير! فباتت ظاهرة البخل مدعاة فخر؛ لهذا كان بخلاؤه من الفرس والعرب معًا!
وقد أتاح لنا في إحدى قصص بخلائه فرصة معايشة خصوصية العلاقة بين الفرس والعرب، فوجدنا العربي من ثقيف يستدين مالا من فارسي (أبي سعيد المدائني المعروف بالبخل)، لهذا كان يتعمّد المطالبة بالدين وقت الطعام، فقال له أحد الثقفيين: لو أردت التقاضي المحض لكان ذلك في المسجد، وليس في البيت وقت الغداء!
فغضب الفارسي (الذي وصفه الجاحظ بـ«أشد الناس نفسًا، وأحماهم أنفًا» (أي أبعدهم عن احتمال الذل) فثار لكرامته، ومزّق صك الدين، وقال لكل من شهد المجلس: «هذه ألف دينار كانت لي على أبي فلان، اشهدوا جميعًا أني قبضت منه وأنه بريء»، فاضطر الثقفي أن يبيع ثماره قبل أن تنضج، ليسرع في وفاء الدَّين، وحين جاءه بالمال رفضه، فلما كثر إلحاح الثقفي عليه، قال مشترطًا عليه «أظن الذي دعا صاحبك إلى ما قاله أنه عربي، وأنا مولى، فإن جعلت شفعاءك من الموالي أخذت هذا المال، وإن لم تفعل فإني لا آخذه، فجمع الثقفي كل شعوبي بالبصرة، حتى طلبوا إليه أخذ المال». (ص160)
إننا أمام مشهد حي لعصر الجاحظ، يبرز لنا مدى التمازج الاجتماعي والثقافي بين العرب والفرس، (استدانة العربي من الفارسي، ومشاركته في الطعام، التواصل باللغة العربية).
ورغم أن الفارسي (أبا سعيد) كان بخيلاً فإنه لم يبدُ لنا في صورة منفِّرة، فقد امتلك من الصفات النبيلة ما يجعل صفة البخل باهتة أو مشكوكًا فيها، إذ ليس سهلاً على البخيل النموذجي الذي نعرفه اليوم أن يرفض ألف دينار ثأرًا لكرامته!
كما بدا الفارسي لدى الجاحظ ندا للعربي، يشترط عليه شرطًا صعبًا، لا يستطيع أي إنسان قبوله، لكن العربي الحريص على إيفاء دينه وعلى إقامة علاقة طيبة معه، ينفّذ هذا الشرط، فيترك أصدقاءه العرب، ويرجو الموالي ليشفعوا له لدى المدائني، فيأتي بهم؛ ليلحوا عليه كي يسترد دينه.
نلمح في هذا المشهد أيضا بعض الحساسية المسكوت عنها بين العرب والفرس، نقلها لنا الجاحظ على لسان «العربي» (الثقفي)، حين عرّض ببخل أبي سعيد، وفضحه، وعلى لسان (الفارسي أبي سعيد المدائني) حين وضّح الأسباب العرقية لهذا التعريض (إنه عربي وأنا مولى)، لذلك اشترط على المستدين ما يعلي شأن قومه، وقد قبله العربي، ليعيد الحق إلى صاحبه، وبذلك حمت الأخلاق الرفيعة العلاقات الإنسانية بين الأنا والآخر، فلم نجد التعصب العنصري ضد الآخر ظاهرة عامة لدى رائد تراثي كالجاحظ! بل عايشنا انفتاحًا نحو الآخر، وامتزاجًا في تفاصيل الحياة اليومية، فانعكس ذلك عبر سمات نبيلة، أضفاها على الفارسي والعربي معًا؛ مما يخفف الحساسية بين الأنا والآخر، ويعزّز التواصل بينهما.

مشهد من كتاب البيان والتبيين
إن صراع الجاحظ مع الشعوبيين لم يعكر صفو الروح الإسلامية السمحة التي تربى عليها، وتجلت في أدبه، ورغم أن من أسباب تأليف كتاب «البيان والتبيين» هو الرد على هؤلاء الشعوبيين الرافضين للدين الإسلامي واللغة العربية، فإن المتلقي يفاجأ برسم صورة إيجابية للفرس المسلمين، فقد جعلهم في ذروة الإبداع في مجال لغوي هو فن الخطابة، يُعتقد أنه حكر على العرب، لذلك استحضر بطريقة مشهدية صورة لإنسان (فارسي) جمع فصاحة اللغتين العربية والفارسية هو (موسى الأسواري) «كان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية على وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به فيقعد العرب عن يمينه، والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله يفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه للفرس فيفسرها لهم بالفارسية، فلا ندري بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا بلسان الواحد أدخلت كل واحدة منهما الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري». (ص193)
إننا أمام مشهد نـــادر يوثّــــق لانفــــتـــاح الحضارة الإسلامية في العصر العباسي، فمجلس العلم يجمع العرب والفرس معا، مما يتطلب معلمًا متميزًا، يـــتــــقن لغتـــهما، ويستطيع إيصال تفسير القرآن الكريم وتعاليمه لكليهما، المدهش هنا أن «الأسواري» حاز ميزة نادرة هي الفصاحة في اللغتين معًا، لغته الأصلــية (الفارسية) ولغة الثقافة (العربية)! وهذا قلَّما يحصل! 
وبذلك قدّم لنا الجاحـــــظ دلــــيلا ملموسًا على أن الفصاحة غير مقتصرة على العرب، فالفارسي  (الأسواري) هنا يعدّ إنــسانًا استــــثنائيًا، يتــــجـــاوز المألوف، إذ لـــــم يؤدِ إتقانه لغة أخرى إلى إضـــعاف لغــــته الأم، كمــا لم يؤدِ إتقان لغته الأم إلى إضعاف لغة الثقافة، فتساوت فصاحتهما لديه، وهذا دليل على ما تميـــز به من ذكاء وعقل! 

مشهد من رسالته 
«فخر السودان على البيضان»
أسهم في هذه الرسالة في تحرير صورة الزنجي من نمطيتها السلبية، فأتاح للمرة الأولى أن يُمثّل السودان أنفسهم ويصفوا ذواتهم، ويستعرضوا مفاخرهم، فقد كانوا عاجزين عن ذلك، إذ جُردوا من أهم أداة تمثّل الذات، وهي الكتابة واللغة، على حد قول نادر كاظم.   
وهكذا تحرّر الجاحظ من النسق الثقافي السائد، الذي ينأى عن روح الإسلام السمحة، فأتاح للآخر الزنجي في هذه الرسالة فرصة التعبير عن صوته الخاص، والدفاع عن ذاته، فوجدناه غير مكبّل بإحساس النقص، الذي ينتاب البعض لسواد بشرته، فيسعى لتغيير لونها، كما فعل المغني العالمي مايكل جاكسون!! لهذا عبّر عن ذاته بصيغة الجمع، مؤكدًا إحساس الثقة بالانتماء إلى الجماعة: «إن الله لم يجعلنا سودًا تشويهًا بخلقنا، ولكن البلد فعل ذلك بنا. والحجة في ذلك أن في العرب قبائل سودًا كبني سليم». (ص158)
يقدم لنا التراث العربي عبر الجاحظ لحظة حضارية نادرة، إذ أتيح للسود إيصال وجهة نظرهم عبر حوارهم مع الآخر الذي يعيب سوادهم، فظهر اعتزازهم بلونهم، وبيّنوا أن ذلك ليس مسخًا أو غضبًا من الله، كما يعتقد بعضهم، وإنما هو أمر طبيعي نتيجة للبيئة الحارة التي يعيشون فيها! إذ إن من المعروف أن سواد البشرة أكثر مقاومة لحرارة الشمس وتأقلمًا معها!! 
ثمة رغبة لديهم في تغيير النظرة النمطية السائدة عنهم؛ لهذا دعوا الآخر إلى التأمل في أجسادهم، ليتعرّفوا أهمية السواد! وليلاحظوا أن أكرم ما في الإنسان هو «حدقتاه، وهما سوداوان»، وبذلك يفخرون بما يظن بعض الناس أنه نقطة ضعف أو عقدة نقص!! فقد بات الشكل الضخم واللون الأسود قوة تهبهم التميّز عن الآخرين والثقة بالذات!
وهم لا يفتخرون بأشكالهم، التي لا يد لهم فيها فقط، بل يفتخرون بتميّزهم الثقافي الذي حصّلوه بجهدهم «لنا بعد معرفة بالتفلسف والنظر، ولنا في الأسرار حجة...».
وبذلك يبيّنون لنا خطأ النظرة السائدة التي تحشرهم في خانة العبيد، التي مازالوا يعانون منها إلى اليوم! فهم ذوو نسب عريق، إذ إن أجدادهم ملوك، اعترف العرب بأهميتهم، لذلك يذكّرونهم بمكانتهم لديهم عبر خطاب مباشر لهم: «قدّمتموهم في كثير من المواضع على ملوككم، ولو لم تروا لنا الفضل في ذلك لما فعلتم».
لا يكتفي الجاحظ بإيراد مدحهم عبر صوتهم الخاص، لأن ذلك قد يفقدهم المصداقية، فالإنسان بطبعه ينفر من مادح نفسه! لهذا وجدناه يعزّز أقوالهم بأمثلة مستمدة من القرآن الكريم، وبيّن أن لقمان الحكيم منهم، وقد مدحه الله في كتابه، وأورد حِكما له أوصى بها ابنه، ولقّبه بـ«الحكيم» بل سمّى سورة باسمه! 
كما ذكر الجاحظ أولياءهم الصالحين السابقين إلى الإسلام، وتحدث عن المتفقهين في الدين، من أمثال سعيد بن جبير، الذي قتله الحجاج، وكان أورع الخلق وأتقاهم، وكان أعظم أصحاب ابن عباس، ويوم قتل قال الناس «كلنا محتاج إليه».
ثم نجده يعزّز ذلك عبر رسم صورة مشهدية، تعرض صفاتهم الجسدية والمعرفية، فيعايش المتلقي مزاياهم الأخلاقية واللغوية عبر صيغة التفضيل «ليس في الأرض أحسن حلوقا منهم، وليس في الأرض لغة أخفّ على اللسان من لغتهم... وليس في الأرض قوم أذرب ألسنة، ولا أقل تمطيطًا منهم... ليس في الأرض أمة في شدة الأبدان وقـــــوة الأســـر أعمّ منهم فيهما. وإن الرجل ليرفع الثقيل الذي تعجز عنه الجماعة من الأعراب وغيرهم، وهم شجعاء أشداء الأبدان أسخياء، وهذه هي خصال الشرف... والزنجي مع حسن الخلق وقلة الأذى لا تراه أبدًا إلا طيّب النفس، ضحوك السن، حسن الظن، وهذا هو الشرف». (ص138-139)
يمتلك الجاحظ صفات عالم بالنفــــس، يدرك اتساع قدراتها، لا يمكن أن تسجن في لون معيَّن أو انتماء ما!  لهذا مدح المقدرة اللغوية لدى الزنجي، ولم يجعل صفة كـ «الفصاحة» عُرف العرب بها حكرًا عليهم، وهو لا يكتفي بذلك، بل يمدح طبيعة لغة الزنجي، وما تتميز به من خفة في النطق، وجمال في الإيقاع! كما يمدح قوته الجسدية، ويبيّن تميّزه في هذا ليس عن الفرد العربي، بل عن «الجماعة من الأعراب»، ومثل هذه القوة ليست بمعزل عن الشجاعة والشرف، وبذلك تكتمل جماليات صورة الزنجي! التي هي استمرار لصورة عنترة بن شداد، التي شكلت في المخيال العربي نموذجًا رائعًا للبطولة والشهامة! من الملاحظ أن الجاحظ معجب بشخصية الزنجي؛ لهذا كرّر صفة الشرف حين وصفه، ليرسّخ صورته النبيلة في الأذهان! ربما لكونه ينتمي مثله إلى جماعة المهمشين، لكنه استطاع أن يحقق مكانة رفيعة في مجتمعه بفضل المعرفة التي حصّلها والإبداع الذي قدّمه! إذ بدا متشبعًا بروح الإسلام السمحة {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (13/ الحجرات).
 وهكذا عايشنا بفضله مشهدًا من مشاهد الحضارة الإسلامية، التي منحت الآخر فرصة التعبير عن ذاته والفخر بها! فلكل إنسان «نصيب من النقص، ومقدار من الذنوب، وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن وقلة المساوئ».
لقد تعمّد الجاحظ في مؤلفاته، وهو المثقف الطليعي، أن يسهم في ترسيخ رؤية موضوعية للذات وللآخر، تقصي التعصب جانبًا، وتؤسس لمجتمع تسوده المحبة والتسامح، وهذا ما صرّح به في مقدمة رسائله «وكتابنا هذا إنما تكلّفناه لنؤلف بين (قلوب البشر) التي كانت مختلفة، ولنـزيد الألفـــة إن كانت مؤتلفة، ولنخبر عن اتفاق أسبابهم لتجتمع كلمتهم، ولتسلم صدورهم».
هنا نتساءل: أين هم المثقفون أمثال الجاحظ، اليوم، الذين يؤلفون بين القلوب المختلفة فيعيشون روح الإسلام، ويجسدون قيمه، التي شُوهت على أيدي أبنائها?! ■