العولمة والدِّين

العولمة والدِّين

هناك ثابتة مقيمة في الفكر الديني الشمولي، الذي تأتيه الشمولية من فيروس معرفي لا يفرق بين الديني والعلماني... ومن هذا الفكر الديني الشمولي، وفي طليعته الآن، الشمولية الإسلامية على اختلاف إيقاعاتها وإعاقاتها. هذه الثابتة هي الثنائية الفصالية بين الدين والعلم، أو بين الدين والعقل، أو بين المعرفة الدينية بالدين والدنيا، وبين المعرفة العلمية أو العقلية بالدين والدنيا. 

 

من هنا جاء ذلك الانشغال أو الاشتغال الدائم والمتوتر على إبطال العلم بالدين، أي إبطال الدين بالدين في المحصلة، كلما استجدّ متحوّل علمي ساطع، أو ظهر، لأنه يكون قد تراكم في مدى زمني طويل من دون أن يراه البعض لأنهم لا يريدون أن يروه، حتى إذا ما سطع أداروا له ظهورهم والرؤوس فلم يروا، أو حدقوا فيه كما يحدق الآتي من سبات كهفي طويل وعميق في قرص الشمس فتُعشيه.
وتبلغ هذه الثابتة أقصى تجلياتها، عندما يتحول المنجز العلمي المتولد من المتحول إلى واقعات مشهودة ومعيشة وداخلة في أنظمة الحياة العلمية والعملية والعلائقية، حياة الناس أجمعين، ومنهم المسلمون، من دون فرق بين إسلامي وإسلاموي، أو بين سلفي فكروي وسلفي جهادي، أو حداثوي متسرع وحداثوي متأنٍ، ليأخد الانشغال والاشتغال الذي ذكرنا، منحى مخالفًا أو معاكسًا للمنحى الأول، أي من منحى الاستهتار إلى منحى الاجتهاد، بمعنى بذل الجهد في الحيز العضلي من العقل المصدوم، لإثبات عدم المنافاة بين العلم والدين، من خلال التماس التأسيس الديني العام، ما مضى منه وما هو آت في علم الله وطوايا الغيب الذي يراوده غيرنا فيحولونه إلى شهود، ونحن نحيل الشهود على الغيب، ظلمًا للغيب والشهود، ويعتمدون في ذلك على قراءات تأويلية، وقد يكون مناط التأويل هو المزاج الذي يؤدي أحيانًا أو كثيرًا إلى تأويل ظواهر الكتاب من دون اعتبار لإطباق العلماء على حجية الظواهر، وما ذلك إلا لأن هذه القراءة محكومة بإرادة أو معرفة قبلية، أي اللامعرفة، للنص الديني التأسيسي في القرآن (قطعي السند ظني الدلالة) وفي السنة (ظنية السند قطعية الدلالة)، علمًا بأن هناك من يرى أن من حقه النقاش في هذه المعادلة أو هذا التعميم، في ما يعود إلى قطعية دلالة السنة، التي ربما كان إثباتها في المعادلة أو في المقابلة مع القرآن، من إغراءات المشاكلة اللفظية ليس إلا، ويتحصّل لدى الإسلامي أن لا جديد في عالم العلوم الدقيقة أو البحتة أو التطبيقية أو الإنسانية أو الأدبية، إلا وهو موجود في النص. ولا أحد من المتوترين يتنبّه إلى خطورة هذه الجرجرة لكتاب الله وراء الاكتشافات العلمية الاحتمالية، وأن للنص القرآني مرونة تؤمّن له استيعاب المستجدّ من دون أن يكون مضطرًا لتكييف النقائض المعرفية... حتى قال بعضهم على فضائية معروفة: «لماذا لا نحتمل أن يكون الحجر الأسود في الكعبة «هارديسك» يختزن علم كل ما مضي وما يأتي من الأزل إلى الأبد؟».

حسم مبكر
إن المسيحي الشمولي، القديم، أي غير الذي يستولد الآن شموليته من التركيب الهجين بين المسيحية واليهودية في نسختها المتداولة والمتحدرة من إملاءات أسطورة التأسيس بعيدًا عن التوحيد ومعادلة الموضوعي في التاريخ، أي الأنسنة بالاندماج، هذا المسيحي الشمولي القديم إذن، حسم أمره مبكرًا، مع بداية عصر الأنوار وعصر النهضة، وسلَّم بأن هناك حقلين معرفيين وعمليين مختلفين في مبانيهما وقابلين للتكامل أو التقابل، تبعًا لسيادة الرؤية المركبة أو مناهج التفريد التي ترقى بالاختلاف، حتى داخل الواحد، إلى التناقض، محكومين (أي الحقلين المعرفيين) في كلا الحالين، حال التكامل وحال التقابل، إلى نظام المعرفة السائد من حيث كونه عمليًا، أو نسبيًا، أو عقائديًا أي إطلاقيًا (أعني بالحقلين العلم والدين). واستراحت نسبيًا المسيحية من إلحاح المسيحيين على استنفارها واستدراجها واستيلاد اللعنة والكفر والإعدام من أدبياتها، وانخرط المسيحيون في صناعة المتحولات العلمية والتكيف معها. ومازال في صفوفهم كثير من الواقفين أو المعاندين، ولكنهم أقل فاعلية إن كانوا فاعلين. وبصرف النظر عن السياقات التي استخدمت فيها منجزات هذه المتحولات في موقف أخلاقي سلبي متكرر من السياقات السلبية لهذا الاستخدام، من دون أن يخلو الأمر حتى من اعتراضات تتصل أكثر الأحيان باحتمالات الزعزعة العلمية لبيت الأسرار الإلهية في المسيحية.
وفي حين كان هناك نزوع إسلامي حقيقي إلى التواصل مع المحطات المضيئة، المطفأة لاحقًا، (بداية العصر السلجوقي)، في تراث المسلمين وتاريخهم، الذي بلغ فيه المسلمون ذروة حيويتهم العلمية في العصر العباسي الأول، عندما تحول العلماء المسلمون بالشراكة مع اليهود والنصارى والمجوس والهندوس والصابئة إلى ورشة إنتاج علمي متعدد الحقول، وأسسوا لمسيرة تكامل بين العلماء وبين حقول المعرفة المتعددة، لتأتي حركة الترجمة في عهد المأمون توسعة للنصاب العلمي الكوني الجامع بين العلوم وبين العلماء من سائر الملل والأديان تعزيزًا أو ترسيخًا وتفعيلاً للمشترك التوحيدي، وتكريسًا للتوحيد كباعث على معاقرة الحياة وتجديدها وبنائها على المعرفة، متبادلة ومتداولة من دون حدود، على أساس أن الحقيقة لا تقبل الحصر والاحتكار، وأنها مركبة لا يتحصّل أي طرف على مقدار وافٍ منها إلا بالمشاركة.
هذه المحطات حفلت بسعي دائب لترجيح العقل، لا على الدين بل من أجله ومن خلاله أيضًا... ولكن حركة الاستعمار والاستحواذ القائمة على افتعال فلسفي يحصر احتمالات الحركة في حيز جغرافي غربي، ويرى الشرق مكانًا للثابت، ما يعني أن هناك أعلى وأدنى، ويرتب للأعلى على الأدنى حق الاستخدام في حدود حاجة الأعلى. هذه الحركة التي يمكن اعتبارها نموذجًا حقيقيًا وفعليًا للعولمة بالمعنى الأبعد من الانتشار أو النشر الديني العقدي الذي يحلو لكثيرين أن يعتبروه علمنة سابقة على العولمة استدعت استنفارًا أيديولوجيًا من قبل المسلمين، أو الإسلاميين، وأسهمت في جعل العقلانية كمطلب وحلّ، تهبط في سلم أولوياتهم إلى الدرجة الأدنى. لقد استحوذت عليهم في الواقع مشاغل الحفاظ على سلامة الوجود بعيدًا عن كمالاته. هكذا إذن كان من ثمرات النهضة والحداثة في كنف الاستعمار، أن ذهب المسلمون في اتجاه مجافاة العلم والعقل من أجل الحياة بمعناها البيولوجي شبه الحصري، ما نخشاه الآن، وذهب المسيحيون في العلم والعقل إلى حد إلغاء العلم والعقل وإعادة إنتاج الدين على مقتضى الهيمنة والإلغاء على حساب المسيحية مرة، وتحت عباءتها مرة، وفي وجهها مرة ثالثة.

جدل العولمي
هذه المقدمة الطويلة قدمتها على أساس أن العولمة الجارية، وفي حدود ما تحقق من مشهدها الكوني، هي حادث علمي أصلاً. غير أن البعد الاستقبالي فيه يتفوق نوعيًا على ماضويته، أي أنه في النهاية هو الصيغة المرنة لمستقبل هذا الكون وكائنيه وكائناته... وقدمتها لأقول إن الإسلاميين قد شرعوا، منذ أن كشفت لهم أدبيات الغرب عن واقعة جارية منذ نهاية الحرب الكونية الثانية على الأقل، وعلى إيقاع أمريكي متدرج في ارتفاع جرْسه، أعني (العولمة) (مشروع مارشال)، شرعوا في استشعار المخاطر والدعوة إلى اكتساب وتحصيل اللياقات اللازمة لتفادي وعيدها (أي العولمة)، مع هامش لإمكان تأهيل «الأمة؟» لوعودها، أي منافعها المحتملة. وفي ذروة دهشتهم واستنكارهم وإدانتهم للعولمة، عادوا إلى عادتهم في الاستدلال على أن الإسلام «عولمي»، مستندين إلى نصوص وحراكات تاريخية تفيد بأن الإسلام يحمل مشروعًا عقائديًا ذا أفق عالمي. ومع دعوتنا إلى نقاش ما تشتمل عليه هذه الفرضية محمّلة برغبات هيمنة على الرسالة الإسلامية وأطروحاتها، فإننا نذكّر بأن موقعة تاريخية، كما هي المسيحية في أمريكا اللاتينية واسكندنافيا، رُفعت إلى أعلى درجاتها لتحول إلى غطاء لعملية لا تتميز كثيرًا عن العملية الاستعمارية الحديثة في الغرب، وكان لها بُعد إمبراطوري، بما تعني الإمبراطورية من عنف في الخارج يحطم كل شيء ولا ينعكس في الداخل إلا مزيدًا من الجور وتنمية الفوارق الطبقية الحادة، حاضنة التخلف والعنف، ما يجعل الاعتراض على البعد الإمبراطوري الأمريكي في مسار العولمة الراهنة أمرًا انتقائيًا مثقوبًا... هذا في حين أن العولمة في صورتها المستمرة في تشكلها، ربما كانت تقوم في أساسها على «اللاعقائدية» مع علامات في الألفية الثالثة تدل على أن الزمن الآتي هو زمن الدين في حضن العولمة، أي الدين الفرداني المفتوح على اللادين، أي إلغاء أو حلّ التناقض بين أي أطروحة دينية وما يفترض أنه نقيضها... (عبّاد الشيطان مثلاً)، من دون أن يعني ذلك صواب اتهامها (أي العولمة) باللاثقافة، وهو تبسيط أو تسطيح يكشف نية في الهروب، أو عجزًا عن مواجهة الحقائق. غاية الأمر أن الثقافة الموعودة والعتيدة، كما نرى في مقدماتها وتباشيرها، هي ثقافة الحرية في اختراق العقيدة إلى ما بعدها... بعد الحداثة. إن هذا الاتهام ربما كان يأتي من نزوع تعسفي إلى المماهاة والمساواة بين العقيدة والثقافة، بمعنى الحكم أن ليس هناك ثقافة بعيدًا عن العقيدة، ما يؤدي عمليًا إلى حال من العقيدة بلا ثقافة، وخاصة عندما يكون شرط الثقافة التعدد والمشاركة التي لا تتم إلا بالاعتراف بالآخر، ما ينافي أو يناقض الاختزال العقائدي.
وهذا المرض ليس مقصورًا على أهل دين بعينه، بل يعمّ أهل الأديان، وإن كان يصبح عضالاً في أهل الأديان الثلاثة، ويبلغ ذروة استيلائه على المسلك اليهودي، ويتردد باستمرار على المسلك المسيحي، ويحاول أن يقيم في المسلك الإسلامي.
إذن فالعولمة المساوقة لما بعد الحداثة، أي تقويض أو نقض المنظومات المعيارية، بعدما كانت الحداثة نقدًا أو قلبًا لهذه المنظومات... العولمة إذن، ليست حالة لا ثقافية، ولا حتى لا دينية... وإذا ما كان التفتيت هو المناط الذي يستند إليه المتدينون المرتابون بالعولمة، فإنه ليس مما يترتب على العولمة أو يتأسس عليها، بل ربما كانت هي التي تترتب أو تتأسس عليه من جهة ما... ومن مستوى الأمة، التي لم تعد مفهومًا ناجزًا، سواء أكانت في الماضي ناجزة أم كانت وهمًا أو هوّامة، وهي (الأمة) كأطروحة غامضة أو مختلقة، تحولت إلى سدادة حضارية، لم تنجز ذاتها بذاتها، لأن ذلك محال، ولم تنجز ذاتها بالتواصل مع الآخر، لأنها استقرت على هاجس التمايز عن الآخر، ولو افتعالاً للفوارق، إلى مستوى الدولة التي لا يتعامل معها الدين، وهو غير المتديّنين، وبصرف النظر عن المعرفة الأصولية السياسية بالدين، التي لا يتعامل معها إلا في حدود كونها ضرورة اجتماع، تقدّر بظروفها ومقدارها، وظروف الدولة المؤدية إلى  مزيد من تقليص أو تقلّص دورها بناء على اتساع مساحة الشأن العام وتزايد تعقيدات قصور الدولة عن رعايته، فضلاً عن تقصيرها، ما يعني أن المجتمع الأهلي والمدني لابد أن ينهض لرعاية شؤونه ومن هذه الشؤون إعادة إنتاج دولته بحيوية تداولية محكومة بحدود الحاجة إلى الدولة، ولكن على أي أساس؟ إن هذه المفارقة العظمى تأتي مترافقة مع اكتمال جاهزية الفرد للعودة إلى فرادته، أي أن الشخصية المعنوية، شخصية الجماعة، الدينية أو المذهبية أو الحزبية أو السلالية أو الوطنية أو الجهوية، هي إما إلى انحلال، وإما العودة إلى حالة سيّالة قد تتولد من جريانها، على موجب الفرادة، شخصية معنوية مختلفة أصلاً وفصلاً عن سالفتها (لعل التجربة الديمقراطية في السياسة هي الأشد طموحًا إلى بلورة هذا المآل إذا ما استطاعت الجماعة السياسية المتكوّنة على مقتضاها أن تتكون سليمة من عاهة الاختزال والمصادرة). ومن هنا، فإن الخوف على الناظم الأسري من كسارة العولمة، مثلاً، والخوف على الأخلاق والعمران تبعًا له، حريّ أن يكون خوفًا على الماضي وليس خوفًا من المستقبل فقط، لأن تفتت الأسرة كوحدة أصلية جامعة، أمر جارٍ منذ زمان بعيد، والمستقبل القريب الآخذ بالتشكل مع تشكّل القرية الكونية، ليس إلا توقيعًا على هذه الوثيقة. لقد كان الدين عظيمًا عندما حافظ على صيانة التماسك الأسري ووضع صلة الرحم في موقع موازٍ للصلاة والصراط، من دون قدرة على الإنكار بأن هذا التماسك، مع مزيد من التحضر، هو إلى انفكاكات متدرجة، من هنا كان يحث على الحيطة من جهة، ويميل إلى ما يقي لُحمة الأفكار والقيم من الرخاوة من جهة أخرى، أي نبذ عصبية الدم والعرق والحضّ على التحضّر، والتركيز على الأخلاق والإيمان والتقوى كجوامع، أو نواظم، ألا يعني هذا أن الفردية والفردانية، كانتا مسلمتين معرفيتين في نظام المعرفة الدينية؟ ألا ينهض الدين في هذا المجال، كمعرفة مسبقة بالتكوين والسيرورة، لينهض العلم كمعرفة بالواقع أو الوقائع المترتبة على هذه السيرورة؟ إذن، فالعولمة المتأتية من العلم أولاً، ودعونا من النوايا والطوايا، ليست مشروعًا، بقدر ما هي حالة جارية، تتحمل مشروعات حافلة باحتمالات السلب واحتمالات الإيجاب معًا، بالخير والشر، بالمفيد والضارّ، بالدين واللادين، فهل هي خطر على الدين أو هي مشروع نقض له؟
لا ننسَ أن الجرافة الشيوعية كانت متقنة، وذهبت بعيدًا في سعيها إلى اجتثاث الدين، ولكنها عادت فانجرفت بعدما تفككت، يبدو أن المشهد الملموس لا يكفي كمحدد نهائي لكيان هذا الإنسان، على أنه كيان سرّي ندركه أحيانًا ولا نستطيع تعريفه، هو السر الذي تتحقق فيه الذات ذاتيًا، أي من دون ترسيم أرسطويّ أو ماركسيّ أو دينيّ رسميّ، وهو السر الذي يأتي منه الدين ويذهب إليه، ويسمّيه القرآن الكريم الفطرة، أي المعرفة المباشرة والمطابقة، هنا سقطت التجربة الشيوعية، وإذا ما عدنا إلى منظومة تراثنا وأفكارنا وقيمنا الدينية، نجد أن حجر الزاوية فيها هو مسألة الخلاص، وهي مسألة فطرية بما هي فردية، وفردية بما هي فطرية، أي أنها تكمن في فرادة الشخص وهو يرتّبها بسلوكه، على فعله ونيته أولاً وأخيرًا، أي على مصدرين متكافئين في المعرفة والعمل (العقل والقلب). والجماعة لا تعدو أن تكون مكانًا من أمكنة هذا الفرد ومدى حيويًا لفرادته. تنشّط، لا تؤسس، نوازع الخير والشر لدى الأفراد أو تعيقها. إذن، فالمسؤولية فردية والخلاص فردي والجماعة لا تخلص، وإلا تساوى الحق والباطل، والجهل والعلم، ولم يبق لأحد أن يعترض على دين الآخر. فالاعتراض المنطقي هو على التديّن، أي على الحياة بالدين، أي الإحياء بالدين، لأن الفداء والشهادة والإماتة والإيثار... كلها تلقى ترغيبًا دينيًا بلحاظ غيريتها، أي تحول الموت إلى حياة، لا تحويل الحياة إلى موت، فإذا ما كانت العولمة، على مقتضى العلم، تفريدًا، أي تفكيكًا للنواظم، فهذا لا يعني أنها تقويض للدين أو بديل له، بل ربما كانت المحطة الأعظم والأعقد إشكالية في إعادة الدين إلى مصافه، إلى الفردية، إلى الفرادة التي هي علامة المتدين الذي يسمع ويعقل المأثور: تتعدد الطرق إلى الخالق بتعدد أنفاس الخلق.
ولكن ألا يمكن لهذا التفريد العولمي، على موجب القوة والضعف بين شعب وشعب، أو دولة ودولة، أو قارة وقارة، بين الشرق والغرب، أو الشمال والجنوب، أن يكون مدخلاً استقوائيًا، بما هو الاستقواء مناط للإلغاء، أي استخدام القوة ضد الأفراد الذين لا يعود بإمكانهم، وهم ممنوعون حتى الإعاقة عن تشكيل حالهم مدنيًا، لا يعود بإمكانهم، بسبب العنف والاستلاب وغياب النواظم الجامعة، أن يتضامنوا ضد المخاطر، ضد الفقر والجوع والجهل والموت والاستبداد وغياب المعنى واختزال المعرفة والثقافة، بالمسطحات والسلع السهلة؟ كل ذلك وارد، وهناك أدلة على أنه قادم، من دون أن يعني ذلك أنه قدر، أو أنه بكامله قدر، أي أن العولمة بمعناها الأمريكي الراهن وغير المتفق عليه غربيًا أو أمريكيًا إلا في حدود الإذعان للأقوى، ليست قدرًا مقدورًا، ولكن هناك شروطًا للتخفيف من إمكان تحوّلها أو تحويلها إلى قدر مقدور، هي الشروط الذاتية الظاهرة والكامنة والمعطلة في بنية الخائفين أو المستهدفين، ونحن، عربًا ومسلمين، في طليعتهم. إذن، فلابد من تفعيل الشروط الذاتية الواجب تحقيقها لدى الأطراف الضعيفة عمومًا، والآيلة إلى تجديد الرهن عليها إن لم تنهض، واستلحاقها بالمفرد والجملة هذه المرة. ومن دون تحقيق هذه الشروط، فإن الموت البطيء، والذي يتسارع، سيكون في انتظارنا. وإذا ما كان الموت السريري أكثر كلفة من الموت الناجز، فكيف نحيا؟
هنا أجدني مضطرًا إلى التركيز حذر التكرار... إننا، مسلمين ومسيحيين، شرقيين وغربيين، شمالاً وجنوبًا، مدعوون إلى إعادة اللُحمة الحيوية الجدلية والرحبة بين نظام معرفتنا ونظام حياتنا وعلائقنا وعملنا وسياستنا، طبعًا بعد تحرير نظام معرفتنا من أعطاب إعاقات اللامعرفة التي تمظهرت معرفيًا، كمعرفة (استبعاد العقل أو استخدامه في اللامعقول)، أي أننا مدعوون إلى إبداع نظام معرفي على شرط الحرية، وفي سياق المنشود هناك مكان للذاكرة المنقاة من الدغل، ومكان للموروثات الجميلة وللمنجزات الحضارية التي تستهلك بالاستذكار وتنمو بالاستشراف، وبشرط ألا تتحوّل الحرية إلى مقام الاستمتاع والمؤانسة واستنفاد السؤال بالمواربة، أي بشرط الديمقراطية، وبشرط ألا تكون الديمقراطية مقصورة على مقام السياسة، بل أن يتاح للسياسة أن تجد ضماناتها في تمديد الديمقراطية إلى الشأن الاجتماعي، أي بشرط ألا تكون الديمقراطية ذريعة إلى نقيضها، وألا تكون تعميمًا قاتلاً مقتولاً عندما ترجح الأعداد على الأنواع... وهنا قد نصبح بمنجاة من أن يتحول هاجس الهوية، المشروط بالآخر وعيًا ووجودًا دائمًا على المستجد، أي غير النمطي أو الخطي، إلى شعار ملتهب يحرق المعرفة والحياة وأنظمة العلائق وأدوات التحليل.
هنا بالذات تكمن سلامة الدين كشرط إلهي وإنساني سامٍ يغري بالتسامي ويكافئ عليه بحفظ كرامتنا في الدين كمكون وازن ومشترك جامع وباعث على الحياة بالعلم والعمل. ضماننا إذن في الدين فينا، أن نحرر مساحته الشاسعة والخصبة، في الذات والموضوع، من مخاطر إلغائه عندما يصبح سياسة أو نظامًا بشريًا، ولا أحط هنا من قدر النظام البشري، لأن تحويل الدين، وغايته البشر بضمانة السماء، إلى نظام بشري، بمعنى إخلائه من لمسات الدين، هو حط من قدر الدين ودوره وقدر البشر ورغبتهم المشروعة بالحياة في الدنيا والآخرة.
والمعادل الآخر، السلبي، لهذا المسلك المدمّر، هو تحويل السياسة إلى دين، أي تسليط وتحكيم المتغير بالثابت والثابت بالمتغير، أي تبديد النظام بالملابسة والشبهة بين المتغير والثابت، بين الإلهي والإنساني، بين المقدس والتاريخي، بين المطلق والنسبي، بين الوحدة والتعدد أو تعطيل الجدل الجميل والمبدع والعميق بين الثابت والمتغير إلى قطيعة وتناقض وفقر معرفي مدقع... عولمة؟؟ حسنًا... ولكن لماذا الخوف على الله، والأولى أن نخاف على أنفسنا من أنفسنا ومن الله؟
إن الاضطراب المفهومي أو النظري، لا يتأتى إلا من أسطرة النوازل، أي تحويل المتحرك إلى ساكن، ومن هنا تأتي الخطورة في أدلجة العولمة، الإشكالية دون شك، ولكن أدلجتها تحولها إلى فالج لا يعالج... والسؤال الأصعب أو الأسهل هو السؤال عما إذا كان الدين سابقًا على الحياة أو لاحقًا عليها؟ هل هو الذي اخترع هذه الحياة بكل تعقيداتها وتحدياتها وسؤالاتها وجمالاتها؟ أو إنه قدّم مفاتيح لبواباتها ومعارفها وتكييفاتها والتكيّفات معها، وفتح نوافذها على المحتمل والمتوقع والمرجو؟ لو كانت الحياة، من المنظور الديني، تستقيم من دون دين، أكان الدين يرقى إلى هذا المستوى من البداهة، أي الضرورة؟ على أني لا أرذل الحياة على هناتها وعلاتها وهي جميلة إلى حد القداسة. وقداسة الدين تأتي في ما تأتي من تقديسه للحياة. والسؤال المخفي أو الخفي هو أي دين؟
«جان جاك روسو» اقترح دين الفطرة، والصوفي اقترح الدين المتعالي، وعلى أي حال، فالدين الضروري والناجع والجميل هو الدين غير المستعلي، والدين يستعلي عندما يتموضع في التاريخ من خلال أفراد وجماعات يأتون إليه من خارج غائياته الإنسانية وشروطه في الحرية.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} (42/ الأنفال). إذن فالحياة شرط الدين دائمًا... هذه مسلمة... فكيف نجعل، أو لا نمنع أن يبقى الدين شرطًا للحياة؟
هذا السؤال يُلح الآن أمام استشراء القتل والقتل المضاد بالدين المضاد أو المذهب المضاد... مع ما يلزم من مدارك ووقائع ماضية، تجعل الحالمين بالسلام والأمن والحرية والتقدم والعدالة والروح، الخائفين على يومهم وغدهم وأولادهم وأحفادهم وأوطانهم وأرواحهم وأديانهم وأجسادهم، وكل شيء أو معنى يتعلق بهم، تجعلهم يعانون صعوبة شديدة، وإلى مزيد من الشدة، في إثبات الشق الثاني من المعادلة - أي شرطية الحياة للدين - وقد يصل الشعور بالصعوبة إلى فرضية إثبات الشق الأول وهو شرطية الدين للحياة... والله وحده هو المستعاذ من شر هذا المنقلب البائس ■