أزمة المجاز في «النازلون على الريح» للشاعر محمد علي شمس الدين

أزمة المجاز في «النازلون على الريح» للشاعر محمد علي شمس الدين

كنت ومازلت أعتقد أن صدور مجموعة شعرية لشاعر كبير كمحمد علي شمس الدين هو بالنسبة إليّ حدث ثقافي يستحق وردة المحبة والتقدير، وكنت ومازلت أعتقد أيضًا أن إراقة قطرة من الضوء تقع في صميم العمل الشعري إنما هي الوردة الأبقى والأجمل، والتي ربما أتيح لها ألا تذبل ما إذا كانت باعثة على إطلاع مزيد من الورد في مزيد من الدراسات التي قد ترى ما ترى في ضوء تلك القطرة.

 

على ذلك أراني ذاهبًا مباشرة إلى قلب هذه المجموعة الشعرية، لأقول إن سر «النازلون على الريح» - في ما رأيت - كامن في النصوص الأربعة التي جاءت معنونة بـ «مجاز» 1، 2، 3، 4، وأقول: إن نصوص المجموعة الشعرية جميعها تدور في مدار أدعوه بأزمة المجاز عند محمد علي شمس الدين في هذه المجموعة.
المجاز معبر للعبور، والمعبر والعبارة من جذر لغوي واحد، فكل عبارة مجاز على نحو ما. وقد استقر القدماء على أنه لابد من قرينة من الحقيقي في المجاز، ليجيزوا لك أن تجوز إلى خيال يقول الحقيقة، ولكن ليس هنا بل هناك. وذهب النقد الحديث إلى أبعد من ذلك حين كشف في الأنساق التصورية للغة عن عالم مشتبك ومتشابك من الاستعارات حدَّ عنونة أحد أهم كتبه في هذا المجال بعنوان «الاستعارات التي نحيا بها» - جورج لايكوف ومارت جونسن. فما طبيعة الأزمة التي ادعيتها في هذه
 المجموعة الشعرية؟ لأدع النصوص تفصح عنها.
يقول محمد علي شمس الدين في مجاز (1):
«كأنما الوجود واضحٌ
كحبة المطرْ
وقاطعٌ كالسيف أو كالحقّ
فهذه الرياح لا تبكي على أحد
وهذه الغيوم لا تحنو على القتيل
وكل ما في الأمر أننا
نريد ما نقول
ولا نقول ما نريد».
الحقيقي واضح وضوحًا صارمًا في الأسطر الخمسة الأولى من النص، وهو يتمتع بحيادية فادحة، ولكن المشكلة تتموضع في الاستدراك الذي تضمنته الأسطر الثلاثة الأخيرة.
فإذا كان وضوح الحق وصرامته وحياديته مقدمة أولى، وإذا كانت الإشكالية تربط ما بينهما، وأراها في نص غائب وملتبس، هو بمنزلة مقدمة ثانية، مفادها: نحن القائلون أو القوالون من جملة هذا الحقيقي الواضح الصارم الحيادي، وعليه فإن القول الذي يبدو صادرًا عنا إنما هو قول مقول حكمًا، ونحن لا نعدو مدعين لإرادة القول، «نحن لا نقول ما نريد».
فمن أين إلى أين تجوز العبارة؟ ما أراها والحالة هذه إلا أنها تجوز منها إليها. الأمر الذي يعلن إلغاء المجاز، ويميط اللثام عن أحد أوجه هذه الأزمة.
طبعًا يستطيع قارئ آخر من مجال معرفي آخر هو علم الكلام أن يُلحق هذا الوجه من أوجه الأزمة بقضية المشيئة الإلهية والأمر الإلهي، التي تحدرت في الأساس مما أدعوه بالقضية الإبليسية التي تبناها الحلاج في «الطواسين» حتى الموت، والتي وقف دونها ابن عربي في مقام الحيرة، بينما صرفها علماء التوحيد إلى جدل ينطوي على تسليمات كثيرة.
أوردت هذه الإشارة إلى ما يمكن أن يشتقه علم الكلام من النص، قاصدًا أن أقول: إن ما يتبدى وجهًا لأزمة قول أو عبارة أو مجاز إنما يمتُّ بجذر عميق إلى مشكلة وجودية.
مجاز (2):
وحينما جلا الغبار عن جبينه
عرفته
وكنت قد طردته
لكي أعيش وحدتي كما أشاء
وها هو الغريب عاد كي يرد لي أمانتي
وكي يعيدني إلى الرصيف هائًما مشردًا
رأيتهُ
رأيتهُ غدًا
يدور وحده بلا صديق
وكنت مثله
أدور وحدي هائمًا على الطريق
وبيننا يقول عندليب الدار
غرائب الأشعار
بثلاث نقاط تسبق السطر الأول من النص يتابع الشاعر كلامًا سابقًا مفتتحًا بحدث «وحينما جلا الغبار عن جبينه عرفته» وإذا به الغريب بين رؤيتين: رأيته في السطر السابع، ورأيته غدًا في السطر الثامن. ثمة مجاز في الرؤية المفترض أنه زمني ما بين الماضي والمستقبل.
في الأسطر 9، 10، 11:
يدور وحده بلا صديق
وكنت مثله
أدور وحدي هائمًا على الطريق.
هنا مجاز آخر بين شخص (الغريب)، وبين الشخص الباثّ، يعبر على السطر العاشر بينهما: «وكنت مثله». هذا معبر شكلي مادام العابر والمعبور إليه متماثلين، ولكنه معبر ليس شكليًا أبدًا بوصفه طارحًا لوجه الأزمة الأول في المجاز (1)، ألا وهو إلغاء المجاز.
السطران الأخيران:
وبيننا يقول عندليب الدار
غرائب الأشعار
مثلما ألغى شمس الدين المجاز بينه وبين غريب الدار، نراه هنا يلغيهما معًا، فلا الغريب ولا أنا - ونحن متماثلان تمامًا - هو الذي يقول. الذي يقول هو عندليب الدار، القائل الذي يذكرنا انفصاله عن الباث ومثيله بـ «نريد ما نقول ولا نقول ما نريد» في المجاز (1).
إذًا ليس هناك إلا أغنية الغربة لعندليب ليس هو بالغريب، وإنما هو عندليب الدار. الغربة هنا... الغربة بلا أي رحيل... بلا أي مجاز... نحن في المجاز نفسه (الغربة).
ومرة أخرى ترتبط أزمة مجاز القول ببعد وجودي، فثمة تأكيد على إلغاء المجاز وثمة وحشة مستتبة وقد زال وهم الرحيل والانتقال.
مجاز (3):
وجدت على حافة النهر وجه القمرْ
مريضًا وأصفر كالزعفران
فقلت أواسيه كي لا يغيب
وقلت أسليه كي لا يُجَن
وقلت أحدثه بالذي بيننا
فقد كنت وحدي بلا صاحب أو سكن
وقلت له: يا أخي وحبيبي
سلامة عينيك من أن يصابا بخيط من الحزن
كفيك من رجفة
حين تصحو الشياطين من وكرها
والصواري تسافر عكس الزمنْ
وحين رأيت حروفي
تدور على نفسها بالرحى
وناب الأفاعي يمزق حتى الكفن
سكتُّ
وأدركت أني أكلم نفسي
ويضحك مني المجاز.
لن يرى القمر... «وجدت على حافة النهر وجه القمر»، فهو صورته أو خياله. والمواساة تكون لمن هو بمنزلة أخ أو حبيب في السطر 7، بينما في السطر 6 «فقد كنت وحدي بلا صاحب أو سكن». فما أسهل والحال هذه أن نرى في تلك الصورة للقمر على حافة النهر صورة وجه الشاعر، وهنا يكون قد ألغى الطرف الآخر بين المتماثلين، كما ألغى الطرف الآخر بين المتماثلين كما ألغى في المجاز السابق بين الغريب والشاعر، فلا عجب أن يصرح في الأسطر 12، 13، 14، بأن حروفه تدور على نفسها مركوسة في نفسها. وبصورة مرعبة «وناب الأفاعي يمزق حتى الكفن» يكشف الشاعر عن الميت بين المتحاورين، وهنا لا يبقى إلى أن يسكت:
سكتُّ
وأدركت أني أكلم نفسي
ويضحك مني المجاز.
لا آخر إذًا، فلا مجاز. فلمن القول وإلى من يوجه؟ مأساة مضحكة، أو ضحك مؤس، لا فرق.
أضاف هذا النص إلى الوجهين السابقين: إلغاء المجاز وغربة القول، وجهًا ثالثًا هو الموت القابع في المسافة الموهومة بين الشاعر وآخره. وهنا أيضًا عطف الشاعر هذا الوجه من وجوه الأزمة البلاغية أو ردّه - بتعبير أدق - إلى أزمة وجودية هي الموت.

مجاز (4):
نعيش غربتين: غربة المجاز حينما يضيع في الحقيقة
وغربة الحقيقة التي تضيع في المجاز
كأنما الإعجاز أن تظلّ صامتًا
وأن يدير ملكك الخدم.
صحيح أنهما غربتان، ولكن المعنى منطقيًا يحيل إلى غربة واحدة، فالمجاز مرة أخرى ملغى.
وإذا كانت لك ثمة بلاغة بعد ذلك - البلاغة التي انصبت معظم جهودها في تراثنا على مسألة الإعجاز - فهي لن تكون بالكلام، وإنما بنقيضه، الصمت.
الصمت المتعالي الذي يمكن أن يسعف بإزاء ما سبق من وجوه الأزمة. الصمت الملك.
وإذا كان هناك كلام فهو لخدمة الذين لم يدركوا بعد وحشة أزمته ووحدته وغربته وموته، لهم أن يصرّفوا القول كما يشاؤون.
تلك هي أزمة المجاز بوجوهها المتعددة في النصوص الأربعة هذه، وتلكم هي الأبعاد الوجودية القارة وراءها، والتي أدعي أن من معطفها خرجت هذه المجموعة الشعرية... ولكن هذا نصف الطريق الذي تتيح تقديمه ربع الساعة المتاحة في هذا اللقاء، ويبقى إثبات صحة هذا الادعاء مرهونًا برصد تغلغل هذه الأزمة في نصوص هذه المجموعة كلها، وهي كذلك في ما أرى.
فما قدمته هنا هو عبارة عن مفتاح، وما على القارئ إلا أن يجرب هو بنفسه ما إذا كان يصلح لإقفال القصائد كلها في هذه المجموعة. ولا بأس في أن أقارب مثالاً واحدًا لتعزيز الادعاء وهو قصيدة «رحل القطار»:
«رحل القطار وأنت فيه
فكيف لم تبرح مكانك في المحطة واقفًا
وتجيل طرفك مرة نحو الطريق ومرة
نحو الحقائب وهي مثلك جمَّعت أشلاءها
ومضتْ
فهل رحل القطار؟
أم أن رؤياك التي أبصرتها في الليل
ما اكتملت فعاجلها النهار؟
وأراك في ضدين يقتسمان قلبك فاسترحْ
يا أيُّها الولد الشقي لعلها فوضى
ومحضُ خديعةٍ
ولعلَّ شيئًا ما هنالك لم يكنْ
لا أنت
لا السفر الطويل
ولا القطار».
كل ما أسلفت من وجوه أزمة المجاز ماثل في هذا النص... ألغى الرحلة... ألغى المسافر... ألغى القطار.
ألغى المجاز وعناصره الأخرى جميعًا وتركنا لنحدق في هاوية العدم.
لمَ حدث ذلك؟ سؤال يحتاج إلى مزيد تأمل، وربما يكون في سرد موجز هذه القصة إشارة إلى شيء منه.
في قصة له ، يحكي أوسكار وايلد، عن رجل كان يهبط كل يوم من قريته النائية إلى شاطئ البحر، ويعود ليجد أهل قريته ينتظرونه ليروي لهم ماذا رأى، وكان يحكي لهم كلّ ما كان يجول في باله وخياله من عجائب البحر... استمرّ هذا زمنًا طويلاً.
وفي مرة رأى هذا الرجل حقيقة كل ما كان يتحدث به إلى أهل قريته: حوريات البحر، وعرائس الأمواج، وساحرات الزبد... إلخ، فلبث مذهولاً مدة، وعاد متأخرًا إلى أهل قريته الذين هرعوا إليه متلهفين لسماعه:
- ماذا رأيت اليوم؟ ماذا رأيت؟
صمت الرجل... صمت طويلاً وهو يحدق فيهم وقال:
- اليوم؟ اليــوم لم أرَ شيئًا... لم أر شيئًا أبدًا ■