الفضاءُ الروائيُّ... معضلةُ الكاتبِ العربيِّ في الغربِ

الفضاءُ الروائيُّ...  معضلةُ الكاتبِ العربيِّ في الغربِ

أخرج في الصباح خلال جولتي التقليدية في الحي، شراء الخبز، الصحف، بعض التسوق من المخزن المجاور، محل إيف روشيه الذي أقتني منه مواد تجميلي بأسعار مخفضة بسبب اشتراكي... أتحدث مع جميع الذين ألتقيهم باللغة الفرنسية، وأغلبهم فرنسيون، أو أجانب يعيشون في فرنسا ومندمجون فيها ويتحدثون لغتها.


أفتح عالمي للكتابة، تلوح لي شخصياتي من بعيد، تطالبني بتدوينها. البارحة مثلًا، ثمة امرأة دخلت رأسي، وظلت تؤرقني، وأنا أحاول إقناعها بالانتظار حتى الصباح، نمت وهي تطاردني، وجعلتني أحلم بها، شخصية لحوحة. ما إن أفقت في الصباح، حتى أخذت معي ورقة الملاحظات التي دونتها في سريري قبل النوم، رحت أراجعها وأنا بين اليقظة والنوم، أعد قهوتي، وأحاول التعرف على سيدة الأمس. الشخصية الطازجة التي لم أتعرف عليها تمامًا بعد، والتي عليّ فقط فتح حاسوبي والبدء بالكتابة، على ضوء الملاحظات الليلية، حتى تمنحني تلك المرأة نفسها، وتتكشف شخصيتها أمامي.
امرأة تفيق مبكرًا، تذهب لشراء الصحف والخبز، ثم تعود لتحضير القهوة، والاستعداد لنهارها.
لا أعرف اسمها بعد، ولم أصل إليها، لأنني بدأت بالكتابة عن أمها. وما إن وصلت إلى عبارة «حين ذهبت إلى الحفل بذلك الثوب الرث وهناك التقت بـ..»، حتى توقفت عن الكتابة، لأتساءل عن اسم حبيب الأم، هل هو باسكال أو روبيرتو أو كاظم أو عزيز أو...
قبل أن أجيب عن سؤال اسم الرجل، عليّ أن أعرف أين يعيش هؤلاء، أين تجري أحداث القصة؟ فهل أجعل بطلتي تعيش في فرنسا، حيث أعيش الآن، وحيث تتقاطع بعض همومنا، أو عليّ أن آخذها إلى بلد عربي، لأنني أكتب باللغة العربية؟
إذا جعلتها تعيش مثلي في أوربا، وهي مثلي من أصول شرقية، فسوف أدخل مجددًا في تقاطع الهويات والأمكنة، وقد كتبت هذا في روايتي «حبل سري»، حيث أعاني غالبًا ازدواجية المكان. عليّ إذن إيجاد طريقة أخرى. وإذا تحدثت عن امرأة فرنسية خالصة، فإنني لن أتقن رسم شخصيتها، لأنني لست مهجوسة بها، ولاأزال محكومة بهواجس العالم العربي. إضافة إلى أنني حين أكتب عن امرأة  تدعى فلوريكا، أو ساندرا، أو تيفاني، فهذا يعني أنني سأكتب قصة شبه مترجمة بالنسبة للقارئ العربي الذي سيقرأني، حيث أكتب باللغة العربية، كما قلت للتو.
أما إذا دعوت بطلتي صباح أو فاطمة أو زهرة أو... وتعيش في سورية أو في مصر أو في لبنان، فعليّ التنقيب عن جميع تفاصيل المكان والعادات في ذلك البلد.
فإن كانت بطلتي تذهب لشراء الخبز في السابعة صباحًا وتمر على محل الصحف، فعليّ الانتباه في ما لو كان في ذلك الحي الشعبي الذي أتحدث عنه، في البلد العربي، بائع صحف يفتتح محله مبكرًا، في موعد افتتاح المخبز، الذي  يوفر الخبز الطازج بسهولة، دون أن أتذكر أن بطلتي  قد تتعرض للانتظار في دور طويل، أو تتعرض لتحرش لفظي، فأخرج من سياق الحكاية المرسومة في رأسي، عن امرأة جاءت بملامح يومياتي إلى حد ما، تذهب بالبيجامة اللائقة للشارع، لشراء الخبز، دون أن تهتم بالاعتناء بمظهرها الخارجي، حتى لو كان ضوء الصباح لم يطلع بعد في فرنسا، فإن شخصيتي ستخرج وتعود بأمان، مسقطة همّ الشارع وجحيم الآخرين إلى حد كبير من يومياتها، تكفيني جملة واحدة، لتذهب وتعود إلى البيت.
كل هذه المقدمة، أحاول أن أصف فيها الإرباكات المكانية التي يتعرض لها الكاتب العربي في بلد أجنبي. كاتب يريد أن يتخلص من سطوة المكان الحالي عليه، المكان الواقعي، الذي لا يدخل في دائرة هاجسه الإبداعي. سأشرح أيضًا، مع لفت الانتباه إلى أن الرواية لا تأتي كاملة إلى عالم الكاتب، بل تصل هكذا مقطّعة، على شكل ومضات، نتف من شخصيات، تلميحة من حدث، أي قطع صغيرة غير مكتملة، على الكاتب أن يشتغل عليها أثناء التدوين، كما يشتغل صاغة المجوهرات، أو النحّات، لتبدأ ملامح العمل بالظهور، هو قانون داخلي، تخلقه الرواية بذاتها، وأحيانًا دون تدخل الكاتب، وفي مرحلة متطورة من السرد. أعود إذن لوصف إرباكات المكان:
حين أتحدث عن لقاء عاطفي، أنسى أحيانًا، فأكتب ما إن لمحته من بعيد، حتى هرعت نحوه، وارتمت في حضنه، فاحتضن رأسها بين يديه بحنان، ثم تبادلا نظرة طويلة، وهمس لها... أو قبّلها... فأعود أدراجي وأراجع العبارات السابقة، لأن البطلة في حلب مثلًا، وهذا لا يحدث في الشارع، لن ترتمي على حضنه، حتى لو كان زوجها.
عليّ إذن التخلص من عاداتي البديهية هنا، في البلد الذي أعيش فيه، للتنبه إلى أن البطلة، إن ذهبت إلى شقة الحبيب، فقد يتصل الجيران بالشرطة.
وعلى العكس، حين أكتب عن البنت التي تتلفت حولها، خائفة من أن يراها أحد أقاربها أو معارفها، عليّ الانتباه، إلى فضائي الروائي دائمًا، النائس والمراوح بين فضاء واقعي أحياه، وفضاء متخيل أكتب داخله.
أما الفضاء المتخيل، فهو فضاء مألوف أيضًا، وليس مخترعًا، فأنا لن أكتب عن شارع لا أعرفه، أو مررت به فعلًا، في القاهرة أو بيروت أو حلب... ولكن المشكلة الجديدة التي يتعرض لها الكاتب العربي المقيم في الغرب، هي تبدلات الفضاء القديم، حيث يبدو وكأنه يكتب عن مدينة غير موجودة الآن.
في رواية «حبل سري» مثلًا، كتبت عن حلب التي لم أرها منذ أكثر من خمس سنوات أثناء تدوين الرواية، عن أمكنة لم تعد موجودة، واليوم، أصبح هاجس المكان الروائي أكثر جحيمية بالنسبة إلي، لأنني لم أعد أستطيع الكتابة عن أشخاص يعيشون في حلب، وسأقول فورًا لماذا، بعد أن أكمل عبارتي عن الجحيم، حيث إن هاجسي الأصلي هو ذلك العالم، الشخصيات التي مستني ولا تزال تمسني وتغويني الكتابة عنها: العالم العربي.
أما عن تفاقــــم جحيمي، فربما يعرف الكثيرون سببه الآن، حيث تخرّب المكان في حلب التي تشكل أرضية الفضاء الروائي لأغلب شخوصي. لن أستطيع اليوم كتابة أي رواية تجري أحداثها في حلب، لأن حلب انقلبت رأسًا على عقب، من حيث المكان، ومن حيث العادات.
لا أستطيع مثلًا الكتابة عن امرأة تخرج في الثامنة صباحًا إلى العمل (قاضية أو طبيبة أو أستاذة...)، تقود سيارتها في شارع فيصل أو حي المحافظة. إذ يجب أن أمرّ على خريطة الأحياء المحررة أو التابعة لسلطة النظام، وتتبع سير البطلة، عبر المحاور التي ستمر عليها والحواجز العسكرية، فضلاً عن مدى إمكان خروج سيدة تقود سيارتها في الصباح، في ظل القصف. إذن، عليّ أن أُدخل في الحكاية التي أرويها، والتي لا تتحدث عن الثورة أو الأوضاع العسكرية في سورية، حكاية ما يحدث، إذ من المستحيل روائيًا رواية حكاية مفصولة عن السياق المكاني. يجب أن أصف ولو بسطر واحد، أو جملة، أن ذلك الحدث يتم تحت القصف، أو التهديد بالقصف، أو الخوف من القصف أو...
إذن، لن أستطيع كتابة روايتي ضمن فضاء حلب، أو سورية بمجملها، حسنًا، لأدع البطلة تعيش في بيروت. 
ولكـــن إذا كانت بطلتي سورية، فسأدخل أيضا في إرباكات جديدة لتوضيح معالم امرأة سورية تعيش في بيروت، والدخول في قصص أخرى، ليست من ضمن قصتي الأساسية، سيفرضها المكان الروائي.
كنت أقول لأصدقائي الذين يرفضون فكرة ذهابي إلى سورية، في بداية القصف، وخاصة في حلب، مع بدء التفجيرات، أشرح لهم: روائيًا، أحتاج إلى الذهاب إلى هناك. مخيلتي الروائية تحتاج لمقارنة صورة المكان الحالي، مع صورة المكان الذي تركته، مع صورة المكان الذي أتخيله وفق الروايات والأخبار الواردة من هناك. أي عليّ التعرف بدقة على مكاني الروائي، وفصله عن المتوهم. كيف أكتب عبارة «خرج من المقهى»، في بلد صار ركام حجارة ربما على الأقل في مخيلتي، حيث المقهى لم يعد موجودًا، وحيث لا أحد يجرؤ على الذهاب إلى المقهى إن كان موجودًا، وحيث عليّ أن أكون هناك، لأعرف شكل المقهى الحالي، وإمكان وجوده أو عدمه؟
قد يعتقد البعض أنه ليس من الضرورة معرفة المكان الذي نكتب عنه. وهذا برأيي خطأ يمس بالمصداقية الروائية. سيقول لي البعض: لكن الرواية كذبة، فأجيب، نعم، ولكنها إتقان الكذب. نحن نكتب، نتخيل، نصنع، لكننا نصدّق ما نخترعه، ولهذا نؤمن بأن يصدّقنا القارئ، وهذا ما يصنع الصدق الروائي، حتى وإن كان متأتيًا من الكذب. فالرواية هي دقّة ومهارة صناعة الأكاذيب.
كتابة الرواية عن مكان لا نـــــعرفه، تشبه كتابة رسالة حب لامرأة نصف غرامنا بجمال عينيها، اللتين سمعنا عن جمالهما ممن حولنا، لكننا لم نحس بهذا الجمال بأنفسنا، ولم نختبره، هكذا هو فضاء الرواية، مجمّل، مُعاد التشكيل، مُخترع، مكذوب فيه، ولكنه يشبه دائمًا، مكانًا تعرفنا عليه واختبرناه، بذائقتنا الكتابية وحواسّنا الروائية الشخصية جدًا، الفردية حتى أسفل درجات السلم، حيث تعيش الشخصيات هناك، تنتظر يد الروائي، لتجلس في فضاء حقيقي، فضاء الرواية ■