الوحيدة الناجية من بلاد النوبة... تجذب السياحة العالمية «سهيل» ... قريةٌ مِن ذَهَب

الوحيدة الناجية من بلاد النوبة... تجذب السياحة العالمية «سهيل» ... قريةٌ مِن ذَهَب

في واحد من أغرب الصراعات الداخلية فوق أرض المنطقة العربية... يتصارع الآن أهل النوبة الذين تم تهجيرهم من بيوتهم وقراهم خوفًا من الغرق تحت مياه نهر النيل، إلى مناطق أخرى بعيدًا عن الخطر، وبعيدًا عن موطنهم الأصلي «أرض النوبة»، ولكن الحنين إلى الموطن الأصلي يفجر الآن في قلوبهم الرغبة في العودة إلى مواقع قريبة من الموطن الغريق تحت مياه النهر، حيث يلفهم نسمات وعبير من أرض الوطن الغريق، وذلك على ضفاف بحيرة ناصر.
وكلمة «نوبة» مشتقة من الكلمة المصرية القديمة «نبو»، وتعني الذهب، وبلاد النوبة وأهل النوبة هم قبائل سكنت المنطقة الواقعة جنوب أسوان حتى شمال السودان من الجنس «الحامي»، وهو الجنس الذي ينتسب إليه المصريون، وتمتد بلاد النوبة من أسوان جنوبًا على امتداد نهر النيل بنحو 320 كم حتى التقاء حدود مصر والسودان، وتحكي المعابد والمقابر والقلاع الأثرية في هذه المناطق قصص حضارات عاشت على هذه الأرض منذ أكثر من 13 ألف سنة وكانت تضم 38 قرية.
وتقول دراسات عديدة إن النوبيين يعود أصلهم إلى «حام» بن سيدنا نوح عليه السلام ويعتبر جدهم الأوحد، وتؤكد الدراسات أيضًا أن أهل النوبة من أكثر الشعوب اعتقاداً بالحياة الأخرى، وكانوا يكرسون حياتهم الدنيا استعدادًا لرحلة ما بعد الموت.

اللغة النوبية شفرة حرب أكتوبر
والمجتمع النوبي ثلاثة عناصر من السكان، حيث تعيش في المنطقة الشمالية من أسوان حتى 145 كم جنوبًا قبائل «الكنوز»، ويتحدثون اللغة «الموتوكية»، ثم من 145 حتى 183 كم جنوبًا يتحدثون العربية، وفي الجنوب يقيم النوبيون ويتحدثون اللغة «الفيديكية».
 وتقول سجلات حرب أكتوبر 1973م إن المخابرات المصرية استعانت بهذه اللغة النوبية باستخدامها كشفرة خلال العمليات العسكرية إبان الحرب، مما أذهل العدو الإسرائيلي، الذي عجز تمامًا عن فك ألغاز هذه اللغة الفريدة، وكانت واحدة من عوامل انتصارات حرب أكتوبر 1973م.
ويتميز الشعب النوبي والإنسان النوبي بالوداعة والأمانة والصدق والبر بالأقارب واحترام الكبير وإكرام الضيف، وأيضًا رضاهم بالقليل، وكلها أوصاف طبعها عليهم نهر النيل، كما أثر أيضًا في صناعاتهم التي انحصرت في صيد الأسماك والزراعة والتجارة عبر النهر، سواء في نقل التمر أو السلع السودانية والمصرية المختلفة، وكذلك صناعة الآنية الفخارية من طمي النيل، ويصنعون ملابسهم من القطن، وهم يصنعون الحصر والسلال، كما أن لهم ذوقًا خاصًا في التطريز. ويصنعون خبزهم من الذرة الرفيعة مخلوطة بنوع من البقول اسمه «كشر نجيج»، ويشيدون بيوتهم من الطين أو الطوب الأخضر (اللبن)، والكثير منها على شكل قباب وتتميز بوجود فناء داخلي.
حتى فنونهم ورقصاتهم مستوحاة من النهر، وأشهرها رقصة «الأراجيد»، التي تتم في حلقات بين أنغام الكفوف وإيقاعاتها المنغمة، مكونة نغمًا موسيقيًا تسبح خلاله الفتيات الحالمات كأنهن حوريات يسبحن في مياه النهر. 
و«الأراجيد» محاولة لاستلهام تيارات وموجات مياه النيل، ومحاكاة السباحة بحركات جسدية تتناغم مع الإيقاعات كأنهن يسبحن في مياه النهر.

سنوات الغرق
ولكن القدر لم يترك هذه البلاد الناعسة في أحضان النهر في حالها، فقد أدى إنشاء خزان أسوان قبل عام 1912م إلى ارتفاع منسوب مياه النهر من 98 مترًا، حيث كانت القرى النوبية تقع فوق هذا المنسوب، إلى 106 أمتار، فغرقت معظم الأراضي والقرى والآثار، ثم عاود المنسوب ارتفاعه ليصل إلى 113 مترًا، كل هذا قبل إنشاء السد العالي، إلى أن كانت الضربة الكبرى بعد إنشاء السد في بداية الستينيات، وارتفاع منسوب المياه إلى 180 مترًا، مكونًا أكبر بحيرة صناعية في العالم بعد خزان كاريبا في روديسيا، وكان لابد من أن تتدخل الدولة لإنقاذ أهل النوبة وتهجيرهم إلى قرى أخرى، حيث تم تهجير ما يقرب من 98 ألف نوبي من 39 قرية إلى قرى جديدة في إسنا بمحافظة الأقصر، وكوم أمبو، وأسوان، وهي نفسها التي تطالب الآن بالعودة إلى أرض النوبة اليابسة المحيطة ببحيرة السد العالي، أو ما يسمى الآن ببحيرة ناصر، ولكن ذلك قد يسبب تلوثًا خطيرًا في مخزون المياه في بحيرة ناصر من جراء الحياة اليومية لآلاف من البشر يعيشون حول البحيرة، فقد كانت حياتهم السابقة حول النهر على شواطئ نهر متجدد المياه، أما البحيرة فماؤها ساكن، وأي تلوث يصيب البحيرة التي تغذي كل أهل مصر قد يجعل مياهها غير صالحة للاستهلاك الآدمي.

كنوز النوبة هدية للعالم!
كما أغرقت مياه النهر المحجوزة خلف السد الجديد العديد من آثار النوبة التي كانت منتشرة في هذا الوجود الممتد 320 كم، ودعت « منظمة اليونسكو» العالم إلى إنقاذ هذه الثروات الإنسانية الفريدة. وأمكن تدخل عديد من الدول مع اليونسكو لإنقاذ العديد من المعابد، وأهدت منها مصر خمسة معابد كاملة ورائعة من آثار النوبة هدية للدولة المشاركة في الإنقاذ، وهي معبد دابود الذي بناه الملك المروي أزخر أمون 300 ق.م جنوب أسوان، وقد تم إهداء هذا المعبد الرائع بأكمله إلى إسبانيا ثمنًا لمساهمتها في عمليات الإنقاذ... وهو مقام الآن في قلب العاصمة مدريد، وكذلك «معبد تافا» وكان موجودًا على بعد 50 كم جنوب أسوان، وتم إهداؤه إلى هولندا، أما «معبد دندور» العظيم ويعود إلى العصر الروماني فقد تم إهداؤه إلى متحف المتروبوليتان بنيويورك، وتستخدمه أمريكا الآن في إحياء هذا المتحف لما له من عظمة فريدة، وهناك أيضًا «معبد الليسيه» وأهدي إلى إيطاليا، وكذلك بوابة معبد كلابشة وموجودة الآن بالمتحف المصري في برلين، وهناك معابد تم إنقاذها وموجودة في مصر، وهي «بيت الوالي والسبوعة والدر ومعبد جرف حسين» هذا بجانب عملية نقل معبد أبوسمبل بكل عظمته إلى مدينة أبوسمبل بالوضع نفسه الذي يحقق لحظة ظهور الشمس على وجه رمسيس الثاني داخل المعبد يوم عيد ميلاده، والذي يحتفل به العالم بأجمعه في هذا اليوم.

القدر أنقذ «سهيل»
تموج المنطقة العربية ببلاد وشعوب عمرها من عمر الزمان لها ثقافاتها وتاريخها، وإذا كانت بلاد «النوبة» في أقصى جنوب مصر، هي واحدة من هذه البلاد، إلا أن قدرها قد أوجد لها بحيرة عملاقة اسمها بحيرة السد العالي ومن قبلها خزان أسوان، حيث ساهم الاثنان في غرق هذه البلاد تمامًا، وتفريق أهلها فوق خريطة الدنيا، إلا أن هناك قرية نوبية صغيرة تقع على غرب جزيرة مقدسة اسمها «سهيل» على بعد 15 كم جنوب أسوان، كان يعبد بها الإله «خنوم» والذي كان يعتقد أنه خالق منابيع النيل، وقد شاء الله أن ينقذ هذه القرية بالذات من الغرق، حيث إن موقعها بعيد عن امتداد مياه البحيرة التي أغرقت كل بلاد النوبة.
 هي منظومة لا تقبل المنافسة في سوق السياحة العالمية في هذا الزمان، بعد أن مل البشر صخب الحياة الحديثة وضوضاءها القاتلة.
وأغرب ظاهرة رصدتها الآن شركات السياحة العالمية، هي هذا الانجذاب المحير والفريد لسياح أوربا إلى قرية مصرية صغيرة، عمرها من عمر الزمن، تقبع في سكون واستسلام على ضفاف نيل جنوب أسوان، اسمها «غرب سهيل»، حيث يرحلون إليها عبر النيل، ويقضون أيامًا وليالي بين أهلها وتحت قباب بيوتها الملونة، في أغرب رحلة سياحية إلى أرض الذهب، مازالت تحفظ التراث النوبي وتردد أغانيه على إيقاعات كفوف سمراء تستقبل الزائرين، ومازالت تحتفظ بمظاهر من التنوع الثقافي المصري، وخصوصية أهل النوبة التي يتداخل فيها التاريخ مع الأساطير، وسنوات الفرح مع أيام الشقاء التي ارتبطت كلها بالنهر المنساب بالخير قبل الزمان بزمان.
وتحت شراع مركب عملاق، اندلفت بين عدد من السياح الذين أصروا على أن تكون الرحلة بمركب شراعي، وعلى طول 15 كم رحلت بنا المركب إلى الشمال من خزان أسوان، حيث توقفت بنا عند سفح رملي يسمى «بربر»، حيث تقبع قرية «غرب سهيل» واحدة من بلاد الذهب النوبية التي لم يطلها التهجير لأنها تقع شمال السد العالي، وتقع غرب جزيرة «سهيل» تلك الجزيرة المقدسة، والقرية مازالت تحفظ تراثها وتردد أغانيها على إيقاعات كفوف سمراء، وما إن نصل إلى قلب القرية، حتى نفاجأ بهذا الكم الغريب من السياح، يمارسون كل طقوس أهل القرية.
وعندما تسير في شوارع قرية «غرب سهيل» تشعر بأن الزمـــــن عاد بك إلى أيام النوبة القديمة، التي قرأنا عنها في الأدب النوبي، نفس الشمس والنيل والصبية السمر على الشاطئ المنحدر، ونفس البيوت النوبية المميزة المعلقة على المدرجات الجبلية المنحدرة، والبيوت معظمها على الحال نفسها، بغنائها الداخلي وزخارفها الخارجية، والمرأة النوبية لا تكف عن تنظيف بيتها وما حوله، في ظاهرة لافتة، وأمام البيوت المصاطب، ويوجد بالفناء الداخلي حوض من الماء به بعض التماسيح الصغيرة التي يقوم أهل البيت بتربيتها، وعندما تكبر وتصبح خطرًا، يلقون بها في بحيرة ناصر!
وقد شيد أبناء القريــــة بيـــوتهم النوبية التي تعتبر حالة من «الجمال» المريح، والتي تعتمد على عمارة الأقـــبية والأحواش السماوية المفتوحة والبناء بالطوب الآجر، ومعظمها تستخدم القباب لعكس أشعة الشمس والحرارة المرتفعة في أقصى جنوب مصر، إضافة إلى وجود فتحات على شكل مثلثــــات في أسفل القباب تسمى «طاقة» لتهـــــوية المكان، وتتميز حوائط البيوت بالألوان والرسومات البسيطة.

بيوت سياحية
وسوف يذهلك هذا الوجود المثير للسياحة داخل هذه القرية، التي يأتي إليها السياح عبر النيل، ثم يركبون الجمال إلى داخل القرية، حيث يستقبلهم الأهالي بترحاب شديد، وطقوس الموسيقى النوبية، وقد تحول كثير من بيوت القرية الملونة إلى بيوت سياحية تستقبل السياح للإقامة بها جنبًا إلى جنب مع أهل البيت. وتمضي حياة السائحين داخل «غرب سهيل» مثل سكانها تمامًا، فهم يمارسون السياحة في النيل قرب شاطئ القرية صباحًا، ويمكن ممارسة «حمامات الطين» لتنظيف البشرة وإعادة الحيوية إلى الجلد بطمي النيل الشهير.
ويعشقون متابعة أحواض تربية التماسيح في أحواش البيوت، ويعشقون أيضًا الطعام النوبي وبالذات «البامية الويكا» والملوخية، والطواجن النوبية الشهيرة، والعيش النوبي «الدوكه».
كما أنهم لا يدفعون ثمنًا باهظًا للحياة داخل هذه البيوت مثل ما تتطلبه الإقامة في فنادق المنطقة.
أما حضور الأسواق، فإنها رحلات تثير البهجة للسائح، حيث يشهد تراث عريق من المشغولات الخرزية والطواقي والملابس النوبية مثل «الجرجار»، وهو عبارة عن جلابية خفيفة السواد من قماش مخرم به كسرات عديدة، يتم ارتداؤها فوق جلابية ملونة، وتنتشر في البازارات أيضًا منتجات التراث الإفريقي مثل الأقنعة والتماثيل.
ويفاجأ السائح بأن عديدًا من البيوت داخل القرية عبارة عن مصانع لإنتاج هذه المنتجات المحلية، باستخدام الخرز والحصى والقماش والمعادن ومنتجات النخيل.
وعلى السائح أن يمضي ساعات العصر على ضفاف النهر يشرب الشاي، والتأمل ساعات طويلة في النيل البديع والمناظر الطبيعية البكر.
وقد يذهب في زيارات أثرية لزيارة الجزر المحيطة والـــــتي تضــــم معابد فيــــله وكــلابشه وأبو سمبل ومقبرة الأغاخـــان وجزيرة النباتات، ثم يعود إلى القرية لقضاء ليالي السمر الــتي تتميز بالطابع الصحراوي، حيث يقضي السائحون ليالي طويلة يمكن أن يشاهدوا فيها «القمر» بازغًا لا تحجبه أي غيوم أو سحب، وهو نادر أن يشاهدوه في بلاهم الملبدة بالغيوم.
ويطيب للسائحات الخضوع للنساء النوبيات لعمل الحناء، ورسومات الحناء البديعة التي تعشق السائحات الرجوع إلى بلادهن بها.
قال لي اللواء مصطفى يسري محافظ أسوان، إن هذه الظاهرة أجبرت الإدارة على تنفيذ خطة لإعداد هذه القرية للسياحة العالمية، حيث قامت بإعداد ثلاثين بيتًا لاستقبال السياح، وجار تنفيذ مرسى سياحي على شاطئ القرية بطول 60 مترًا, لاستيعاب الحركة السياحية الوافدة إليها، والأهم من ذلك كله العمل على توصيل خدمة الصرف الصحي للقرية بالكامل.
وكلها أحلام لم تكن تصل إلى هذه القرية لولا أن عرف طريقها السائح الأوربي.
لقد ظلت قرية «غرب سهيل» هي الوحيدة الباقية من بلاد لها ثقافتها وتاريخها العريق، والتراث، وحياة الشعوب البدائية، وبصمات الطبيعة البكر، وصوت السكون الآسر ■

 

جلسة بسيطة داخل أحد بيوت النوبة

 

منزل نوبي تعلوه القباب وتبدو الزخارف والنقوش على الواجهة 

 

فنون مستمدة من البيئة في البيت النوبي

 

جلسة للضيوف أمام بيت نوبي

 

ابتسامة طفل نوبي على درج بيته وتبدو المراكب السياحية في النيل 

 

جلسة في ظل شجرة ... ومياه النهر تحتضن البيوت