محمّد دكروب ومحاكمةٌ قبلَ الرَّحيل

محمّد دكروب ومحاكمةٌ قبلَ الرَّحيل

كدت أتلمّس أزرار الهاتف طلبًا لصديقي محمد دكروب، ثم تنبّهت مذهولاً إلى أنه بارح دنيانا في الرابع والعشرين من شهر أكتوبر 2013، ومبعث اللهفة التي ارتدّت خائبة، أن محمدًا، وقد جمعتنا الصداقة العريقة لعقود، كان حاضرًا في شهوره الأخيرة على نحو دائم ملحاح، وذلك في البال وعبر الهاتف وخلال التزاور.

 

 كان دكروب، المولود عام 1929، يحمل سنواته، التي نيّفت على الثمانين بأربع، مُثْقل الكتف، مشوّش الذاكرة، ضعيف البنية، مضطرب النظر، بحيث غدت القراءة عنده، وهو الذي طالع في حياته لجًا زاخرًا من الصفحات، غدت متعسّرة، كما صارت الكتابة عبئًا باهظًا. لهذا بتنا نحن، أصدقاءه الخُلّص المتحلّقين حوله، نخشى عليه، فالزيت يبدو إلى نفاد، والشمعة التي ظلت مشعّة زمنًا طويلاً تنوس رويدًا. وقبل أيام قليلة من رحيله كنت في بيته نتحاور، كمألوف عادتنا، ونتبادل المُلَحَ والنوادر. وكان كتابي الدراسي الكبير عن رئيف خوري على وشك الصدور، فسألني محمد عنه وقال لي بحماسة: والله، يا أحمد، أغبطك على هذا الإنجاز، فرئيف يستحق منا هذا الوفاء. ومن أسفٍ أن كتابي خرج من المطبعة في اليوم السابق على رحيل محمد، ولم يُتحْ لي أن أهديه إياه.

ليتك كتبتَ مذكّراتك
وخلال هذه الجلسة بادرت محمدًا قائلاً إن آخرته صعبة، لأنه، كما قلت له بين الجدّ والمزاح، قد ارتكب في حياته ثلاث خطايا، كافية بحد ذاتها لأن تقود خُطاه حتمًا إلى السعير. واعتدل محمد في مقعده، وكأنه يتأهب لمجريات المحاكمة، وقال لي متصنّعًا الجدّ: وما هي هذه الخطايا يا مولانا؟ أنت قصّرت أيما تقصير وأفدحه عندما لم تنهد إلى كتابة مذكراتك، وهي ليست ملكك فقط وإنما يشاركك في ملكيتها مئات الكتّاب والمبدعين العرب الذين كاتبوك وكاتبتهم على مدى ربّما ما ينيّف على نصف قرن، دعك من الذين قابلتهم وصادقتهم وزاملتهم، وذلك في المناسبات الأدبية وخلال المؤتمرات ويتأتى هذا التواصل الحكيم مع الأدباء والفنانين من أن محمدًا عمل في مجلتين ثقافيتين رائدتين في لبنان والوطن العربي، وذلك ردحًا طويلاً من سنيّ حياته، وهما: «الثقافة الوطنية»، و«الطريق». ولا ريب أنه أطل من خلالهما على كتّاب طليعيين وشعراء ومفكرين، وخصوصًا أن لبنان استظلّ بأَزره ونزل عاصمته ذات الصيت المدوّي، بيروت، جمعٌ غفير من المثقفين العرب الذين آثروا مبارحة أوطانهم، لشقاء العيش والكتابة فيها، وقصدوا الواحة شبه الديمقراطية وشبه الوحيدة بين الماء والماء. ولم تكن الصلات المعقودة مع الكثيرين من هؤلاء الأدباء الأحرار عابرة، بل تعدّت الأمر إلى صداقات متواشجة، وإلى انغماس في العمل الكتابي المشترك.

مثال: عبدالوهاب البياتي
يكفي أن أذكر في هذا المجال شاعرًا طليعيًا طنّان الشهرة، وهو عبدالوهاب البياتي، فإبّان إقامته بين ظهرانيْنا في بيروت سكن مع عائلته في محلة الطريق الجديدة، كذلك امتهن التعليم في إحدى المدارس الأهلية. وكنت ألقاه في مكتب «الثقافة الوطنية»، التي شاركت في الكتابة فيها عهدذاك، وكان يصطحب قصائده الجديدة، وكان من ظريف عادته أنه يخطّها على نسختين، فيعطي محمد دكروب، المولج بأمر المجلة، نسخة، ويحتفظ بالثانية، من باب الحيطة، ومخافة أن تضيع في ملفّات المجلة أو طيّ جواريرها! المهم أن البياتي، كما أخبرني محمد، ذات مقابلة طويلة وقديمة العهد، وإني لأعتزم نشرها هذه الأيام، إثر رحيل صاحبها، لم تقتصر مساهمته على قصائده الجديدة والمبتكرة، بل إنه كان يساهم في العمل التحريري على نحو جدّي وقيّم، وخصوصًا في باب الكتب. يُعطى كتبًا ودواوين شعر، فيكتب عنها في حينها، وتحمل أحيانًا الحرفين الأولين من اسمه، وأحيانًا تصدر من غير إمضاء. على أن محمد دكروب يذكر أن عبدالوهاب البياتي، كان، قبل مجيئه لبنان يرسل من العراق إلى المجلة أخبارًا أدبية. والمؤسف في هذا المجال أنه زوّد «الثقافة الوطنية» ببعض الأخبار المتعلقة ببدر شاكر السياب، وكان عهدئذ طائر الشهرة، ويبدو أنه كان هناك تنافس، أو كما نقول عداوة كار بين الشاعرين. فهذه الأخبار قامت بنشرها المجلة، وهي تحمل إساءة لبدر وتهجّمًا عليه، وكان بدر على خلاف مع الحزب الشيوعي العراقي الذي ينتمي إليه، فأحدثت هذه الأخبار، المرسلة من قِبَل عبدالوهاب، مزيدًا من الشرخ بين بدر والحزب، وخصوصًا أنه اطّلع عليها وذكرها وتركت أثرًا سيئًا في نفسه! ولقد شعر القيّمون على المجلة، متأخرين، بالخطأ الذي ارتكبوه! فهذه الأخبار وأمثالها لا يمكن الاطّلاع عليها غالبًا إلا من خلال المذكرات. ومع أني كنت لصيق الصلة بمجلة «الثقافة الوطنية» وبالمشرف على تحريرها الصديق محمد دكروب، فقد كنت غير ملمّ بهذه المعلومات الخاصة العائدة إلى الصديق الشاعر عبدالوهاب البياتي.
وها هو الصديق الودود، الشاعر شوقي أبي شقرا، يُكبّ منذ حين على كتابة مذكّراته، وهو صاحب الفضل الأول في إطلاق ما ندعوه الصفحات الثقافية في الصحافة اللبنانية، من خلال المنبر الذي ساهم فيه لعقود وهو جريدة «النهار». وقد باحثت الصديق العزيز، قائلاً له: إنك، بحكم موقعك، قد عرفت الكثيرين من الكتّاب والشعراء والمفكّرين، ونحن نعرفهم في الغالب بدورنا، لأننا وإياهم عاصر بعضنا بعضًا. المهم، يا شوقي، أن تأتينا بالحكايات المكتومة والخبريّات المشوّقة التي نجهلها، ولو أن فيها حرجًا لك ولهم على السواء، وإلا تفقد مذكّراتك نكهتها وجِدّتها. ولهذا كان عتبي الشديد على محمد دكروب، لأن الحديث يطول جدًا عمّن عرفهم من الكتّاب والباحثين، وعقد معهم الصلات، واطّلع على أحوالهم، وسبر أغوارهم. فليس أمتع من أن تتعرّف، في ساعات صفاء، إلى دواخل هؤلاء الناس الذين هم، بالرغم من الإبداع والابتكار والبحث الشائق، أناس بسطاء، تحفل سيرهم وراء الشهرة والمظهر البرّاق، بالصفاء والصدق والوفاء.

مثال ثان: ألبير أديب
مثال آخر أطرحه بين يدي القارئ، لأبيّن له أن محمد دكروب عاصر وخالط وصادق الكثيرين من الكتّاب، بحكم عمله التحريري في الصحافة الأدبية، ومن كان حريًا به أن يخطّ مذكراته ليطلعنا على خبايا وخفايا هؤلاء المبدعين والعاملين في ميدان الثقافة. ومن هؤلاء إنسان يستحق منا كل عناية وإكبار، للدور الجليل الذي أدّاه لأدبنا العربي الحديث، وهو ألبير أديب صاحب مجلة «الأديب»، التي ظلّت مواظبة على الصدور، بالرغم من الحرب الأهلية اللبنانية، طوال واحد وأربعين عامًا، ابتداء من مطلع عام 1942، ولئن توقفت بعد هذا الزمن الطويل، فذلك لأن المرض هدّ منشئها وأفقده نور عينيه، فأوقفها قسرًا قبل سنتين من رحيله عام 1985. وكان محمد دكروب شابًا في حوالي العشرين عندما بارح مسقط رأسه «صور» ووفد على بيروت ليشقّ دربه في الصحافة الأدبية. وكان من فضائل ألبير أديب أنه فتح مجلة «الأديب» لقرائح الأدباء العرب في شتى أقطارهم، وساهم في التمهيد للشعر العربي الحديث، وخصوصًا العراقي منه، كذلك أخذ بيد الكتّاب الجدد الذين كان خير مشجّع لخطواتهم الكتابية الأولى. فهو يرعى هؤلاء على نحو أبويّ، وكان من عادته أنه يضع هؤلاء الكتّاب الجدد أمام المسؤوليات الجسام، فيحرجهم طالبًا منهم كتابة الافتتاحيات للمجلة، ليعوَّدهم على المبادرة واقتحام الصعاب بأقلامهم الناشئة. ويخبرني محمد دكروب، في ثنايا المقابلة المطوّلة التي أتيتُ على ذكرها منذ حين، أن فضل ألبير أديب عليه كبير، فهو كان عهدذاك، في هذه المرحلة الباكرة من حياته الأدبية، قليل الزاد من الثقافة، فقير الحال، رثّ الملبس، وكان يقصد صاحب «الأديب» الذي يُعنى به ويكلّفه بكتابة بعض الموضوعات، لدرجة أنه رغب إليه مرة في كتابة افتتاحية، مما ترك أثرًا ساحرًا في نفسه وشعر بسعادة غامرة، وتحسّس أن هذا الإنسان يساهم في صنعه، فهو تعامل إنساني وديمقراطي. وليس من المتيسّر أن نجد مسؤولاً عن مجلة يقدم على ما كان يقدم عليه ألبير أديب.
فنحن على بيّنة من هذا الإنسان المنصرف تمامًا في غرفة من بيته، لكأنها صومعة ناسك، يهيّئ العدد من مجلة «الأديب» تلو الآخر، لا مساعد له ولا شريك في عمله الدؤوب، فهو ينهض بكلّ أعباء انتقاء المواد وتحريرها وتصحيحها، ثم يخطّ الأبواب في نهاية العدد المشتملة على الأخبار الأدبية والعلمية. وأخيرًا فهو يُعنى بالأمور الإدارية والمالية والبريدية التي تعود إلى المجلة. ألبير أديب و«الأديب» توأمان، فحياته من حياتها، ويوم خبا نوره وانطفأت شعلة حياته، انقطعت «الأديب» عن عالمها العربي الوسيع، وباتت كنيزك هوى وتبدّد. ومازلت أذكر زيارة قديمة العهد قمتُ بها لهذا الراهب في صومعته، ذات مساء، برفقة الأديب الصديق محمد عيتاني، وذلك في بيته الواقع على طريق الشام، مقابل الكلية الطبية اليسوعية. هذا البيت الذي تهدّمت أركانه في ما بعد، بفعل قذائف الحرب الأهلية اللبنانية الذميمة. على أن محمد دكروب أضاف إلى ما نعرفه عن ألبير أديب هذا البعد الإنسانيّ والأبويّ المتمثّل في حدبه على الأقلام البراعم التي تحتاج إلى رعاية وتشجيع واكتشاف. ولا ننسى أن الأديب الكبير الذي خسرناه أخيرًا، وهو أنسي الحاج كانت بداياته في «الأديب»، وعن هذه المجلة صدر عمله الأدبي الأول «لن». وبالرغم من أن هذه المجلة العريقة كانت سجلاً للأدب العربي الكلاسيكي والتقليدي، فإنها احتضنت، كما ذكرنا، الشعر العربي الحديث، والعراقيّ منه بنوع خاص، عبر أسمائه اللامعة من أمثال نازك الملائكة وبلند الحيدري وعبدالوهاب البياتي وبدر شاكر السيّاب، كذلك كانت «الأديب» الحاضنة للقصة العراقية الحديثة، فبرزت فوق صفحاتها أسماء من أمثال: فؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبدالملك نوري.

حياة حافلة بالمهن والتثقيف الذاتي
ونعود إلى المحاكمة التي عقدناها لمحمد دكروب قبل رحيله وتقبّل حيثياتها راضيًا، ولئن قصّر في كتابة مذكّراته وذكرياته، فقد ترك لنا مهمة نبش أوراقه التي خلّفها، وهي حتمًا مشتملة على رسائل وافرة جدًا ونصوص غير منشورة. إن حياة هذا الكاتب الللبناني، المفعمة بالكدّ والكدح، تمحورت على نحو محدّد في عمله التأسيسي الذي واكب صدور مجلة «الثقافة الوطنية» في عام 1953 حيث كانت أسبوعية، ثم غدت بعدئذ في سنواتها الست المتوالية حتى عام 1959 شهرية، متألقة كمجلة رائدة، تقدمية المنحى، حاملة الجديد في الأدب والفكر والثقافة. وبعض الأدباء اللامعين نشروا بواكيرهم الأولى في «الثقافة الوطنية»، ومثال على ذلك الشاعر العراقي، صاحب الحضور الحميم، سعدي يوسف. كانت «الثقافة الوطنية» الورشة الأولى التي تعلّم فيها محمد دكروب أبجدية الصحافة، وكانت عهدذاك تشمل التحرير والتصحيح والإخراج، فلم يكن التخصص قد أخذ مجراه بعد، وكان الصحافي يقوم بالعمل من جميع وجوهه، بل إنه أيضًا يتعاطى الكتابة في موضوعات لا حصر لها. أما المدرسة الكبرى التي تخرّج فيها دكروب فهي مجلة «الطريق» ذات التاريخ العريق، ومازالت تصدر في أبهى حلّة، معمّرة كما هو شأن مجلة الهلال لمنشئها التاريخي جورجي زيدان. وقد صدرت «الطريق» في آخر عام 1941، بيد أن دكروب واكبها وارتبط اسمه برئاسة تحريرها، وذلك قرابة العقود الأربعة الأخيرة من حياة المجلة. وهنا وهناك كان المفكر اللبناني العربي الكبير، حسين مروّة، هو المشرف والأب الروحي والأستاذ لمحمد دكروب. وذلك أن دكروب لم يدخل المدرسة الابتدائية سوى سنتين أو ثلاث، فذكاؤه الفطريّ، وإدمانه القراءة، وغرامه بالورق المطبوع، هي التي أهّلته للكتابة، وارتقى في هذا الميدان، بحيث صار بالفعل مقتدرًا، وهي رحلة جميلة حريّة بالتقدير والإعجاب. فمدرسته هي الحياة والتثقيف الذاتي، لذا كان حسين مروّة الذي تعرّف إليه مذ كان سمكريًا في بلدته الجنوبية «صُور»، هو الذي عُني بتصحيح، إملائيًا ولغويًا، الكتابات الأولى لمحمد دكروب. يقول دكروب، خلال الاحتفال بتكريمه في «الحركة الثقافية - إنطلياس» إبّان عام 2008: «بدأتُ بنشر بعض ما أكتب عندما كنت أشتغل سمكريًا، وأفكر بأشياء تشبه القصص وتشبه المقالات، على إيقاع طرطقة التنك، وتصليح بوابير «الكاز»، وصنع النوّاصات التنكيّة لقهر الظلام».
قلت إن دكروب كان سمكريًا، وقد مارس في مسقط رأسه مجموعة من المهن، فأبوه كان فوّالاً، فما كان منه عندما احتاج إلى مَن يعينه في دكّانه، غير إخراج ابنه، المندمج كليًا بارتشاف العلم في المدرسة الجعفرية الشهيرة في زمانها، وتأبّى الولد ورفض وبكى، بيد أن الأب أنفذ رغبته وصار الابن فوّالاً بدوره وهو في حوالي العاشرة من عمره الطري. وبعد وفاة والده، إبراهيم، اشتغل سمكريًا، كما تقدّم، لدى شقيقه، وقد امتهن، بين هذا وذاك، بيع الفلافل، الأكلة الشعبية المعروفة، ويسمّونها في مصر «الطعميّة». كما عمد ذات حين إلى بيع عقود الياسمين في المقاهي المطلّة على بحر صور، حيث يتناولها البحّارة والفقراء ويعبّون شذاها اللطيف، كذلك اشتغل بائع ترمس، وذلك في الخمّارات، حيث يتناولها السكارى للتسلية والمزمزة. ومارس عملاً مضنيًا عندما اشتغل عامل بناء ينقل على رأسه الرمل والحجارة. وهي نشأة حافلة، تذكّرنا عربيًا بالكاتب المغربي محمد شكري، وكونيًا بمكسيم غوركي. إلا أن محمد دكروب لم يُحسن استغلال هذا المعين القصصي البديع سوى على نحو ضيق جدًا. ولو أنه كتب مذكّراته، كما تمنينا عليه ولُمناه لنكوصه وتقصيره، لكانت الفرصة مواتية تمامًا لاستعادة هذه البانوراما المميزة وهذه النشأة الأولى المشبّعة بالطرافة والتشويق والضنى، وخصوصًا أن دكروب كتب القصة، في مطلع حياته الكتابية، عندما كانت عُدّته الفنية قاصرة ومحدودة، كما يعترف هو نفسه في غير موضع، بيد أنه لو عمد إلى كتابة مذكّراته لكان، في ما أعتقد وأخمن، أجاد وبرع، لأن رحلته مع الحياة والكتابة كانت قد قطعت أشواطًا، والنضج الحقيقي كان قد فعل فعله في عقله وإهابه وكينونته.

رحلته مع حسين مروَّة
عندما واجهت محمد دكروب، قبل رحيله، بهذا التمنّي الصدوق، أومأ برأسه موافقًا والأسى يجتاحه، ذلك أن ما فات كما نقول بات، وصار في يومه، وقد اعتلّت صحته وغادره هذا الهوس الذي ملأ حياته، هوس الكتابة بلا ملل أو هوادة. صار قاصرًا عن الإمساك بسلاحه، القلم، الذي رافقه مذ كان في السابعة عشرة وظل يضطرب بين أنامله عقودًا. وخاطبني دكروب، سائلاً إياي بتؤدة وبانشراح لم يكن غريبًا عن طبعه المشبّع بالرقّة والوداد: وما هي التهمة الثانية، يا أحمد؟ ومن غير تردّد أو تمهّل قلت له: لم يعرف إنسانٌ حسين مروّة كما عرفته، فهذا المفكّر العربي الكبير كان التواضع حشو إهابه، ولقد جاءك عندما كنت بعدُ تطرطق التنك وتتعاطى مهنة السمكريّ، وذلك في بلدتك الساحلية «صور»، ولقد خاطبك بعفويّته قائلاً لك: مرحبًا محمد، أنا حسين مروّة! فالتقت يدك التي يعلوها الزيت والغبار بيده السمحة الودود. ومنذ ذلك الوقت، كنت عهدئذ دون العشرين، عقدت بينكما عُروة وُثقى من الصداقة الدائمة، وعملتما معًا في مجلة «الثقافة الوطنية» الغرّاء الطليعية، ثم واصلتما المسيرة الثقافية والفكرية في مجلة «الطريق» ذات العراقة والتاريخ، وحضرتما معًا المؤتمرات الأدبية واللقاءات، وسافرتما هنا وهناك على مدار سنوات العمر. ولم تفرّق بينكما سوى يد الغدر الظلاميّة التي امتدت عام 1987 لتُجهز على مفكّر وناقد وأديب ورائد، بذل عصارة عقله وأعصابه دفاعًا عن القيم القومية والتقدمية، وكان نموذجًا عربيًا للاستقامة والنزاهة والصلابة والعقلانية.
وأنا أعرف أنك كتبت غير مرة عن حسين مروّة، كما بدأت عنه عملاً قيّما جدًا، إثر غيابه، فأصدرت الجزء الأول من «سلسلة مؤلفات حسين مروّة: دراسات في الفكر والأدب» (دار الفارابي، بيروت 1993). وقد أعلنت، في نهاية هذا الجزء الأول، عناوين قادمة لأجزاء أربعة من هذه السلسلة تنعقد حول: التراث الإسلاميّ، والأدباء النهضويين، والشخصيات الإنسانية، والأحاديث والحوارات الثرّة. ولكنك، ولا أدري لماذا، نكصت عن الإنجاز وحرمت القارئ العربي من حيّز جليل من كتابات حسين مروّة ظلّت مبعثرة هنا وهناك، طيّ المجلات والدوريّات العربيّة، ولم تُدرج ضمن مؤلفاته الشائعة، وخصوصًا أن مروّة الكبير منحنا فيضًا لا حدود له من الكتابات القيّمة التنويرية. والمطّلع على هذا الجزء الأول يأسف لتكاسل محمد دكروب عن إتمام المشروع الذي بدأه، فالكتاب من إعداده وتنسيقه وتقديمه. وهو، فضلاً عن التقديم الوافي الدراسيّ الموضوعي المضيء، ينسّق الكتاب في أقسام ثلاثة: مفاهيم، قراءات، ومؤتمرات، ويجري قلمه كمحرر للكتاب في إشارات جمّة تضع الدراسات في سياقها التاريخي، وتشير إلى المناسبات التي استدعتها، كما توضح مكانتها في حركة تطوّر فكر حسين مروّة النقدي والفكري.
وأشهد أن دكروب كان يجيد هذا الضرب من العمل التنسيقي، ولقد قام به كثيرًا في حياته الأدبية، وليته تابع ما بدأه من مؤلفات مروّة. إن محمد دكروب، في هذه المحاكمة التي كان حاضرًا فيها، مصغيًا بانتباه وتركيز إلى حيثياتها، قد قصّر في حق صديقه وأستاذه حسين مروّة مرّتين: الأولى لأنه لم يضع كتابًا عنه، وهو أدرى الناس به، والذكريات التي جمعتهما لا حدود لرحابتها ورهافتها، لأنها منبعثة من صداقة عمر وتواشج فكر ورفقة درب. أما الثانية فهي بالتأكيد عدم مضيه في تحقيق الأجزاء الأربعة من «سلسلة مؤلفات حسين مروّة» التي وعد بها في التقديم، وأعلن عن عناوينها في نهاية الجزء الأول، وكانت كفيلة بأن تضاف إلى الكتب التسعة القيّمة التي احتوتها قائمة مؤلفات حسين مروّة، وعلى نحو خاص كتابه «دراسات نقدية، في ضوء المنهج الواقعي» (1965)، والكتاب الآخر بمجلديه، والذي أثار نقدًا خصبًا واسعًا، فهو «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» (1979-1978).

قصّرت بحق محمد عيتاني
على أن التهمة الثالثة والأخيرة التي كان الصديق محمد دكروب موضوعًا لها وتقبّلها برحابة صدر، ولكن أيضًا بتأثّر ووجدانيّة، فهي أنه لم يخصّ صديق عمره، محمد عيتاني، بكتاب. ومحمد عيتاني (ت1988) للقارئ العربي الذي يجهله هو خير مَن كتب القصة في لبنان، ومجموعته «أشياء لا تموت» (1973)، طُبعت ثلاث مرات، وقد كتب لها مقدمة مستفيضة الدكتور علي سعد، وأهداها محمد عيتاني إلى صديقه دكروب. عيتاني البيروتي القحّ والإنسان الذي تضجّ أعطافه بالظَّرْف والطرافة وسرعة البديهة، عرف في أدبه القصصيّ كيف يعبّر عن ناس بيروت وصيّاديها وبحّارتها وأجوائها القديمة قبل أن تكتسحها موجة المدنية والحداثة. وذهب عيتاني إلى صور ليتعاطى التعليم في الكلية الجعفرية التي صار لها صيت في جنوب لبنان. وهناك في هذه المدينة الساحلية الجميلة التقى عيتاني السمكري محمد دكروب، الذي كان قد بدأ يمرّن قلمه الناشئ على الكتابة في جريدة «التلغراف» ذات الطابع الشعبي لصاحبها نسيب المتني. ومنذ لقائهما الأول انعقدت عُرى صداقة لم تزدها الأيام إلا عتاقة ونفاسة. وكان محمد عيتاني نَهِمًا إلى القراءة وحب المعرفة، وكان في الوقت نفسه صاحب ذاكرة مستوعبة رائعة. وبما أن محمد دكروب كان يجهل اللغة الأجنبية، فإن محمد عيتاني - بحديثه الدافق - كان نافذته للاطّلاع على الآداب العالمية، يغرف من خزّانه خلال نزهاتهما على شط «صور»، ومن ثم عندما انتقلا إلى بيروت عبر شوارعها وأزقّتها وشاطئها ومنتدياتها. فعن طريق ذاكرة عيتاني تعرّف دكروب إلى أجواء الأدب العالمي وإلى أسماء مبدعيه الكبار، بمعنى آخر أفاد وتثقّف، وهناك جوامع مشتركة متّنت الصداقة بينهما، وهي: التوافق الروحي وروح النكتة وعشق الحياة. لهذا، ولأسباب كثيرة لا سبيل إلى تعدادها في هذه العجالة، كان محمد دكروب شديد التأثر عندما ختمتُ لائحة اتهاماتي له بهذا التقصير بحق محمد عيتاني. الحقيقة الجارحة أننا كلنا مقصّرون بحق هذا الأديب المبدع والإنسان الرائع الذي ملأ فضاءاتنا، عبر لقاءاتنا التي لا تُحصى، وعيًا مباركًا وضحكًا مجلجلاً ودُعابة لا تُنسى ■