درامــا محمد الماغوط التلفزيونية ... الهجاء السياسي في ثنايا الضحكات المرّة!

درامــا  محمد الماغوط التلفزيونية ... الهجاء السياسي  في ثنايا الضحكات المرّة!

جاء محمد الماغوط إلى الدراما التلفزيونية، من تاريخ أدبي وشعري حافل، ومن تجربة أعرق في الكتابة الدرامية المسرحية والإذاعية، حيث كانت مسرحيتا «العصفور الأحدب» التي كتبها عام 1963، و«المهرج», دلالة على خصوصية الخيال الدرامي لهذا الكاتب، الذي استطاع أن يحول رؤاه الانتقادية الحادة، إلى كوميديا سوداء تفضح تناقضات الواقع الاجتماعي والسياسي في العمق. 

بدأ محمد الماغوط في الكتابة للتلفزيون في زمن مبكر، وقبل أن يتم التلفزيون السوري، الذي كان المنتج الدرامي الوحيد، العقد الأول من عمره. ففي عام 1968، تقدم بنص حلقات مسلسل «حكايا الليل»، الذي عهد بإخراجه إلى المخرج غسان جبري.
النظرة السائدة للتلفزيون في الأوساط الثقافية التي ينتمي إليها محمد الماغوط كشاعر ومسرحي، جعلته يتردد بل ويرفض وضع اسمه على حلقات العمل، من دون أن يدري حينها أنه كان يكتب واحدًا من كلاسيكيات الدراما التلفزيونية، التي ستبقى حية في ذاكرة المشاهدين جيلا بعد جيل، حتى بعد أربعة عقود من إنتاج العمل.
اتخذ الماغوط من ليل الحارة الدمشقية، مكانًا وزمانًا لرواية قصصه التلفزيونية، التي كانت تتوالى في شكل المسلسل المنفصل- المتصل الحلقات، من خلال حارس وزبال الحارة، ولا بد أن نلاحظ أن اختياره للحارس والزبال كبطلين وراويين للحكايا، هو حل درامي ماكر، لأنهما شاهدان على الحياة السرية للحارة كما تتبدى في مرآة الليل. وفي تلك القصص المروية بروح كوميدية وانتقادية محببة، يكشف الماغوط الزيف الاجتماعي وطبائع النفاق، ويحاول أن يصوغ مفارقته الدرامية من وحي التناقض بين القيم والسلوك وبين الأصالة والتظاهر الاجتماعي، سواء تعلق بطبقات مفلسة، أو بتقاليد قائمة على اختراع صور مجملة، تريد أن ترسم حالة مستعارة أمام الآخرين. 
وقد كان الماغوط بارعًا في التقاط هذه المفارقات، التي تصوغ العلاقات الانتهازية البسيطة أو المعقدة، التي يخون فيها الإنسان ذاته كما في حلقات «أكابر، يا نصيب، مرحبًا يا حلو»، أو بحالات أخرى تكبل هذا الإنسان من الداخل بأمراض البيروقراطية، وعبادة الروتين، كما في نموذج الموظف الذي ينام على باب الدائرة بعد أن يحال إلى التقاعد في حلقة «موت قاعد»، لأنه غير قادر على أن يتخلص من سجن البيروقراطية النفسي الذي أفسد إحساسه بعفوية الحياة، أو نموذج الرجل الشعبي البسيط (برجس أبو الحن) الذي يذوق الأمرين في معاملات روتينية لا تكاد تنتهي، بسبب خطأ تسبب في إضافة نقطة حولت الحاء خاءً في كنيته، فضلا عن الكثير من المشكلات والموضوعات التي عالجها هذا المسلسل بجرأة وبروح كوميدية ساخرة، بدءا من أزمة السكن، وانتهاء بالنقاشات الدائرة آنذاك حول العمل الفدائي وقضية فلسطين التي خصص لها حلقة بعنوان «بدر»، سخر فيها بجرأة غير مسبوقة من كل النقاشات السياسية والأيديولوجية التي كانت سائدة حول قضية فلسطين، وأكد أن الحل الوحيد هو العمل الفدائي، الذي نكتشف أن بطله هو الفتى الصامت، الذي كان الأقل كلامًا، والأكثر فعلًا. 
وكان الماغوط في هذا الطرح الجريء متقدمًا على كل ما طرح من معالجات تلفزيونية سطحية لقضية فلسطين حينها، أو بعدها بسنوات! 
 صور «حكايا الليل» في استوديوهات التلفزيون السوري، في الوقت الذي كان يصور فيه عملاً آخر لدريد ونهاد هو مسلسل «حمام الهنا»، لكن «حكايا الليل» استطاع أن يحصد جماهيرية كبيرة عند عرضه، وتحول محمد خير حلواني وعلي الرواس، إلى نجمين في الشارع السوري بين ليلة وضحاها، ودفع هذا النجاح الكبير للمسلسل، الفنان دريد لحام إلى الظهور كضيف شرف في إحدى حلقات «حكايا الليل»، كما استضاف «حمام الهنا» الفنان محمد خير حلواني بشخصية الحارس نفسها التي ظهر فيها في «حكايا الليل».
وهكذا بدأ محمد الماغوط تجربته مع الدراما التلفزيونية بنجاح فني مشهود، ليس على صعيد الطرح الفكري والاجتماعي فحسب، بل أيضًا على صعيد كتابة السيناريو التلفزيوني، وبناء الشخصيات، وسلاسة رواية القصة لمشاهد تلفزيون أمي، في أجواء شعبية حميمة. 
«مغامرات أبو الفتح السكندري» كوميديا التراث والمعاصرة!
 في عام 1972 خاض محمد الماغوط تجربته الثانية مع الدراما التلفزيونية، من خلال مسلسل كان قد قدمه في الإذاعة من قبل، كان المسلسل هو «مغامرات أبو الفتح السكندري» الذي لعب بطولته ياسر العظمة وهاني الروماني وأنتجه التلفزيون السوري في خمس حلقات.
لم يكن الماغوط مشغولا باستلهام التراث العربي، على غرار ما كان يفعله كتاب التلفزيون، الذين وجدوا في قصص التراث وحكاياه ونوادره، مادة لا تنضب لمسلسلات وبرامج تراثية بليدة، لكن الماغوط تعامل مع المقامات برؤى مغايرة ومدهشة.
 فقد سعى لصياغة رؤى عصرية لمقامات بديع الزمان الهمذاني، محورها التعبير عن مشكلات الواقع بأسلوب فني ساخر، ولابد أن نلاحظ مبكرًا، أن السخرية كانت شرطًا فنيًا في كل تجارب محمد الماغوط الدرامية اللاحقة تلفزيونيا ومسرحيًا وسينمائيًا؛ وهي نقطة ارتكاز مهمة في صياغة عوالم وتقنيات الكوميديا لديه، أيًا كانت الفكرة أو الموضوع أو الأجواء، ولهذا اتخذ الماغوط من بطل مقامات الهمذاني، المغامر أبو الفتح السكندري وسيلة لتقديم صيغة مبتكرة لبطل دونكيشوتي مغامر، ليس بأسلوب بطولي وإنما برؤية تغريبية، كسرت وحدة الزمن ومرجعيات العصر، من خلال بعض التفاصيل البصرية، التي تقدم إيحاء كوميديًا ساخرًا. 
انشغل محمد الماغوط، بعد تجربته الثانية مع الدراما التلفزيونية، بشراكته المسرحية مع الفنان دريد لحام، واستطاع أن يقدم لنجم الكوميديا السورية اللامع، صيغة مسرح سياسي، حقق نجاحًا جماهيريًا وفنيًا كبيرًا في الوطن العربي من خلال مسرحيتي «ضيعة تشرين» عام 1974، و«غربة» عام 1976 إلا أنه عاد ليقدم عام 1977 مسلسلا للتلفزيون من خمس حلقات بعنوان «مبروكة» أعده مع عادل أبو شنب، ولعب بطولته الفنان ياسر العظمة، الذي كان قد شارك في بعض حلقات «حكايا الليل»، والوجه الجديد آنذاك جيانا عيد، وقد أخرج هذا العمل الممثل محمد العقاد، في أول وآخر تجربة إخراجية له، فيما بقي هذا العمل طي النسيان والإهمال، فلم يعد يتم عرضه مع الإعادات الكثيرة التي تتاح للأعمال التلفزيونية القديمة أحيانا.
 
«وين الغلط»... كوميديا التشرد والنبل والسياسة!
وفي نهاية السبعينيات، وبعد نجاح تعاونهما في المسرح، رأى دريد لحام في محمد الماغوط كاتبًا تلفزيونيًا يمكن أن يشكل رافدًا مهمًا في مسيرته التلفزيونية بعد مرض رفيق دربه نهاد قلعي، الذي كان يكتب أعماله التلفزيونية والسينمائية. 
 قدم الماغوط مع دريد لحام تجربتهما التلفزيونية الأولى: مسلسل «وين الغلط» عام 1979، الذي أخرجه خلدون المالح وشارك في الإخراج دريد لحام، الذي وضع اسمه مشاركًا في الكتابة مع الماغوط أيضًا، وهو أمر طالما انتقده الماغوط في مجالسه الخاصة، وقد صوّر العمل في استوديوهات تلفزيون أبوظبي في دولة الإمارات العربية المتحدة. 
 في «وين الغلط» كتب الماغوط عن الواسطة والمحسوبية والرشى والاحتيال على المواطن البسيط، عن شرطة السير الذين عندما يعجزون عن تحصيل الرشوة يتهمون المواطن بالعمالة لحلف الأطلسي، وصوّر بشكل كاريكاتيري تقاليد البيروقراطية التي كانت تطل برأسها في الحياة السورية، قبل أن تستحيل بعد عقود فسادًا محكمًا، وقدم إشارات انتقادية مبكرة عن الشكل التسلطي لبعض الأنظمة العربية في حلقة «القلم الضائع»، وقد اختزلها في رجلي شرطة، يمارسان «حكم قراقوش» على الحارة، فيتهمان مواطنًا في مقهى بأنه يعمل في السياسة لمجرد أنه يقرأ جريدة، ويسألان الناس عن اعتراضاتهم متوعدين إياهم: «استغلوا الديمقراطية كي نريكم»، وعندما يشكل أهل الحارة وفدًا ليشتكوا على هذه الممارسات لرئيس المخفر، يتهمون بسرقة قلم ذهبي أهدته إليه زوجته في عيد ميلاده، ويتم اعتقالهم والتنكيل بهم، فيعترف خمسة منهم تحت التعذيب بأنهم سرقوا القلم، قبل أن يكتشف مدير المخفر أنه قد نسي القلم في البيت!
لم يبارح الماغوط فكرة النقد السياسي لأنظمة الحكم، حتى وهو يختزل الحالات في «حارة» و«مخفر شرطة»، وكان يرثى لحال الموظف الذي لا يرتشي فيصوره بخيال كوميدي أسود، وقد انتقل من الحي الشعبي إلى (حارة الأكابر) إنما ليسكن في براميل القمامة، وعلى صعيد آخر، قدم كوميديا هي مزيج من التشرد والنبل، ومن السياسة والحياة، ومن حالات النصب والبراءة، والتي تبقى حلقة «بدلة العيد» أجمل تكثيف لهذه الصيغة الكوميدية ومعانيها، التي تجعل من لصين ظريفين، يجهدان في الهروب من السجن، لشراء بدلة العيد للطفل الذي سُجن والده الفلاح ظلمًا، حين نزل إلى المدينة لشراء بدلة العيد في يوم الوقفة! 
بوحي من بناء حبكة النص، انتقل دريد لحام في «وين الغلط» ولأول مرة في أعماله التلفزيونية، من فكرة الثنائي مع رفيق دربه نهاد قلعي (حسني البورظان)، ليشكل ثنائيا مع الفنان ناجي جبر الشهير بشخصية «أبي عنتر»، وهي شراكة خدمت أجواء العمل، الذي حقق نجاحا كبيرا لدى عرضه أواخر سبعينيات القرن العشرين، وأضحى اليوم من كلاسيكيات الكوميديا التلفزيونية السورية، فهو يعتمد اللقطة الذكية، والحوار السلس، والفكاهة الشعبية التي تتعدد موضوعاتها وأجواؤها، معتمدة على كاريزما حضور الثنائي الكوميدي: «دريد لحام - ناجي جبر»، بصحبة الكثير من الممثلين الذين تألقوا معه تلفزيونيًا: «صباح جزائري، نبيل خزام، عمر حجو، ياسين بقوش، سامية الجزائري، شاكر بريخان» وسواهم.

«وادي المسك»... هجاء الديكتاتوريات العربية! 
إلا أن التعاون التلفزيوني الأبرز بين الماغوط ودريد لحام تلفزيونيا، كان مسلسل «وادي المسك»، الذي قدم عام 1983، وأخرجه خلدون المالح، وتم تصويره في استوديوهات تلفزيون أبو ظبي أيضًا. 
صحيح أن «وادي المسك» لم يحقق النجاح أو الرضا الجماهيري اللذين اعتادت أعمال دريد لحام على تحقيقهما في حينه، ربما بسبب نهايته التي جاءت مخيبة لما أرداه الجمهور، من شخصية لها رصيدها الكبير في الأذهان، كشخصية «غوار الطوشة»، إلا أن نص «وادي المسك»، يعد واحدا من أجمل النصوص التلفزيونية في تاريخ الدراما العربية، فهو يقدم رؤية كوميدية سوداء لمدينة عربية فاضلة، تقوم على مجتمع مثالي متماسك، يؤمن بقيمة العمل والاستقامة والكسب المشروع، وينبذ قيم الاستهلاك والبذخ... مجتمع تسير حياته وفق نظام صارم يحترم الجميع قوانينه ويؤمنون به، ثم شيئًا فشيئًا ينهار كل شيء بقدوم شخص شبيه ينتحل شخصية «غوار» ابن الوادي المغترب، ويقوم بعمليات نصب واحتيال، فتتفشى السرقة ويتنشر الخلل، ويتحول «الوادي» إلى مدينة قائمة على الفوضى والفساد والرشى وتزوير الانتخابات، بعد أن تقصى نخبه الأصيلة في لعب سياسية ماكرة، ويُذل أعزة القوم، وينهار المجلس البلدي بعد أن ينصب الجهلة والطفيليون في مواقع سياسية وسلطوية حساسة، فيبدون أشبه بلعب في مسرح عرائس، يحركها ديكتاتور الشر والفساد والإفساد «تكميل» أو «غوار المزيف»!
 إنها صورة للمجتمعات العربية التي خرجت من عفويتها وأصالة قيمها، إلى فساد الاستهلاك والبذخ وسيطرة المال على كل ما هو جميل وأصيل في حياتها، والتي ابتليت بديكتاتوريات أفسدت نقاء الحكم الوطني الأول بعد خروج الاستعمار، وهاجس البناء والنهوض الذي كان يحكم أحلام تلك المجتمعات لتنتصر ديكتاتورية الشر على قيم البراءة والاستقامة وبناء الأوطان، وفساد القضاء على معايير العدالة والمساواة! 
وتتجلى رؤية الماغوط السوداء في انتصار «تكميل» حتى بعد اكتشاف أنه انتحل شخصية «غوار»، فينتصر عليه في المواجهة، وتقرر المحكمة نفي الأخير، وبقاء ديكتاتور الشر، بما بناه من قوة وسلطة وشبكة مصالح قائمة على الفساد، إلا أن رؤية دريد لحام التصالحية الذي نقرأ اسمه مشاركًا في كتابة النص، تتجلى في عودة شخصيات «الوادي» الأصيلة لمواجهة شرذمة الفساد في نهاية مفتوحة، تشي بالأمل! 
وهكذا وبعيدا عن دقة معيار التقبل الجماهيري لشكل حضور دريد لحام في العمل، يبقى مسلسل «وادي المسك» علامة بارزة في مسيرة الماغوط التلفزيونية، وفي هجائه المتواصل للديكتاتورية العربية التي تخرب البشر والحجر والقيم والعلاقات والزمن الجميل!

«حكايا الليل والنهار»... الوداع المتلعثم!
بعد «وادي المسك» امتدت شراكة الماغوط مع دريد لحام، التي كانت قائمة مسرحيًا وتلفزيونيًا، إلى السينما، فحققا معًا: «الحدود» عام 1983، الذي حصد جائزة أفضل سيناريو في مهرجان فالنسيا السينمائي بإسبانيا، و«التقرير» عام 1986، لكن عقد الثمانينيات الذي شهد هذه الشراكة السينمائية، شهد أيضًا انفصام عرى التعاون الفني بين محمد الماغوط ودريد لحام، بعد مسرحية «شقائق النعمان» التي لم يرضَ الماغوط عن طريقة إخراج دريد لحام لها، بل واتهمه بأنه شوه نصه المسرحي وحطمه، وحول مرثيته لزوجته الشاعرة سنية صالح وكمال خيربك إلى مجموعة اسكتشات راقصة.
وبرغم أن الماغوط لم يهجر المسرح نهائيًا، فقدم مسرحية «خارج السرب» التي أخرجها الفنان جهاد سعد عام 1998 ولم تلق نجاحًا فنيًا أو جماهيريًا يذكر، فإنه لم يفكر في العودة إلى الدراما التلفزيونية، التي كانت له فيها نجاحات محققة، إلا في السنوات الأخيرة من حياته، حين غرق في العزلة والاكتئاب، وانقطع حتى عن الكتابة الصحفية التي كان فيها نجمًا حقيقيًا، يطحنه قلق الكلمات، ورعب إدمان التميز، في كل لحظة مصيرية كان يدفع بها مقالة من مقالاته إلى النشر!
وهكذا قرر الماغوط عام 2005 أن يتعاقد مع التلفزيون السوري لكتابة جزء ثان من مسلسله الشهير «حكايا الليل»، يكمل فيه ما بدأه من أفكار في نهاية الستينيات، بعمل معاصر يرصد تطور النفاق والفساد وآليات التظاهر الاجتماعي، الذي كانت المدخل المفضل لديه لرؤية المجتمع والحديث عن عيوبه، واختار له عنوانًا جذابًا ومثيرًا (حكايا الليل والنهار).
 أراد الماغوط أن يقول: إن الفضائح التي كانت تحدث في ستينيات القرن العشرين في الليل وتحت جنح الظلام بين أزقة الحواري الدمشقية... تحدث اليوم، جهارًا وفي وضح النهار، حتى لتبدو فضائح الأمس، دعابات بريئة إذا ما قورنت بتغوّل وفساد اليوم! 
لكن بخلاف ما قدم من أعمال طوال حياته، كان يبدع فكرتها، ويكتب لها السيناريو والحوار كاملين؛ ويضبط معانيها وحالاتها وشخصياتها بدقة؛ فإن ما قدمه في هذه التجربة كان «بيع أفكار حلقات تلفزيونية» وليس نصوصًا مكتملة. وقد اختار الماغوط المخرج المخضرم علاء الدين كوكش لتولي هذا المشروع، إيمانًا منه بثقافته، وأهمية تجربته التأسيسية مع الدراما التلفزيونية، إلا أن العمل الذي ساهم بكتابة حلقاته، كوليت بهنا وعماد ياسين في أجواء من الاحتفاء الإعلامي بعودة الماغوط للكتابة للتلفزيون، لم ينجُ من المتاعب والعوائق والمماحكات الإدارية، ما دفع المخرج علاء الدين كوكش للاعتذار عن العمل أكثر من مرة، قبل أن يبدأ التصوير، في أجواء لم تكن صحية، ولم تكن مؤهلة لإعطاء نتائج كالتي تليق باسم مبدع كبير هو محمد الماغوط! 
عرض مسلسل «حكايا الليل والنهار» في التلفزيون السوري عام 2006 من دون أن يكون للماغوط حق تقييمه أو الاعتراف بنسبه الكامل له، أو التبرؤ منه كما كان يفعل مع أعمال لم يرض عن طريقة إخراجها، فقد رحل في الثالث من شهر أبريل من العام نفسه، وقبل أن يظهر مسلسله الأخير إلى النور! 
وقد كتب المخرج علاء الدين كوكش في بروشور مسلسل «حكايا الليل والنهار» يقول عن دراما الماغوط وروحه الخلاقة العظيمة: 
«يأخذنا محمد الماغوط في أفكاره الملهمة إلى عالم غرائبي. 
غرائبي ولكنه مفعم بمرارة الواقع. 
واقعي ولكنه مدهش في تناقضاته ولا معقوليته 
عالم قريب منا وبعيد عنا. 
قريب لأنه في داخلنا وينبع منا، وبعيد لأنه يحيط بكوننا في حكايا الليل والنهار... يفكك محمد الماغوط هذا العالم، ويعيد تركيبه لكي يقول لنا: إنه ليس قدرًا محتمًا علينًا، وإن باستطاعتنا إعادة بنائه من جديد خاليا من القهر والظلم. 
أحلام شعراء؟! 
لنتذكر أن بداية كل شيء صنعه الإنسان كانت حلما، ولو لم يبدأ كحلم لما تحقق».
 
 دراما البريق الجماهيري! 
في تأمل ما قدمه محمد الماغوط للفن عمومًا، وللدراما التلفزيونية على وجه الخصوص، نعثر على تجربة درامية مثيرة للاهتمام، تسلل من خلالها قلم شاعر كبير، ومتمرد كبير، وغاضب كبير، ليعكر صفو اللهو البريء والتسلية المسرحية والتلفزيونية العابرة، عبر حس هجائي مفعم بروح الدعابة المرة، والفن الحكائي الذي يهدم ليبني، ويسخر ليلامس مواطن الوجع بجدية مطلقة!
استطاع الماغوط أن يمرر أفكاره الكبيرة برشاقة كاتب متمكن من صنعة الكتابة للتلفزيون، ومن أساليب التواصل مع رعايا التلفزيون ومشاهديه، لأنه كان مراقبًا جيدًا لخصوصية كل فن على حدة، واستطاع أن يتمرد على مقاييس العقل التلفزيوني، الذي كان يرى في الكوميديا التلفزيونية، فنًا بسيطًا لا يمكن أن يحمل أفكارًا كبيرة، كالتي تحملها الكوميديا على المسرح أو في السينما، فقدم صيغًا ناجحة للكوميديا التلفزيونية التي تنطلق بالضحكة الصافية، لكنها قد تتحول إلى كابوس في النهاية، وفي كلتا الحالتين نحن أمام كاتب يهجو بحب، ويُضحك بلا ابتذال، وبلا إساءة لكرامة الإنسان الذي يضحك من أعماقه على آلامه وعيوبه! 
باختصار، ترك الماغوط أعمالا أضحكت وأبهجت بمقدار ما آلمت وعرّت وكشفت... أعمالًا صنعت له بريقًا جماهيريًا في السينما والمسرح والتلفزيون، حيث تتألق الكلمة بشاعريتها الموجعة، وتسمو الفكرة بعمق رؤيتها، وتنفجر المفارقة الدرامية بمرارتها الهجائية السوداء، وبقفشاتها اللفظية التي تذهب مثلا سائرا في العقل والوجدان ■