قسنطينة... شذرات من الذاكرة

قسنطينة... شذرات من الذاكرة

 المدينة التي لا تتوقف عن معانقة السماء، بينما تقبع تحت قدميها تلك الصخرة الشامخة منذ الأزل (ما قبل الميلاد)، خاشعة من خشية المدينة (نفسها) المَهيبة المنظر المليئة بالتاريخ والأسرار والمعرفة، ويحرسها الوادي الرابض في رباط وملازمة لكل ثغر دفاعاً عن كل حماها وحدودها. في كل مرة أزورها أجدها مختلفة، يقال إن المدن مثل البشر في تغيرهم وتحوُّلهم، لكن ريح الزمن العابر من أعمار البشر تطفئ جذوة الجمال المشتعلة فيهم، وتحول قوتهم إلى ضعف فتَهِن عظامهم وتشتعل رؤوسهم شيبا.

بينما تلك المدينة لا تشيخ أبدا، عرفت كل صروف الدهر، لم تسرق آلاف السنين من عمرها ولو جزءا صغيرا من سحرها، بل زادها احتراق أعواد الزمن طيبا وسحرا وبهاء ودلالاً، تتعدد صورها مع فصول الزمن، كأنها أخذت أجمل ما في مدن الكون وتفرّدت بالكل الذي يستحيل اكتشاف كنهه أو تقليده، والذي لا يُجزأ، وإن جزّء ضاع وفقد بريقه، لذلك تغار المدن منها، من قداستها ورهبتها وفتنتها.  
عرفتُها منذ سنوات طويلة، لكن اكتشاف المدينة بكل ما تزخر به من أمكنة ومعالم ومواقع وأسماء وأعلام في سنوات التسعينيات، سنوات الأزمة الأمنية في عشرية الدم والموت، أيام كان لا يجرؤ أحد على الخروج بعد الساعة التاسعة ليلا، لكن كنا نخرج ليلا بالسيارة، نتجول في شوارع وسط المدينة بين أزقتها وأحيائها وجسورها، نتفسّح إلى وقت متأخر من الليل، المدينة آنذاك فارغة، خلت من أهلها، اللهم إلا دوريات الشرطة وبعض الحواجز الأمنية الثابتة التي نصادفها في تجوالنا بين الحين والآخر هنا وهناك.
لا أدري هل حب الاكتشاف والمغامرة دفعانا إلى تحدي فعل القتل والموت في تلك الفترة الصعبة من تاريخ البلد، أو أن حداثة السن وعدم التبصر بالعواقب كانا المحرك الأقوى! الشيء المهم الذي أدركه جيدا اليوم هو أن مساحة الحب في قلبي تتسع أكثر كلما جمعني القدر بتلك المدينة مجددا، علاقة لا تبلى مع الزمن ولا تمل منها النفس أو يضيق بها الخاطر، وخصوصا مع الغروب وسكون الليل وهوائه العليل، عندما  يرخي الليل سدوله لا تكون المدينة آهلة، وتكون علاقتي مباشرة بها لا يشاركني أحد فيها، ينتابني إحساس قوي بأن المدينة لي وحدي، تهبني نفسها، وتنادي: «هيت لك..».
تتلاشى أثقال الحياة ومتاعبها رويدا رويدا ويزداد شغفي بتلك المدينة الأكثر إغراءً وإغواءً، وتبدأ روحي تعلو وتسمو إلى أن تحلّق بأجنحة (لا يراها أحد غيري) فوق جسورها وأحيائها العتيقة، حقا المدن تأسر من يشبهها. قد تبدو قسنطينة على نقيض ما أذهب إليه، تبثني شكواها وهمومها من أولئك الذين ينخرون جسدها ولا يحافظون على معالمها الأثرية وقيمتها التاريخية بجهلهم المركَّب، ومن هؤلاء الذين ينهبون ميراثها وثرواتها ويدمرون جمالها وبهاءها عن قصد وغير قصد، ترتعد فرائصي وأتألم لحالها. 

سر المدينة
العابرون تلك المدينة مهما بقوا أو استمروا، وكذلك المارُّون على هامشها أينما ذهبوا، أينما حلّوا أو ارتحلوا، مهما قلوا أو كثروا، لست منهم وليسوا مني، لا يشبهونني ولا أشبهم، لأنني ببساطة وبكل وضوح لست عابرا مثلهم، لأني أملك ما لا يملكون، أعرف ما لا يعرفون، منحتني المدينة ما لم تمنحه لغيري، قبضت على سر المدينة في راحة يدي. عرفتها وعشتها منذ زمن طويل، ومازلت، أعرف كل بقعة فيها، أبوابها السبعة التي كانت تغلق في المساء وتفتح مع كل فجر جديد؛ باب الجابية وباب الجديد وباب القنطرة وباب الواد وباب الرواح وباب الحنانشة وباب سيرتا. وجسورها الثمانية التي بُنيت عبر العصور للعبور بين ضفافها؛ جسر سيدي راشد وسيدي مسيد وباب القنطرة والشيطان والشلالات وملاح سليمان ومجازن الغنم وآخرها جسر صالح باي العملاق الذي بُني أخيراً. أعرف أرصفتها وأزقتها، ساحاتها وأسواقها، الجديدة منها والقديمة، التي أصبحت أثرا بعد أن كانت ذات زمن عينا، أو تلك التي مازالت تنبض فيها الحياة بأطيافها وأنفاسها التي تختلط مع حركات الناس وسكناتهم في غدوهم ورواحهم؛ حي القصبة أو حي السويقة، رحبة الصوف ورحبة الجمال، سوق العطارين وسوق الصياغة وسوق الحدادين وسوق الجزارين وسوق الغزل وسوق العصر. أعرف مساجدها وجوامعها؛ مسجد الأمير عبدالقادر (الجامعة الإسلامية) والجامع الكبير وجامع سوق الغزل وجامع سيدي الكتاني وجامع سيدي الأخضر وجامع الأربعين شريفا.
  ومن يذكر الآن تلك المغارات والكهوف والأدغال المحيطة بالوادي (وادي الرمال) والتي كانت مأوى وسكنا لأهل المدينة منذ آلاف السنين، وبقيت الرسوم المنحوتة على الصخور القريبة من الوادي، والأدوات الحجرية القديمة التي عثر عليها، وبقايا العظام البشرية التي ترجع لعهود قديمة جداً، والمسلات التي اكتشفت، كشواهد على استقرار البشر منذ ما قبل الميلاد بآلاف السنين. ولا غرابة في القول إن الكثير من الأمم والشعوب مرّوا فوق أرضها أو ولدوا أو عاشوا أو ماتوا على ترابها، منذ فترات بعيدة من الزمن أو على عهود مختلفة من التاريخ؛ العهد البونيقي، عهد المماليك النوميدية، العهد الروماني، عهد الوندال، العهد البيزنطي، العهد الفاطمي، عهد الزيريين، عهد الحماديين، عهد الموحدين، عهد الحفصيين، عهد المرينيين، عهد العثمانيين، عهد الاستعمار الفرنسي. لكنهم ذهبوا جميعا إما بحثا عن مآربهم، أو جرياً خلف مصالحهم في مدن أخرى، أو إلى مصيرهم المحتوم، أو إلى نهايتهم المنتظرة وغير المنتظرة، وظلت قسنطينة مستمرة قاهرة الخراب والموت على مر العصور والعهود. فعلى الرغم من عدم الاستقرار وكل تلك الفجوات في تاريخ المدينة، فإنها ظلت واقفة تتباهى بالجبال المحيطة بها من كل جهاتها الأربع؛ جبل الوحش من الشرق وجبل شتابة من الغرب، في حين يحيط بها جبل سيدي إدريس ومسجد عائشة من الشمال وهضبة عين الباي من الجنوب.

عبق التراث
الذي يتجول في شوارع المدينة ويمشي بين الناس يكتشف ميزة أخرى لقسنطينة، وهي أنها لا تقبل التنازل عن عاداتها وتقاليدها، ترفض بكل ما أوتيت من قوة وإرادة التخلّي عن ماضيها وتقاليدها الشعبية، تبذل كل ما في وسعها كي تحتفل وتحتفي باستمرار بكل مكونات ثقافتها الشعبية، من خلال الحفاظ على تراثها الغني والمتنوع، في الحرف التي أبت أن تزول مع مرور الزمن، وفي الموسيقى الأصيلة التي بقيت صامدة مع كل جديد ومع كل التطورات التي لحقت بالموسيقى في عصرنا، وغيرها كثير. على كل حال لا تنفك رائحة التراث الشعبي تنبعث من أحياء وشوارع وأزقة المدينة وبيوتها، عدا تلك التقاليد التي هجرها الناس، لكن عبقها وأريجها ما زالا يحتلان مساحة كبيرة في مخيلة وذاكرة الناس. تُجيد المدينة إظهار فتنتها وزينتها، وتعرف جيدا متى وكيف تتجمل بثوب ثقافتها الشعبية الذي يميزها عن غيرها من المدن المنافسة، إنها تزخر بألوان متعددة من المواسم والاحتفالات ولوحات متنوعة من اللباس والطعام والصناعات الحرفية، وقد تحول ذلك مع الزمن إلى أسلوب عيش وسلوك ونمط حياة.
مازالت أنغام الموسيقى الأندلسية الأصيلة وأغاني «المالوف» تطرب الناس وتشنف مسامعهم، إذ بعد سقوط الأندلس كما هو معروف تاريخياً استقر بالمدينة الأندلسيون كبقية مناطق شمال إفريقيا. كما أن نساء المدينة حافظن على لباس «الملاية» السوداء، رغم تراجع هذه العادة وبقائها عند نسبة من كبار السن على وجه الخصوص، وذلك بفعل التحولات الجذرية التي عرفها المجتمع على وجه العموم. علما أن «الملاية» التي ترتديها المرأة القسنطينية في تنقلاتها (كما ترتديها المرأة الجزائرية في بعض المناطق بين التطابق في الشكل أو بعض الفروقات كالحايك الأبيض على سبيل المثال)، هي عبارة عن ملحفة سوداء تلف الجسد كله، في حين «العجار»، وهو قطعة قماش بيضاء تغطي الوجه (الفم والأنف). 
وحكاية انتشار الملاية السوداء اختلف الرواة حولها، لكن الرواية الأكثر تداولا والأرجح في ظني  تؤكد أن السبب يرجع إلى ما ينوف عن مائتي سنة، بعد رحيل الحاكم (أحمد باي)، إذ وتعبيراً عن لوعة الفراق وشدة حزن أبناء المدينة على ذلك الحاكم المحبوب والمفضل لديهم، وعلى هذا الأساس تم ارتداء الملاية السوداء من قِبَل نسوة المدينة. 
تشتهر المدينة بصناعة الحلويات التقليدية (كالبقلاوة والقطايف وقلب اللوز وغيرها)، كما ينتشر بها العديد من الحرف والصناعات التقليدية كصناعة الحلي الذهبية والفضية، وصناعة الخزف، والنقش على الخشب، والرسم على الحرير والتطريز، والنحت على النحاس والتي عرفتها المدينة منذ زمن بعيد، ونقلها الأجداد بكل أمانة ومسؤولية إلى الآباء وحافظ عليها الأبناء وظلت مستمرة منذ أجيال. 
 المدينة الولود التي كانت معبرا للحجاج والعلماء وطلبة العلم نحو بلاد المشرق ، على مر التاريخ كانت حبلى بالرواد والمؤسسين، لم تبخل أبدا بإنجاب رموز العلم والنهضة من مثل الكاتب الكبير وشاعر زمانه أبو علي حسن علي بن لفكون القسنطيني، الذي يعتبر من أبرز العلماء وأغزرهم إنتاجا، والذي قام برحلة علمية في طلب العلم واكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومعاملة الرجال، والتي انطلق فيها من قسنطينة وزار من خلالها أغلب مدن المغرب الأوسط والأقصى حتى توقفه في عاصمة الموحدين مراكش. كما كان في قسنطينة العالم الجليل عبدالقادر المجاوي (1848-1913)، الذي درس بمدينة تطوان ثم استكمل دراسته بـ «القرويين» في فاس، وبعد عودته إلى بلده استقر في قسنطينة مدرسا، وقد ألَّف أكثر من ثلاثة عشر كتابا ورسالة في علوم شتى، كما كتب العديد من المقالات في الصحف التي كانت منتشرة آنذاك، ونظرا لعلمه الغزير وثقافته العميقة وفصاحة لسانه وقوة حجته، فقد ساهم في إشعال جذوة الإصلاح والنهضة الفكرية بالمدينة، كما تتلمذ على يده كثير من علماء قسنطينة، ومن بين أبرز طلبته الذين تأثروا به وتبنوا أفكاره وآراءه العلمية، العالم حمدان لونيسي، الذي درّس بالمسجد النبوي في المدينة المنورة، وهو أستاذ الإمام عبدالحميد بن باديس، وكذلك تلميذه المولود بن الموهوب الذي أصبح بدوره معلما ومدرسا، وهو أستاذ المفكر مالك بن نبي، وعند وفاته في مدينة قسنطينة ألقى العالم عبدالحميد بن باديس خطبة تأبينية مؤثرة، ومما قاله فيها: «أيها الإمام الذي ببزوغ شمسه تمزقت سحب الجهل، وبدت غرة القلم المعين، أنت الذي عانيت في سبيل إصلاحنا أتعابا طويلة... نبكيك بالدموع ويبكيك القرطاس والقلم، نبكيك وتبكيك المنابر ودور العلم والحكم، نبكيك ويبكيك هذا القطر الحزين... إلخ». 

آثار العلماء والمبدعين
إنما تحيا المدن والأمم بعلمائها ومفكريها ومبدعيها، الذين خلفوا آثارهم وتركوا بصماتهم، لهذا كلما جمعني القدر بقسنطينة وجدتني أبحث هائما على وجهي في صورة تلك المدينة، عن ملامحهم وسماتهم وآثارهم الباقية، فيما تتلبسني حالة من الضياع وحالة الشك لما أعثر على صورة ضاعت ملامحها وفقدت الهوية التي تُعرف بها. 
أمشي في أحيائها وأقف أمام معالمها وأتفرس في الناس والحشود، أتقصى سير رجالاتها وأبطالها ورواد نهضتها ونهضة البلد ككل، من أمثال رائد الإصلاح العالم الإمام عبدالحميد بن باديس (1889-1940) الذي يرتبط اسمه في ذاكرتنا الجماعية بكبار علماء الأمة وعظمائها، وعلى رأسهم الإمام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وشكيب أرسلان ومحمد إقبال. هذا العالم الفذ مؤسس «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين» في عام 1931، وغيرها من الجمعيات كجمعية «الإخاء العلمي» في عام 1925، وجمعية «التربية والتعليم الإسلامية» بقسنطينة في عام 1930، وفتح العديد من المدارس والنوادي أيام الاستعمار الفرنسي من أهمها دار الحديث ومعهد ابن باديس، كما أصدر العديد من الصحف والمجلات، وعلى رأسها «المنتقد» و«الشهاب»، ذاك هو العالم عبدالحميد بن باديس الذي شغله تأليف الرجال عن تأليف الكتب. 
وهكذا تظل قسنطينة دائما تدهش بروادها ورموزها ككتاب مفتوح على صفحات مضيئة، نقرأ من بينها صفحة من حياة المفكر مالك بن نبي (1905-1973)، الذي ملأ الدنيا بأفكاره ومقارباته في الحضارة، كتب في البداية باللغة الفرنسية ثم تحول إلى الكتابة باللغة العربية، وقد ترجمت كتبه إلى كثير من لغات العالم، وهناك من الحكومات والدول التي تقتدي بأفكاره وآرائه في معادلة الحضارة والتنمية وعلى رأسها إندونيسيا وماليزيا اللتان قطعتا شطرا كبيرا ومهمَّا في التقدم ومواجهة تحديات العصر. 
كان لمدينة قسنطينة الأثر الأبرز في تغيير مجرى حياته، من خلال استكمال بناء شخصيته العلمية وتحديد معالم مساره الفكري، وفي هذا الصدد يحدثنا مالك بن نبي بنفسه في الجزء الأول من مذكراته (مذكرات شاهد للقرن)، حيث يقول: « ففي تبسة كنت أرى الأمور من زاوية الطبيعة والبساطة، أما في قسنطينة فقد أخذت أرى الأشياء من زاوية المجتمع والحضارة، واضعا في هذه الكلمات محتوى عربيا وأوربيا في آن واحد».
 أجدني مجددا أشم رائحة الحبر الطازج وعطر الورق الفواح وأنا أقلب صفحة أخرى من صفحات كِتاب قسنطينة المتسعة على كثير من الدهشة والإغواء، صفحة الشاعر والروائي مالك حداد، ابن قسنطينة (1927-1978)، صاحب ديوان «الشقاء في خطر» وديوان «أنصت وسأناديك»  وكتاب  «الأصفار تدور حول نفسها» ورواية «سأهديك غزالة» ورواية «الانطباع الأخير» ورواية «رصيف الأزهار لم يعد يجيب» ورواية «التلميذ والدرس»، والذي ترأس اتحاد الكتَّاب الجزائريين. هذا المبدع الذي لم يفقد حضوره فينا ولم يتوقف عن إدهاشنا وإغواء كل الأجيال، حتى تلك التي لم تعاصره، مالك حداد الذي تألم من منفاه اللغوي أيما ألم (كان يكتب ويقرأ بالفرنسية)، مات وفي نفسه شيء من الحنين إلى اللغة العربية، تلك اللغة التي كان يأمل أن يقرأ بها الأدب والشعر العربيين (مباشرة ومن دون لغة وسيطة)، كان يحترق لأنه لم يتمكن من قراءة شعر المتنبي وأحمد شوقي وغيرهما من الرواد بلغتهم الأصلية. توقف مالك حداد عن الكتابة ووضع قلمه جانبا بعيدا عن سحر الكلمات العذبة، لأنه لم يقو بعد الاستقلال على استمرار شعوره بالغربة اللغوية، لم يقو على الكتابة بلغة الآخر، لغة المستعمر التي كانت عذابه ومنفاه، فعلى الرغم من أنه كان يكتب بروح جزائرية فإنه كان يحس بأن اللغة الفرنسية تحول بينه وبين تاريخه وماضيه وهويته وثقافته الوطنية. 
لم يكتب مالك حداد باللغة العربية، لكن تأثير وسحر وإغراء لغته الشعرية وأدبه الملتزم امتدت إلى كثير من أدباء وشعراء العربية، وعلى رأسهم الكاتبة الروائية أحلام مستغانمي ابنة مدينة قسنطينة وصاحبة «الثلاثية»، والتي كانت تكتب روايتها الأشهر «ذاكرة الجسد» (أعيد طبعها عشرات المرات) بوحي من شخص ولغة مالك حداد، وهذا باعترافها، وكعربون وفاء لروح مالك حداد أهدته أول عمل روائي لها، كاتبة على الصفحة الأولى من الرواية: «إلى مالك حداد...ابن قسنطينة الذي مات متأثرا بسرطان صمته، ليصبح شهيد اللّغة العربية وأوّل كاتب يموت قهرًا... وعشقًا لها. أهدي هذه الرواية وفاءً متأخرًا...». الرواية التي اغترفت فيها أحلام من معين مالك حداد ومن ذاكرة معالم وأعلام المدينة، الرواية التي استعادت فيها الملامح البعيدة من عمر مدينة قسنطينة، ها هي مستغانمي تناجي قسنطينة بجمال كلماتها وإثارة أسلوبها ومتعة معانيها وشوق مشاعرها: «دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع، دعيني أخبّئ رأسي في عنقك. أختبئ طفلاً حزيناً في حضنك. دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه المساحات المحرقة.. لي. فاحرقيني عشقاً، قسنطينة!».

مدونات قسنطينة
كثيرا ما وصفها المؤرخون والرحّالة في كتاباتهم، من خلال تدوين دقائق وتفاصيل تجوالهم ورحلاتهم وتسجيل أهم انطباعاتهم عما شاهدوه وما خبروه. وقليلا ما اهتمت الدراسات الأكاديمية بهذه الناحية (أدب الرحلات)، ونادرا ما أصبح هناك اهتمام بإحياء تراثها والحفاظ على كيانها من الضياع. فقد وصفها ياقوت الحموي في «معجم البلدان»  بأنها «قلعة كبيرة جدا، حصينة عالية لا يصلها الطير إلا بجهد». كما ذكر مناقبها أبو عبدالله الشريف الإدريسي في «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، ومن بين أهم ما ذكر أنها مدينة عامرة وبها أسواق وتجارة وأهلها مياسير ذوو أموال وأحوال واسعة ومعاملات للعرب، وتشارك في الحرث والادخار، والحنطة تقيم بها في مطامرها مائة سنة لا تفسد، والعسل بها كثير... وإنها من أحصن بلاد الله، وهي من أحسن ما رآه من البناء. في حين وصفها أبو الفداء صاحب حماة في «تقويم البلدان» بأن فيها نهراً يصب في خندقها العظيم ويسمع لذلك دوي هائل ويُرى النهر في قعر الخندق مثل ذوابة النجم لشدّة ارتفاعها (أي قسنطينة) عن خندقها... كما امتد تأثير المدينة وسحرها إلى العديد من الكتاب والرحالة الأجانب، ومن أهمهم الأديب جي دي موباسان، الذي انبهر بموقعها الصخري، واندهش من نهرها وأوديتها وآثارها التاريخية.
المتوغل في ذاكرة المدينة يذهل من تغيرها وتغيُّر ملامحها وآثارها، مهما فتش أو نقب في سراديبها ومساربها وتعاريجها، مهما حاول استرجاع ذلك الماضي الجميل واستعادة بهجة الأمكنة وروح من سكنوها، سيفاجأ حتما بواقع المدينة والحال التي آلت إليها. فالمدينة التي عرفت انتظام العمران والتجانس الاجتماعي على اتساع تاريخها وطوله، ضاقت في الأزمنة المعاصرة بسلوكيات بعض أهلها وبالفوضى التي أصبحت تطبع الحياة العامة. 
في قسنطينة يراودني دومًا ذلك الحلم الجميل، في صورة لا تكاد تغيب عن البال، أحاول أن أمسك بأول خيط يربطني بها، لهذا كنت أبحث وأنا أسير في شوارعها وأحيائها أو جالسا في مقاهيها العتيقة أو ماشيا في أزقتها الضيقة أو متأملا في جوامعها ومساجدها علني ألتقي مالك حداد الذي دوختني كلماته وهزتني مواقفه، أو علَّني أحظى بالجلوس إلى دروس العالم المصلح عبدالحميد بن باديس، أو علّني أصادف المفكر مالك بن نبي وهو في مرحلة شبابه ونضوجه الفكري وأستمتع بسماع رؤاه وتصوراته الحضارية. لكن أنى لي ذلك، فكلما حاولت البحث كي أستعيد تلك الملامح البعيدة من ماض جميل، أجدني أبحث بلا جدوى عن ماض غادرنا من دون رجعة، وكلما حاولت أن أمسك بخيط الذاكرة كي أعيش تلك اللحظات تصطدم محاولاتي مرة أخرى بالفراغ. لكن مهما كانت فجوة الفراغ مهولة، فالمدينة مصرة على الحياة، مصرة على الاستمرار، حتى في أحرج لحظاتها. فالعلة في الناس لا في قسنطينة المكان، والعلة في أولئك الذين أساءوا إليها ونكروا جميلها، مهما كانت أخطاؤهم الفادحة، مهما تجاوزت زلاتهم عنان السماء، ظلت قسنطينة تغفر باستمرار وتسامح بلا حدود. 
إنني في إقبال بالحديث بما لا يكاد يقبل على سوى قسنطينة، هذا ما قد أُتهم به، لا أصرف نظري، وأنزوي بانزواء قسنطينة وأميل حيث مالت، أنصت لها، وأصدقها وإن كذبت، أوافقها وإن خالفت، أصفح عنها وإن جارت، وأتبعها أينما سلكت وأي وجه من وجوه القول تناولت، أتعمد القرب منها، وأستهين بكل خطب جليل داع إلى مفارقتها، أبهت عند رؤيتها وتبدو علي الروعة عند طلوعها فجأة، أضطرب عند سماع اسمها فجأة. فحبي لقسنطينة يعمي ويصم على حد ما ذهب إليه شيخنا ابن حزم الأندلسي في «طوق الحمامة في الألفة والألاّف» سنة 1027 ميلادية. تلك المدينة الملهمة التي لا نغادرها إلا ويبقى في أنفسنا شيء منها. كأنها جزءٌ منا. جزء من دمنا ولحمنا وروحنا. شكرا قسنطينة على كل شيء منحتينيه