إدمان من دون مخدّر

إدمان من دون مخدّر

تشهد المجتمعات الحديثة سيلاً جارفًا من الإدمانات، إدمانات من دون مخدّر تسمّى أيضًا إدمانات سلوكية، على وجه الخصوص، إذ - كما يقول بروفيسور بدّورة - لم يعد الشيء هو الذي يحدد الإدمان إنما نمط العلاقة التي يقيمها الفرد مع سلوك تكراري أكثر فأكثر سيطرة وتأثيرًا سلبيًا.

 

بالفعل، منذ بداية القرن الحادي والعشرين ومع ظهور ما يسمّى بالمجتمع الاستهلاكي، أصبح الاستهلاك إدمانًا وعُرِف كذلك، يضاف إلى ذلك ما قدّمته التكنولوجيا وتقدمه، حاليا، من وسائل اتصال في غاية التصنّع والتعقيد تجذب الإنسان: وسائل تؤمّن له الهروب، تسمح له باكتشاف وقائع أخرى يمكنه تحقيق مشاريع ضمن إطارها، تسمح له بالعيش في الخيال، بضبط وإنجاح حياته المفترضة مثلاً... إلخ.
ينبغي التنويه هنا لواقع ظهور كمٍّ من الإدمانات الجديدة التي تشكل، إلى جانب الاكتئاب، الأمراض الرمزية للعصرنة، حيث تبقى مسألة الفصل بين كونها أمراضًا أو مجرّد عادات غير سليمة اجتماعيًا أو صحيًا، ترتكز على الأشكال التي تأخذها تعابير الألم النفسي في ثقافة معينة، وتعتبر أمرًا يصعب حسمه. والحقيقة تقال، تفرض مسألة الحدود بين ما هو مرضي وبين ما هو سوي نفسها على مستوى الإدمانات من دون مخدر، أكثر منها على مستوى الإدمان على المواد السامة وبخاصة على مستوى الأمراض الذهنية، كما وعلى مستوى المحددات الاجتماعية والثقافية والبيولوجية للاضطرابات. والمعالم الضرورية هنا هي وصفيّة وفينومينولوجية لا يمكن خلطها مع المقومات البيولوجية المثبتة.
هذا، ويرفع المجتمع المعاصر خطر الإدمان مع نتائج خطرة جدًا في بعض الأحيان عند إنسان اليوم، وبخاصة لدى من تبدو قدرات الضبط الذاتي لديه محدودة لأسباب متعددة، وذلك بفعل التقديمات والتحفيزات الاستهلاكية التي لا حصر لها والتي يعرضها عليه في كل المجالات الحياتية.

تحديد الإدمان من دون مخدّر (أو الإدمان السلوكي)
يستلزم التحدث عن الإدمان، بالتالي، تحديدًا جديدًا لمفهوم التبعية التي لم تعد ترتبط، بالضرورة، باستخدام مادة (مخدّر، كحول، عقاقير، تبغ... إلخ) بل بسلوك؛ تشبه مواصفاته مواصفات المخدّر، مُدخِلا بذلك فكرة الإدمان من دون مخدر أو مادة.
يحدد جودمان الإدمان، بشكل عام، كونه «نسقا Process يسمح سلوك معين، من خلاله، بإنتاج لذة وبالوقت نفسه بإبعاد أو خفض إحساس داخلي بالانزعاج، وذلك بشكل يتميز بالعجز المتكرّر عن ضبط هذا السلوك ومتابعته برغم معرفة نتائجه السلبية». ومن ناحية ثانية يمكن القول إن الإدمانات من دون مخدّر تتميّز بفقدان الفرد قدرته على ضبط السلوكات المتطرّفة التي تتميز أيضا بانعكاس هذه الإدمانات سلبًا على صحته الفيزيقية أو النفسية، كما وعلى حياته العائلية والاجتماعية. يتم، هكذا، وصف سلوكيات إدمانية متنوعة كالسلوكيات الغذائية (آنوركسيا، بوليميا)، عمليات الشراء القهري... إلخ. وفي حالة الإدمان بشكل عام، يكون الشعور الذاتي بالاستلاب  aliénation وإحساس الفرد بأنه ضحية نسق يتجاوز إدراكه بأهمية التحولات الموضوعية الناجمة عن الأوليات البيولوجية.
بتعبير آخر نقول، تصبح سلسلة الإدمانات السلوكية أكثر فأكثر تعددًا وتنوعًا يومًا بعد يوم، بحيث تشمل: الألعاب المرضية (كالقمار وغيره من ألعاب الرهان على المال)، ألعاب الفيديو، الإلكترونيات (بما تتضمنه حاليًا من اهتمامات مفرطة بالشبكات الاجتماعية)، الهاتف المحمول ومختلف الإمكانات التي يقدمها والتي تقدم مجالات متنوعة للإدمان، الممارسات الرياضية الخطرة، العمل، الجراحة التجميلية، الجنس، الشراء القهري، السلوك الغذائي، الإدمانات العاطفية، الإدمانات الجنسية... إلخ.
لكن، مع أو من دون مخدّر، يمكن تحديد الإدمان كونه ذلك النسق process الذي يدفع فردًا معينًا لتكرار ابتلاع مادة ما أو لتحقيق سلوك معيّن بهدف استعادة تأثيراته النفسية (يسمى ذلك الاعتماد أو التبعية dépendance) أو أيضًا لتجنّب الانزعاج الذي سببه الحرمان منهما Sevrage.
وهناك نوعان من التبعية: التبعية النفسية، وتتميز بذلك المظهر الاضطراري (القهري) للحاجة إلى تناول المادة أو للرغبة بتحقيق السلوك. أما التبعية الفيزيقية، فتتلاءم مع اعتماد خلايا الجسم وأنسجته على مخدّر معيّن، وهي تتمثّل عبر ظاهرة «نقص» مكثّف نسبيًا تبعًا للمادة أثناء الانسحاب Le Sevrage، أي أثناء إيقاف تناولها أو تبعًا للسلوك أثناء التوقف عن تحقيقه.
وبما أن الإدمان من دون مادة يشكّل موضوع مداخلتنا الحاضرة، فإنه يستحيل التوقف عند مختلف أنواعه بالتفصيل، وسنكتفي، إذن، بتناول إدمان الإنترنت، الحديث جدًا، الذي من شأنه تأمين فكرة وافية عما يسمّى بـ«إدمانات سلوكية».

إدمان الإنترنت
لايزال من الصعب إعطاء تحديد دقيق لهذا الإدمان، لكن الباحثين يجهدون، حاليًا، لضم هذا الاضطراب ذي الانعكاس السلبي على حياة الناس ضمن إطار الطبعة الجديدة من الدليل الإحصائي والتشخيصي، أي DSC V. ومع ذلك، يمكن ذكر المحكات التالية لتحديد هذا الإدمان:
< التحمل tolérance؛ الانسحاب أو الفطام Le Sevrage (إثر الفطام هناك إثارة نفس - حركية، أفكار وسواسية، أحلام بخصوص الإنترنت، حركات إرادية أو غير إرادية للأصابع وهي تنقر على ملامس الكمبيوتر، ألم)، عودة إلى استخدام الإنترنت لتجنّب زملة الانسحاب، استخدام أطول من المتوقع، رغبة دائمة وجهود غير مثمرة لضبط أو إيقاف استخدام الإنترنت، تمضية وقت مهم مرتبط بالإنترنت (شراء، لعب... إلخ)، خفض أو إيقاف نشاطات اجتماعية، مهنية، أوقات فراغ... إلخ، متابعة السلوك برغم معرفة المشكلات التي يثيرها، والأخطر إنما يكمن في واقع استخدام العديد من المدمنين لمواقع الإنترنت الاجتماعية لإرساء علاقات اجتماعية جديدة، حيث تقدم الإنترنت راحة أكثر من تلك التي تقدمها العلاقة مع الأصدقاء الحقيقيين، هذا واقع كشفت عنه البحوث المحققة في هذا المضمار، حيث تبين أن العديد من مستخدمي الإنترنت انطوائيون.
وتعتبر التبعية للإنترنت بمنزلة نسق يحل العالم الخيالي، خلاله، محل العالم الواقعي عبر الأداة الإعلامية، حيث - كما يقول فاليا - يشكّل استبدال الخيال بالواقع طريقة وحيدة للعيش وأكثر مظاهر هذا الإدمان دلالة عيادية، وقد يحدد هذا الإدمان على الإنترنت تجنب الفرد مشكلات الحياة اليومية. والأكثر إثارة يبقى تطوّر العالم الافتراضي الذي يمتزج مع تمثل عالم الخيال، حيث يكمن التساؤل الأساسي في معرفة ما إذا كان هناك تكامل بين العالمين أو - بمعنى أدق - إن كان العالم الافتراضي يحل محل الآخر لأنه أسهل ويساعد الفرد على تحمل العالم الواقعي، فكما يقول بالار، كاتب العلم الخيالي: «يمثّل ذلك الحدث الأكبر في تطور البشرية، إذ، للمرة الأولى، سيكون النوع البشري قادرًا على رفض الواقع لاستبدال النظرة المفضّلة لديه به».
ثم إن ظهور هذا العالم الافتراضي الجديد لا يترجم أزمة عميقة في التمثّل فحسب، بل يصيب صورة الذات بحد ذاتها ويعدّل معنى الهدف من الوجود، لأن التمثلات الافتراضية تقود الفرد باتجاه الإكراه على العيش - وأحيانا البقاء - ضمن تمثلات الواقع بدلاً من عيش الواقع نفسه، إذ إنه يقدم عالمًا مفعمًا بالإغراءات، مغلّفًا، مثاليًا ويمثل إطار حياة مستقرة، حامية... إلخ، لكنه إطار حياة وفي حركة دائمة ومصدر للدينامية والتحرك.
هذا ويصعب تقدير عدد الأشخاص المصابين، لأن هذه التقنية هي اليوم في فورة تطورها هذا من جهة، ولأن المنهجية العلمية الأساسية المستخدمة حاليا في معظم البحوث تعتمدها كتقنية، من جهة أخرى.
ولقد أظهرت البحوث المتعددة أن الاستخدام الإشكالي للإنترنت يتلازم مع العديد من الاضطرابات الأخرى كالشراء المرضي، الكحولية، اللعب المرضي... إلخ، لكن اضطرابات المزاج، الاضطراب الثنائي القطب بشكل خاص، بدت الأكثر تواترا، كما تبيّن أن العديد من مستخدمي الإنترنت إنطوائيون ويعانون اكتئابًا.

تطور استخدام الإنترنت
يمر مستخدمو الإنترنت، عمومًا، بمراحل: مرحلة افتتان بهذه التقنية الجديدة (وسواس)، تعقبها مرحلة زوال الوهم (تجنّب، رفض أو تبعية)، ثم مرحلة انخفاض الاستخدام الذي يصبح، بعد ذلك، كأي نشاط آخر (مرحلة توازن). بتعبير آخر نقول، إن تعلّق الأمر، في البداية، بحب الإنترنت، فإن التبعية تأتي تدريجيا، في ما بعد، على حساب الحياة المهنية والاجتماعية والشخصية، حيث يبقى مدمنو الإنترنت عند المرحلة الأولى فلا يتجاوزونها، لذا يكمن أوّل هدف علاجي في مساعدتهم على بلوغ المرحلة الثالثة.
ويمكن التمييز بين نوعين على مستوى هذا الإدمان يتوازيان مع استخدام نفس - مرضي متواجد، مسبقًا، لدى المدمن: الإدمان على الإنترنت (أي الاستخدام المفرط للإنترنت نفسها على حساب الحياة الشخصية والاجتماعية والمهنية... نظرًا لكون هذا الاستخدام المرضي لا يظهر سوى عند من لديه استعداد للإصابة بالتبعية)، والإدمان المتعدد الاتجاهات، حيث يستخدم الإنترنت للحصول على بعض الخدمات (كالشراء، اللعب، الجنس... إلخ) وحيث يستخدم المصابون به وسائل أخرى إن لم تكن الإنترنت ممكنة.

علاج الإدمان على الإنترنت
يعتبر بعض المعالجين أن العلاج التحليلي هو شديد التكيف مع مشكلات إدمان الإنترنت، لأنه «يستخدم اللغة اللفظية كدعامة أساسية للتعبير عن الأفكار، في حين يعتبر آخرون أن هذا النهج العلاجي يهمل معطيات ذات دور مهم بظهور هذا الإدمان وهي ضرورية لوضع خطة العلاج.
وهناك «مجموعات الإنترنت المجهلة» المرتكزة على نموذج «جماعات الكحول المجهلة» التي تعتبر بمنزلة أحد الالتماسات العلاجية والتي تستخدم غالبًا كمكمّل لالتماسات علاجية أخرى.
وحسب إشيبوروا، تشترك الإدمانات من دون مخدّر، أي الإدمانات السلوكية، على الرغم من تنوعها، بنقطة مشتركة: فقدان الضبط بغياب أي مادة كيميائية، وبالتالي، هناك تماثل بين نقاط التدخل العلاجي بخصوص إدمان الإنترنت وتلك المستخدمة في كل أنواع الإدمان الأخرى، وهي: ضبط المثيرات، تعريض مطوّل لوضعيات الخطر المثيرة للقلق، حل مشكلات خاصة، نمط حياة جديد، وقاية من الانتكاسات. وهو يقترح، لإدمان الإنترنت، برنامجًا علاجيًا يتضمن خمس مراحل يخصص كلاً منها لإحدى هذه النقاط المذكورة.
وهناك برامج تدخل علاجي أخرى متعددة ومتنوعة، مستوحاة هي الأخرى من العلاجات السلوكية المعرفية قد تم استخدامها لعلاج إدمان الإنترنت، علاجات تشدد على وجوب أخذ الاضطرابات النفس - مرضية المتلازمة (الموجودة مسبقًا) مع التبعية للإدمان كالتدعيم الإيجابي لهذه التبعية، التشوهات المعرفية المميزة لأفكار المدمن والشبكات الاجتماعية المحيطة به بالاعتبار.
باختصار، نقول مع رومو: «هناك نقاط مشتركة عدة بين مختلف البرامج المستخدمة لعلاج إدمان الإنترنت (ضبط المثيرات، العودة إلى المراجع لتأمين المعلومات، العمل على المهارات الاجتماعية، إعادة البناء المعرفي، الاسترخاء... إلخ)، لكن الأعمال التي تُبرز فعالية هذه البرامج العلاجية لاتزال غير كافية. إنما يجب ألا يؤدي هذا الاضطراب الجديد لرفض الإنترنت بشكل قاطع، بل للاهتمام بالوسائل الكفيلة بضبط استخدامها والإعلام بخصوص مخاطر الإفراط في هذا الاستخدام، أي بالوقاية من سلوك التبعية له.
ومن المهم جدًا التشديد على وجوب القيام بتقييم جيّد للمشكلة الكامنة وراء استخدام الإنترنت (اكتئاب، اضطرابات قلقية، أنواع أخرى من التبعية... إلخ)، منذ بداية التدخل العلاجي، كما لا بد من التركيز على أهمية وعي الفرد بوجود مشكلة واقعية، إذ يشكّل ذلك، كما في الإدمان على العمل، جزءًا مما يسمّى بالإدمانات الإيجابية، وهذا المظهر الإيجابي لاستخدام الأداة يعقد، أكثر فأكثر، وعي الفرد بخطورة المشكلة ■