الشبان في الزمن العربي الصعب

الشبان في الزمن العربي الصعب

يتفق المربون وعلماء النفس على أهمية مرحلة المراهقة في حياة الفرد وفي تطور شخصيته واكتمال نضجه من مختلف الجوانب الجسمية والعقلية - المعرفية وتكامل قدراته ومهاراته. إنها مرحلة التحولات الكبرى في حياة الفرد، فالمراهقة ذات طبيعة بيولوجية واجتماعية تتميز بحدوث تغيرات جسمية واجتماعية مهمة. يحاول الفرد في أثناء هذه المرحلة تجاوز الفجوة بين مرحلتين، مرحلة الطفولة، حيث يعتمد الطفل على الآخرين إلى حد كبير، ومرحلة الرشد، حيث يمثل الاستقلال والاعتماد على الذات أهم خصائصها.

 

يلاحظ، في هذه المرحلة، ميل المراهق إلى المناقشة والحوار في القضايا المختلفة العلمية والأيديولوجية والفلسفية، ويبدأ بطرح الأسئلة حول الوجود والعالم والعدالة وغيرها من المفاهيم المعقدة، وهذا ما لم يكن الطفل قادرًا عليه من قبل. كما تتبلور أفكار المراهق المتعلقة بمشكلات المجتمع الأساسية كالعدالة والحرية والمساواة، ويؤمن بقدرة البشر على التغيير، وهو مستعد لوضع أفكاره موضع التطبيق، ومستعد أيضا للتضحية من أجل ذلك.

  شلة الأقران وتطور شخصية المراهق 
تقوم جماعة الأقران بدور مهم في التنشئة الاجتماعية للمراهق، وتؤثر في نموه وانتقاله من عالم الطفولة إلى عالم الكبار. إن علاقات الصداقة القوية مع الأقران تهيئ الفرصة لتبادل الأفكار، وتمكن المراهق من إدراك أفضل لمهاراته وإمكاناته المختلفة. وتأخذ هذه العلاقة أهمية خاصة في تحضير اليافع للدور الاجتماعي وتسهيل دخوله إلى عالم الراشدين. وتتغير علاقات الصداقة في مختلف مراحل الحياة، ويتغير عدد الأصدقاء والوقت الذي يقضيه الفرد مع الأصدقاء. وفي المراهقة المتأخرة، يصبح الفرد أكثر نضجًا من النواحي المعرفية والاجتماعية، فهو يعطي قيمة مهمة للعلاقات التبادلية مع الأقران التي تتصف بالمودة والحميمية. 
يتأثر المراهقون تأثرًا قويًا بمعتقدات الجماعة الثقافية التي ينتمون إليها، فهم اليوم وغدًا سيتأثرون بسلوك أقرانهم وبمعتقداتهم، فالدراسات التاريخية تشير إلى أن الطفل يكتسب أبعاده الاجتماعية من خلال التفاعل مع زمر من الأطفال من أعمار مختلفة، إذ يقوم الأقران الأصدقاء الأكبر عمرًا بدور مهم في النمو الاجتماعي للطفل بمساعدته في حل مشكلاته وتطوير قدراته المختلفة، وبتحضيره للاندماج في الحياة الاجتماعية. 
عندما تكون الأسرة قليلة التفاعل مع الطفل، نراه يتجه بقوة نحو الأقران للحصول على المعلومات وعلى النصائح وعلى الصداقة، فالضغوط التي يمارسها الأقران تفعل فعلها في صياغة شخصية المراهق.
 
  تكوُّن جماعة الأقران 
يمكن لمجموعة الأقران أن تتكون وتتطور بالاشتراك في الاهتمامات كالرياضة أو الفنون، ويمكن أن تنمو بين أشخاص يعيشون تجارب مشتركة كالحياة المدرسية. كما يمكن لهذه المجموعة أن تعكس اهتمامات الانتماء إلى حي أو إلى منطقة، أو إلى بلد، وتتكون حول أهداف سياسية أو دينية. كما يمكن لمجموعات المراهقين أن تتشكل حول شكل من أشكال السلوك، مثل التدخين ولعب الورق، أو ممارسة النشاط الرياضي أو الموسيقي، أو تعاطي المخدرات. فكل مراهق سبق له الانتماء التلقائي إلى مجموعة أو أكثر من مجموعات الأقران، والتي غالبا ما تكون من نفس الجنس.
والأسئلة التي تستحق البحث، هي: كيف يعزز جو المجموعة سلوك المراهق عبر الزمن؟ وما هي خصائص مجموعة الأقران، ومدى استقرارها، وسياق نموها؟ وكيف ينمو سلوك المراهق في إطار هذه المجموعة؟
تأخذ مجموعة الأقران أهمية خاصة في بداية المراهقة، ويتضح تأثير المجموعة من حيث المدة الزمنية التي يقضيها المراهق مع الأقران، هذه المدة تفوق الوقت الذي يقضيه مع أهله أو غيرهم من الراشدين. وتتميز هذه العلاقات بقوتها وعمقها وشدة تأثيرها مقارنة بالعلاقات التي يقيمها الطفل في مراحل نموه السابقة. لقد أشارت الكثير من الدراسات إلى ازدياد الحاجة الفردية للخضوع إلى نموذج المجموعة، والتماثل مع هذا النموذج في المراهقة المبكرة، ثم تنخفض هذه الحاجة في المراهقة المتأخرة.
تتكون مجموعة الأقران من أفراد يتشابهون في السلوك وفي الأفكار وفي الكثير من الخصائص. فالمجموعة تكون، في الوسط المدرسي، أكثر تجانسًا، مقارنة بمجتمع التلاميذ الواسع، وخصوصا في ما يتعلق بتكرار التدخين أو تناول المشروبات الروحية واستخدام المخدرات والتشابه في الأزياء. ويلاحظ التجانس بين أعضاء مجموعة الأقران من حيث الخصائص الأكاديمية والشخصية، والاهتمامات الرياضية، إذ يميل المراهق إلى اختيار أصدقاء يتشابهون في سماتهم التي تستخدم كمعايير لمجموعة الأقران.
وتتشكل الكثير من مجموعات الأقران من أبناء حي واحد أو منطقة واحدة وتنتمي، غالبا، إلى الطبقة الاجتماعية نفسها، أو إلى المجموعة الدينية نفسها. فهذا النوع من التنظيم يمكن المراهق من الشعور بالهوية مع أبناء جلدته. وتوفر مثل هذه المجموعات للمراهق مشاعر الأمن والطمأنينة. أما بعض المجموعات الخاصة المحددة دينيًا أو طبقيًا أو عائليًا فهي تمكِّن المراهق الذي لا يتمتع بشعبية واضحة من الاندماج والتكيف في إطار المجموعة. 
وفي حال رفض المراهق وعدم قبوله في المجموعة، أو في حال طرده منها، يترك هذا الحدث أثرًا عميقًا في نفس المراهق، وخصوصا إذا تزامن ذلك مع أوضاع أسرية قاسية، كالطلاق أو الانفصال بين الوالدين أو الإدمان. عندئذ يساهم رفض مجموعة الأقران للمراهق في دفعه نحو الأزمات كالاكتئاب أو محاولة الانتحار.   
وتحدد بعض مجموعات المراهقين هويتها عبر بعض أنواع السلوك أو من خلال بعض أنواع المظاهر الخارجية والملابس. وتتحدد قوة تأثير المراهق في مجموعات الأقران بعوامل عديدة، منها: الإمكانات المالية وتوافر الوقت الكافي، وجنس الفرد، والقواعد الأسرية، والالتزامات المدرسية. وكل مراهق، قائدًا كان أم تابعًا، سلبيًا أم إيجابيًا، مقبولًا كان أم منبوذًا، يهتم اهتمامًا بالغًا بسلوك وآراء الأقران الذين يتواصل معهم. ففي مرحلة المراهقة تصبح الصداقة أكثر ثباتًا واستقرارًا وأكثر عمقًا من ذي قبل، وتتصف بالتبادلية.
ومن الأفكار السائدة تشابه جميع المراهقين في الكثير من الخصائص والسمات، وهذا ما يحمل على القول بمفهوم حضارة الأقران فلباسهم يساير النموذج السائد (الموضة)، ويظهر المراهقون تصرفات متشابهة، ويستمعون إلى الموسيقى نفسها، ويتعلقون بالمستحدثات (الصرعات) والمبتكرات نفسها، فهم يسايرون مسايرة جامدة المعايير السائدة عند جماعة الأقران، هذه المعايير التي تختلف غالبا عن معايير الكبار في مجتمعهم. 
 
 الولاء للجماعة 
يرتبط الولاء في الطفولة بالاتجاه للاستقلال الذاتي، ويُظهر الطفل ولاءه للأفراد والجماعات التي تشبع حاجاته وتشعره بالأمن والطمأنينة. وتستخدم الجماعة كوسيلة لتنمية الاعتماد على الذات. ثم يظهر الولاء الإيجابي الناضج في المراهقة، ويكون للولاء للجماعة تأثير مهم في سلوك المراهق. وعندما يبدأ المراهق المشاركة الجماعية متجاوزًا ذاته، يكون قد قطع شوطا مهمًا في طريق العلاقات الإنسانية، ويكون قد حقق هدفًا مهمًا من أهداف النمو. ويتمثل ذلك في تدرج الاتجاهات الاجتماعية في الولاء للأسرة وللفريق، وللمدرسة، وللأمة، وأخيرًا للإنسانية. 
ويميل المراهقون إلى اختيار الأصدقاء الذين يشبهونهم من حيث العمر والجنس والعرق والآمال التربوية والموقف من المدرسة، والملابس (الموضة) والنشاطات الترفيهية في أوقات الفراغ. ومع التقدم في العمر، يميل المراهق إلى مشاركة الأصدقاء ومساعدتهم أكثر مما يعتمد عليهم. ويبدو أن المراهق الذي يتمتع بصداقات قوية ومستقرة يقدر نفسه تقديرًا عاليًا مقارنة بأقرانه الذين ليس لديهم مثل هذه الصداقات. وتؤثر جماعة الأقران في نظرة المراهق للعالم وفي فلسفته ورؤيته للوجود وفي تكوين صورته عن ذاته. 

  شعبية المراهق
تُحدد شعبية المراهق بعدد كبير من العوامل والسمات الشخصية التي يجب أن تتوافر عند المراهق، ومنها: الحيوية والنشاط، والجاذبية الجسمية، وروح المرح، والدعابة والمرونة والتسامح ومحبة الآخرين والتعاطف معهم. كما أن الذكاء وبعض المواهب الخاصة كالرياضة والموسيقى تساهم في تطور شعبية المراهق.
كما يبدو أن المراهق الذي يتسم بالإيثار والغيرية، ويقدر وجهة نظر الآخرين، يكون أكثر شعبية من أقرانه المتمركزين حول ذواتهم.

الصداقة بين الأقران
تعتبر الصداقة بين المراهق وأقرانه من الحاجات النمائية المهمة في هذه المرحلة، فهو بحاجة إلى الصحبة والتأييد ممن يشاركونه هذه المرحلة التي يجتازها، فالعلاقة بين الأقران لها وظائفها وخصائصها المميزة، ويصعب أن تعوضها العلاقات مع الراشدين، فمهما حاول الراشدون أن يتفهموا المراهقين سيظلون في مواضع وظروف مختلفة عنهم. ويكافح المراهقون لبلوغ مكانة تمكن الراشدون من بلوغها بالفعل. لذلك يجدون الراحة والطمأنينة في التفاعل مع الأقران ممن يعيشون التغيرات الجسدية والنفسية نفسها. إن نجاح المراهق في إقامة صداقة قوية مع واحد أو اثنين من أقرانه من شأنه مساعدة المراهق على تجاوز هذه الفترة من التغيرات السريعة بسلام ونجاح. 
كثيرا ما يكون أصدقاء المراهق موضع اتهام الأهل الذين ينسبون إليهم كل تصرفات الأبناء التي لا تعجبهم. والتصرفات السيئة التي لا تعجب الأهل تنبغي مواجهتها بجدية، ومناقشة الموقف مع المراهق، واعتماد أسلوب الحوار الهادئ في معالجة هذه المشكلة، وشرح خطورة هذه التصرفات وأضرارها، وخطورة اختياره لمجموعة «رفاق السوء»، فالمراهق يحتاج إلى مساعدة الأهل وإلى محبتهم ونصيحتهم المقنعة، وأن يتضح له خوف الأسرة عليه وقلقها من أجله، وأن تصرفاته تسيء إليه بالدرجة الأولى، ويمكن أن يساعد ذلك على خروج المراهق من دائرة تأثير رفاق السوء. إلا أن المسألة الأكثر تأثيرًا وفعالية في ذلك هي ألا يقتصر دور الأهل على النصح والوعظ وإعلان المبادئ النبيلة فحسب، بل عليهم الالتزام بما يقولونه وأن يكونوا هم أنفسهم أولا قدوة حسنة يقدمون لأبنائهم النموذج السلوكي المناسب، فهذا وحده يقنع هؤلاء الأبناء بصدق الأهل وبأهمية نصائحهم. 
وتجدر الإشارة إلى ضرورة تفهم الأهل لحاجة المراهق إلى جماعة الأقران، وضرورة هذه العلاقات بالنسبة لنمو المراهق، فيجب ألا ينظروا إلى كل علاقة يقيمها المراهق على أنها تتجه نحو «رفاق السوء». يجب أن يدرك الأهل والمربون أهمية هذه العلاقة والدور الخلاق للأقران في نمو اليافع وتطور شخصيته من مختلف الجوانب الانفعالية والاجتماعية والمعرفية، فالشبان يتعلمون الكثير من المهارات ومن أشكال السلوك من بعضهم البعض، كما يضعون موضع التطبيق هذه المهارات في ما بينهم قبل إظهارها في حياتهم اليومية في تفاعلهم مع الآخرين في المجتمع الكبير. كما تلعب شلة الأقران دورًا مهمًا في حياة اليافع وتشكل مصدر أمن وطمأنينة في الكثير من الأحيان، عبر الوظائف المتعددة التي تمثلها «الشلة» بالنسبة للشبان.
 
مجموعة الأقران فضاء للحرية
توفر مجموعة الأقران فرص التعبير الحر عن الذات وتشكل مناخًا ملائمًا للحوار وتلاقح الأفكار. ففي هذه المرحلة يكون المراهق رؤيته نحو العالم وفلسفته في الحياة وميله نحو الرومانسية والحلم بتحقيق قيم الخير والحق والجمال على الأرض. كما يميل الشبان إلى التمرد على كل أشكال السلطة ورفض كل ما لا ينسجم مع رؤيتهم. فالمراهق يرفض الظلم والتسلط والاستبداد والإقصاء، وينذر نفسه للكفاح من أجل العدل والمساواة، وهو منسجم مع نفسه يضع موضع التطبيق أفكاره وهو مستعد للتضحية من أجل ذلك.
ساهمت الحركات الشبابية في إحداث تغيرات كبرى في الميادين الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، فثورة الشبان في عام 1968، التي انطلقت من الثانويات الباريسية في فرنسا، سرعان ما توسعت وانتشرت حتى وصلت أصداؤها إلى الكثير من بلدان العالم، وأدخلت تغيرات عميقة في مجتمعاتها. كما قام الشبان الفلسطينيون بدور أساسي في الانتفاضات المتلاحقة للشعب الفلسطيني منذ نهاية الثمانينيات وحتى يومنا هذا. وقدموا التضحيات الكبيرة من أجل المثل والقيم التي يدافعون عنها.
سهلت وسائل الاتصال الحديثة التواصل بين الشباب، فالأحداث الآن تنتقل بالصوت والصورة الحية خلال برهة قصيرة مما أتاح فرص التواصل السريع بين الشبان، ومكنهم من القيام بدور كبير في ثورات الربيع العربي، هذا الدور يستحق البحث والدراسة، دور تحريك القوى الاجتماعية التي كانت راقدة في سبات عميق بعد كل ما أصابها من يأس وإحباط. 
بعث الشبان في مجتمعاتهم روح الأمل من جديد عبر هذه الثورات الرائعة التي علمت البشرية فن إزاحة الطغاة والمستبدين والفاسدين بطرق سلمية بعيدًا عن العنف، إلا أن العنف والوحشية غير المسبوقة لبعض أنظمة الطغاة واستهتارها بدماء شعوبها وإمعانها في القتل والتنكيل والتدمير، والإصرار على الدفع بقوة نحو العنف الهمجي غير المسبوق، اضطرت بعض هذه الشعوب مكرهة إلى حمل السلاح للدفاع عن النفس. 
لقد أيقظ هؤلاء الشبان، بإرادتهم وتضحياتهم، الأمل في فتح صفحة جديدة في تاريخ مجتمعاتنا التي تتوق نحو الحرية وتتطلع نحو المستقبل الذي يضمن حقوق البشر وكرامتهم، ويوفر لهم حق الحياة الحرة الكريمة في مجتمع يحكم علاقاته القانون والدستور ويحقق العدالة والمساواة على أساس حقوق المواطنة وواجباتها. يطمح هؤلاء الشبان إلى العيش، كغيرهم من شباب العالم، في مجتمعات حديثة توفر لهم فرص التعلم والعمل والحرية والإبداع والمشاركة الخلاقة في بناء بلدانهم وتقدمها والمساهمة الفعالة في ازدهارها ودخولها بقوة إلى الساحة الدولية، قوة المعرفة والاقتصاد والثقافة... يتوق شبابنا للعيش أحرارًا يفخرون بانتمائهم وبمجتمعاتهم.
تتطلع شعوبنا اليوم إلى مستقبل يوفر للفرد فرص النمو وتحقيق الذات ليتمكن من المشاركة الخلاقة في بناء وطنه وازدهاره ورفاهيته ويحقق المشاركة في إبداع الحلول للمشكلات المزمنة التي تعاني منها مجتمعاتنا واللحاق بركب الحضارة الإنسانية والمشاركة الفعالية في إغنائها وتقدمها. صفحة جديدة تبعث الأمل في إحياء مشروع النهضة العربية وتحقيق نقلة نوعية في تاريخ العرب المعاصر ■