عِلْم الجمال البيئي

عِلْم الجمال البيئي

 ظهر علم الجمال البيئي في النصف الثاني من القرن العشرين كحقل معرفي جديد يهتم بالإدراك الجمالي للبيئات الطبيعية والإنسانية، متجاوزًا بذلك تركيز علم الجمال الفلسفي التقليدي (فلسفة الفن) على العمل الفني فقط. وعلم الجمال البيئي ذو جذور مبكرة ترجع إلى القرن الثامن عشر؛ عصر التنوير والرومانتيكية المبكرة، حيث كانت الطبيعة هي نموذج الخبرة الجمالية والحكم الجمالي على الأشياء، ولكن تراجع الاهتمام بالطبيعة في القرن التاسع عشر ليحتل العمل الفني بؤرة الاهتمام مع صعود فلسفة الفن، ثم عاد الاهتمام بالطبيعة مرة أخرى مع ظهور علم الجمال البيئي كحقل معرفي مستقل واضح المعالم في النصف الثاني من القرن العشرين. 

 

يعتبر كتاب «علم الجمال البيئي؛ اجتياز الحدود الفاصلة ووضع الأسس»، الصادر في مطلع هذا العام 2014، من أهم الكتابات التي تتناول جماليات البيئة من منظور واسع، يجمع بين النظرة التاريخية والنظرة الموضوعية ويتجاوز الحدود الفاصلة بين حقول معرفية مختلفة واتجاهات فكرية متباينة ويجمع بينها في حوار فكري شامل.
 يتألَّف الكتاب من أربعة أقسام؛ يضمُّ كلُّ قسم ثلاثة فصول تدور حول محور واحد. يتناول القسمُ الأول من الكتاب علمَ الجمال البيئي من منظور تاريخي، فيُلقي الفصل الأول نظرة على الماضي ويستعرض الإسهامات الأساسية خلال المراحل المختلفة لتطور هذا الحقل المعرفي، معتبرًا أن البداية كانت مع المقالة التي كتبها رونالد هيبورن عام 1966 بعنوان «علم الجمال المعاصر وتجاهل الجمال الطبيعي»، حيث وضع فيها هيبورن الأساس لكثير من الأعمال اللاحقة في هذا المجال. وبمرور الوقت، تزايد الاهتمام بجماليات البيئة، خصوصًا في الحقل الأكاديمي، وتجلى هذا في نشر مؤلفات متميزة خلال عقد التسعينيات، وعقد مؤتمرات علمية دولية، وإصدار دوريات علمية متخصصة في علم الجمال البيئي، وصولًا إلى الاهتمام بجماليات الحياة اليومية. واستكمالًا للمنظور التاريخي، ننتقل في الفصل الثاني إلى استشراف الاتجاهات المستقبلية لعلم الجمال البيئي بعد أن اشتد عوده وتوسع نطاقه، ليتجاوز البيئات الطبيعية إلى البيئات الطبيعية الإنسانية؛ مثل الحدائق والمشاهد الزراعية والبيئات الحضرية المعمارية، حتى يصل إلى ما يُطلق عليه جماليات الحياة اليومية؛ أي كل ما يُشكِّل بيئتنا المكانية، وكافة الأنشطة الإنسانية، وعلاقاتنا الاجتماعية. ثم يختتم القسم الأول بالفصل الثالث الذي يقيم حوارًا بين اتجاهين أساسيين داخل علم الجمال البيئي، الأول هو الاتجاه المعرفي cognitive الذي يغلب عليه الطابع العلمي، حيث يؤكد أن المعرفة العلمية (العلوم الطبيعية) والخلفية الثقافية والتاريخية لدى المشاهِد تلعب دورًا أساسياً في الإدراك الجمالي للطبيعة، والثاني هو الاتجاه اللامعرفي noncognitive، الذي يرى عدم أهمية هذه الأمور في الإدراك الجمالي للطبيعة، ومن ثم يُركز أصحاب هذا الاتجاه على المشاعر والخيال والعاطفة.
القسم الثاني من الكتاب مخصص لإعادة التفكير في العلاقات بين بعض الثنائيات داخل علم الجمال البيئي. فيتعرض الفصل الرابع لثنائية المعرفي واللامعرفي، والتي يمكن تجاوزها عن طريق الثقافة، وذلك بإعادة صياغة وتشكيل القضايا والمفاهيم والأفكار الأساسية داخل علم الجمال البيئي وفهمها بشكل جديد يقوم على التكامل والجمع بين المنظورين الشرقي والغربي. ويناقش الفصل الخامس ثنائية جماليات البيئة وأخلاقياتها، حيث يمكن الجمع بين الجانبين الجمالي والأخلاقي، من خلال استلهام مفهوم «الاحترام» من الفيلسوف الألماني كانط، حتى نصل إلى «جماليات احترام الطبيعة». وأخيرًا، في الفصل السادس، هناك ثنائية النظرية والتطبيق، ولتقليل الفجوة بين الجانبين النظري والتطبيقي ينبغي الخروج من الإطار الأكاديمي النظري الضيق إلى المجال العملي التطبيقي عن طريق نمط جديد من التفاعل والمشاركة والتواصل مع الجمهور العام، أي الجمع والدمج بين التحليل والإرشاد.

الطبيعة والفن
 يتناول القسم الثالث من الكتاب العلاقة بين الطبيعة والفن؛ فيبدأ بالفصل السابع الذي يتولى الدفاع عن الفنون البيئية ضد الانتقادات الموجهة لها بأنها تمثل إساءة للطبيعة وإهانة لها، ويوضح أنه لا يمكن فصل الأبعاد الجمالية للفنون البيئية عن الأبعاد الاجتماعية والأخلاقية والبيئية لتلك الفنون؛ إذ تساهم الفنون البيئية في زيادة الارتباط بالبيئة والطبيعة وتشجع على النقاشات العامة حول القضايا والقيم الجمالية والاجتماعية والأخلاقية والبيئية الخاصة بالمجتمع.
 ولكن هل يمكن للفن أن يساهم في حل المشكلات البيئية الكبرى، مثل مشكلة تغير المناخ التي تهدد الحياة على الأرض؟ يناقش الفصل الثامن هذه القضية انطلاقًا من أن التفكير العقلي فقط لن يدفعنا إلى التفكير في مصلحة الأجيال القادمة على المدى البعيد؛ وذلك لغياب عامل الخيال، ومن ثم يمكن للفن أن يقوم بهذا الدور ليضعنا على الطريق الصحيح. وفي هذا الإطار يتم الرجوع إلى الفيلسوف الألماني مارتن هيدجر، وخصوصًا في مقالته الطويلة الشهيرة حول «أصل العمل الفني»، وذلك لاستلهام فكرة أن الفن نوع من الكشف واللاتحجب؛ مما يعني الانفتاح على أنماط من العيش والحياة أقل تدميرًا من الأنماط الحالية، ومما يزيد من وعينا بسلوكياتنا وعاداتنا اليومية المدمرة المخربة والعمل على تغييرها بسلوكيات وعادات تساهم في «إنقاذ الأرض».  أما الفصل التاسع فيناقش ظهور ما يُطلق عليه «الخيال البيئي environmental imagination»، ويُقصد به ما طرأ في السنوات الأخيرة من احترام واهتمام وانشغال بالبيئة والطبيعة، وذلك من خلال التركيز على دور الصورة في صعود الخيال البيئي. وقبل التعرض لدور الصورة يتم وضع إطار نظري لمفهوم الخيال البيئي، من خلال أعمال بعض المفكرين والفلاسفة الذين ساهموا في تطوير فكرة الخيال، مثل إدوارد سعيد وبندكت أندرسون وأرجون أبادوراي وموريس ميرلوبونتي. ومن خلال هذا الإطار النظري لفكرة الخيال البيئي ننتقل إلى سؤال كيف ساهمت الصور في إحداث تغيير في عملية الإدراك ذاتها بشأن مكانة البيئة في المخيلة الثقافية المعاصرة، وذلك من خلال التركيز على بعض صور وكالة ناسا الفضائية للأرض ولوحات اثنين من أشهر الرسامين الذين اهتموا برسم المشهد الطبيعي؛ هما الأمريكية جورجيا أوكيف والألماني أنسلم كيفير.

من النظرية إلى التطبيق
 ينتقل القسم الرابع من الإطار الفكري النظري إلى التطبيقات العملية من خلال أمثلة واقعية مجسدة ودراسات حالة، بل يتسع المجال ليشمل دراسات تطبيقية لجماليات طواحين الهواء ومراكز التسوق (المولات) والحيوانات البرية، فيناقش الفصل العاشر الأبعاد الجمالية لطواحين الهواء، بالإضافة إلى تأثيراتها البيئية، وكيف يمكن الارتقاء بالتقدير الجمالي لها من خلال الجمع بين مواصفاتها الجمالية، مثل اللون والشكل والحجم... إلخ، وفوائدها البيئية مثل توليد طاقة نظيفة وأنها أكثر أمانًا وأقل تلوثًا... إلخ. وينتقل الفصل الحادي عشر إلى نموذج تطبيقي آخر وهو مراكز التسوق، فيتساءل عن إمكانية التفكير في مركز التسوق كما نفكر في الجبل ككيان مستقل موجود في الطبيعة. وعلى الرغم من أن مركز التسوق عمل من صنع الإنسان، فإنه يصبح كياناً مستقلاً بمجرد اكتمال بنائه، وهكذا يمكن التفكير فيه من الناحية الجمالية باعتباره كياناً آخر يشاركنا الوجود في عالم واحد، كما هي الحال مع الجبل. أما الفصل الثاني عشر والأخير فيتعرض لموضوع طالما جرى تجاهله في مجال جماليات البيئة، وهو الحيوانات البرية. فمن الشائع في خبرتنا الجمالية التفاعل مع الحيوانات الأليفة والاهتمام ببعض الأنواع التي تلفت الأنظار بحركاتها وتصرفاتها، بل هناك أنواع هي جزء من حياتنا اليومية كالطيور والثدييات والحشرات والكائنات البحرية، وهي موضوعات بارزة في الفنون ووسائل الإعلام، ومع ذلك فمن الغريب أن يتم تجاهلها في النقاشات والدراسات التي تقع في إطار جماليات البيئة وعلم الجمال البيئي. ومن ثم يناقش الفصل كيف يمكن تقديم نموذج للتقدير الجمالي للحيوانات، ولا يغفل في الوقت ذاته الجوانب الأخلاقية في التعامل معها.
وأخيرًا، يمكن القول إن هذا الكتاب، بشموله وتنوع موضوعاته ومواكبته للحياة المعاصرة، يمثل علامة بارزة في مجال علم الجمال البيئي، ويُظهر أن هذا العلم قد بلغ مرحلة النضج، وتوسع ليشمل مجالات وموضوعات مختلفة متنوعة، كما اجتاز الكثير من الحدود الفاصلة بين بعض التيارات والاتجاهات الفكرية والثقافية، مثل تلك التي تفصل بين الفلسفة التحليلية والفلسفة الأوربية، وبين رؤية الشرق للعالم ورؤية الغرب له، وبين الجوانب الجمالية والجوانب الأخلاقية، وبين الاهتمامات النظرية والاهتمامات التطبيقية العملية. ومن ثم يبين الكتاب كيف يمكن لكل هذه المنظورات والمقاربات المختلفة والمتباينة أن تلتقي وتحاور بعضها بعضًا، مما يضفي على علم الجمال البيئي المزيد من التماسك والتناسق ■