لماذا خَسِر الفرنسيونَ كندا؟

لماذا خَسِر الفرنسيونَ كندا؟

نقيس عادة في بلداننا واقتصاداتنا العربية، قيمة ما ننتجه فعلاً، وإجمالي ما نزرع ونحصد ونستخرج ونصنع، ولا نلتفت كثيرًا إلى ما لا يقل أهمية في قدرتنا الإنتاجية العامة، أي القيمة المادية - مثلاً- للوقت الضائع في حياتنا، والثمن الاقتصادي لما لا ننتجه بسبب البطالة وضعف الإنتاجية وعدم تحديث الآلات وتأثير العادات الاجتماعية والتقاليد البالية، واضطراب الحياة السياسية، وغير ذلك. فثمة - في اعتقادي - «وجه إيجابي» للاقتصاد، وهو ما ننتج ونبيع ونصدّر، و«وجه سلبي» نغفل عنه في كل حساباتنا لسبب غير مفهوم، يشمل الملايين من الدولارات التي نخسرها دون مبرر.
لكلمتيّ البطالة والعطالة في اللغة العربية دلالات ومعانٍ طريفة.
يقول قاموس «لسان العرب» في تعريف بَطُلَ: بطل الشيء، يبطل بطلانًا، أي «ذهب ضياعًا وخُسْرًا». أما كلمة «البطالة» ذات الدلالة السلبية اليوم، فنسبها القاموس العتيد إلى البطولة! فالبطل هو الشجاع، والبطّال هو البطل! أما إذا قلت بَطَلَ الأجيرُ، بفتح الطاء، فمعناها تعطل فهو «بطال»، ومن هذه الأخيرة اشتُقّت كلمة البطالة.
ولا تقل مفاجآت «العطالة» عن البطالة! يقول القاموس نفسه في مادة عَطِلَ: عطلت المرأة وتعطّلت، إذا لم يكن عليها حلي ولم تلبس الزينة، فهي امرأة عاطل، أي بغير زينة. ورجلٌ عُطُلٌ أي لا سلاح له، ويقال بئر معطّلة لا يُستقى منها. وبعكس ما نتوقع، فالعَطَل يعني لغويًا «تمام الجسم وطوله». ولكن الكلمة تستخدم كذلك بمعنى الخلوّ، فيقال «عَطِلَ الرجلُ من المال والأدب»، و«تعطّل الرجل، إذا بقي لا عمل له». وهو المعنى المستخدم بيننا اليوم.
ومن أغرب جوانب التنمية والتقدم المادي والاقتصادي والتقني، أن هذا الجهد الحميد والسهر المتصل يعمل في الاتجاه المضاد. فكلما ارتقى المجتمع، اتسعت مساحة عطالة الناس وبطالتهم، وتضاعفت ساعات فراغهم، وزاد استمتاع محبي الفراغ واللهو واللعب. وكان العمال والموظفون وحتى التجار في القرن التاسع عشر، ومعظم القرن العشرين، يعملون أكثر ساعات النهار ولا يتمتعون إلا بأقصر الإجازات، بينما هم اليوم، حتى في البلدان الأكثر تقدمًا، يعملون ثماني ساعات في خمسة أيام في الأسبوع، ويتفننون في الراحة والاسترخاء.
بل يقال إن البشرية ستعتمد قريبًا في حياتها الإنتاجية على خُمس قوى العمل الحالية، وتستغني عن جيوش العمال والموظفين.
معظم أمثلتنا الشعبية العربية تهاجم البطالة وتعتبرها نقيصة، فاللبنانيون - مثلاً - يقولون: «اشتغل الأحد والعيد، ولا تحتاج خيَّك - أي أخيك - السعيد». ويقولون «أيام الزراعة معدودة وأيام الحصاد ممدودة». وبرغم كل الحوافز الثقافية والسياسية والضمانات لاتزال إنتاجية الفرد العربي ليست - على الأرجح -  في المقدمة.
فما الذي يجعل أي شعب محبًا للعمل كالألمان واليابانيين، أو غارقًا في الإنتاج كالصينيين؟
يقول الأديب عباس محمود العقاد في كتابه «أنا»: «قرأت مرة في تاريخ أمريكا الشمالية أن الإنجليز والفرنسيين تسابقوا على استعمار «كندا» فنجح الإنجليز حيث أخفق الفرنسيون... لماذا؟
زعموا في تعليل ذلك، وأصابوا، أن استعمار القفار من الأرض البور يحتاج إلى قضاء الأوقات الطوال في عزلة عن المدن الحافلة، وأن الإنجليز نجحوا في استعمار تلك الأرض لأنهم يستطيعون أن يقضوا أوقات الفراغ منفردين منعزلين، وأن الفرنسي لا يطيق العزلة ولا يحتمل أن يفرغ لنفسه ولايزال في شوق إلى المدينة لقضاء السهرات والأصائل بين الناس في الأندية والمجتمعات، فترك ميدان الخلاء لمن هم قادرون عليه» ■