رشيد بوجدرة وإبراهيم سعدي نموذجاً تمثيل الصحراء في الرواية الجزائرية

رشيد بوجدرة وإبراهيم سعدي نموذجاً تمثيل الصحراء في الرواية الجزائرية

تحضر الصحراء بقوة في الوعي الجمعي الجزائري، لكونها جزءاً لا يتجزّأ من الهوية الجزائرية ترابياً وجغرافياً ومناخياً، وسياسياً واقتصادياً، واجتماعياً وثقافياً وحضارياً، وأخيراً: أمنياً. تمثل ما نسبته 84 في المائة تقريباً من إجمالي مساحة الجزائر التي تَعُدُّ 2382000 كلم2 (مليونان وثلاثمائة واثنان وثمانون ألف كيلومتر مربّع). من هنا تتواتر في الخطاب الجزائري بمختلف أشكاله وصيغه ومجالاته ومضامينه. يُكنّى عنها في هذا الخطاب أحياناً كثيرة بموقعها الجغرافي نسبة إلى بقية أجزاء الوطن، بعبارة: «جنوبنا الكبير أو الجنوب الكبير». 

ولأنّ الخطاب الأدبي شعره ونثره هو أحد تجليات هذا الخطاب العام فإنّها تأخذ منه حيِّزا، وإن كان محدودا إلاّ أنّه ذو دلالة. فإلى جانب حضورها في نصوص شعرية كثيرة، تتمظهر جليا أو ضِمنيا في أعمال سردية تضمّ شخصيات تضطرها ظروف ما لأن توجد في هذا الحيِّز الجغرافي:
 -السكنُ والانتماءُ الجغرافي.
 -العملُ (في المنشآت الاقتصادية وملحقاتها المرتبطة بصناعة المحروقات، أو المؤسَّسات والمصالح العمومية الأخرى في مختلف المجالات). 
– المرابطةُ على الحدود دفاعاً عن الوطن أو مكافحةً للتهريب والتصدّي للإِضرار بالاقتصاد الوطني.  
كما تحضرُ الصّحراء في قصص الخيالِ العِلمي (القليلة جدا في السرد الجزائري) ومنه «البحيرة العظمى» القصّة الجميلة المُوجَّهة للفتيان للقاص والباحث والأكاديمي د. أحمد منّور.  
لأخذ فكرة بسيطة عن كيفية تمثيل الساردين الجزائريين للصحراء اخترنا نموذجين، الأول، وقد ركّزنا عليه كثيرا، هو رواية «تيميمون» لرشيد بوجدرة الصادرة سنة 1994 والمكتوبة باللغة الفرنسية أصلا (النصّ الفرنسي 126 صفحة من القطع الصّغير) والمُترجمة إلى اللغة العربية، ويُرجَّح أنّ الترجمة للمؤلِّف نفسه. والثاني، وقد مررنا به مرورا سريعا، هو رواية: «بحثا عن آمال الغبريني» لـ إبراهيم سعدي المكتوبة باللغة العربية والصّادرة ضمن منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين سنة 2003. 

 تيميمون... العنوان وإحالاته
تُشير الروايةُ كما يدلُّ على ذلك عنوانها إلى إطار مكاني هو مدينة تيميمون، المدينة الصحراوية الجزائرية التي تبعد عن الجزائر العاصمة بما يقارب الـ1400 كلم إلى الجنوب الغربي، تسمّى بالواحة الحمراء، وهي قريبة من مدينتين أخريين هما «أدرار» و«عين صالح». هي قِبلة سياحية لكثيرين من داخل الجزائر ومن خارجها. تبدأ أحداث حاضر السّرد الروائي مع تيميمون وتنتهي معها، بمعنى أنّ الرحلة الحقيقية والدلالات الأساس للمكان إنما تبرز في ما بين التوجه منها إلى عمق الجنوب وأقاصيه شرقاً، خصوصاً إلى منطقة الأهقار وجبالها القريبة من مدينة جنوبية أخرى هي تمنراست، غير البعيدة عن الحدود الشرقية للجزائر والعودة إليها ومنها إلى الشمال، إلى العاصمة، إضافة إلى ما سبق تختصر المدينةُ هنا الصحراءَ من باب الإشارة إلى الكلِّ بالجزء.

البطل/الراوي
 دليل سياحي كهل، يرافق منذ سنوات عديدة على متن حافلته العتيقة التي اشتراها من جنيف سواحا إلى الجنوب ثلاث أو أربع مرات في السّنة. كان قبل امتهان الإدلاء السياحي طياراً مقاتلاً في سلاح الطيران. فُصِل من الخدمة وطُرِد من الجيش لتوجُّهه مرة إلى بروكسل على متن طائرة «ميج 21» دون إذن من أحد، لا لشيء إلاّ للهو في أحد ملاهي المدينة. اعتقلته الشرطة العسكرية البلجيكية وسلّمته بطائرته المخطوفة لبلده. كان مدمناً على مخالفة الأوامر والقيام بمناورات وحركات خطيرة على متن طائرات الميغ والسوخوي، كما لو كان يبحث عن خطأٍ كخطأِ أخيه يودي بحياته. هو شخصية مُعقّدة. دميم الخلقة كما يصف نفسه. لا وسامة ولا توازن ولا انسجام بين أجزاء بدنه ومكوِّناته، لذلك يرفض النَّظر إلى وجهه في المرآة، غير أنّه مضطر إلى ذلك طوال وجوده خلف عجلة القيادة لكثرة المرايا العاكسة مقابله وعلى جانبي/جناحَيْ الحافلة. يبدو أكبر من سنِّه الحقيقي بعشر سنوات. أدمن على الكحولَ قبل السادسة عشرة من عمره بقليل، أي منذ حادثة وفاة أخيه البِكر، عندما أخفق هذا الأخُ في ما كان ينجح فيه دائما تحديا لأصدقائه ورفاقه: ركوب الترامواي بعد انطلاقه. أخطأت رجلُه عتبة العربة مرّة فدهسته وانتهى تحت العجلات. وفاة تشبه الانتحارَ ألقت بظلالها على البيت والأسرة وكانت آثارُها وخيمة عليه هو خصوصا وعلى أمِّه التي تجمّدت الدموع في عينيها منذ ذلك الحين. يحبُّ المطالعة والموسيقى، مُتفوِّق في الدراسة وحلِّ المسائل الرياضية مع صديقيه كمال رايس وهنري كوهين. يعاني مشكلات وجودية تمنعه من أن يعيشَ العالَم كما هو. لم يعرف من النّساء ما يعرفه الرجل. كان يتفاداهنّ دائما. يسكنه خوف غامض منهن وبرودة تجاههنّ أمام دهشة صديقيه ورفيقي طفولته ومراهقته في مدينة قسنطينة كمال رايس واليهودي هنري كوهين السابقة الإشارة إليهما، إضافة إلى شعور بالذنب تجاههنّ وتبكيت الضمير، واعتبارهنّ جُرحَ الإنسانية. خوفه منهنّ هو جزء من خوفه المزمن منذ أن تجاوز الخامسة عشرة بقليل، أي في عِزّ المراهقة.
 أمام هذا الواقع وعلاقاته المتوتِّرة مع العالَم وعدم التجانُس معه وفقدان القدرة على عيشه كما هو مثلما سبقت الإشارة كان يرفضه ويحاول إلغاءه بالهروب منه في كلِّ مرة نحو شيء ما. هروبٌ بحثا عن شيء غامض كأنّه الانتحار لرغبة غامضة فيه ورِثها عن أخيه البِكر المتوفَّى. هروب يجد فيه مُتعَة وانتشاءً خارقين كلّ مرة، خصوصا في الصّحراء على الرَّغم من كثرة الأوصاف، والآثار السلبية التي أعطاها لها. 

الرِّحلة إلى الصَّحراء ومسارُها
 الرِّحلة إلى الصّحراء هي المرحلة الأخيرة من مراحل اللجوء/الهروب التي مرّ بها البطل/الراوي. ينطلق مسارها الذي يقطعه مِرارا وتكرارا ثلاث أو أربع مرات في السنة منذ عشر سنوات من الجزائر العاصمة إلى تيميمون مرورا بالقولية. ومن تيميمون إلى عمق الصّحراء ذهابا وإيابا كما سبقت الإشارة. تستمرُّ أياما عديدة يقضيها مع زبائنه الخمسين على متن حافلته. المسار بجباله وألوانها المُمتعة التي تغلب على المنطقة مناظرها الجميلة (وخصوصا أنّ المنطقة تشهد على مدار السنة أحد أجمل مناظر شروق الشمس في الكون) وتنوعات تضاريسه الخلاّبة والتشكيلات البديعة لرماله وصخوره وما إليها وتحولاتها وتقلباتها المناخية ليلا ونهارا، ممّا يُميِّز الصّحراء والمخاطر الكثيرة التي تكتنفُه مع المتعة التي يمنحها، هو المنتج الذي يُروّجه بطل الرواية وراويها لزبائنه ويتواتر على طولها، كما أنّه بتحولاته المختلفة الباعث على مشاعر البطل وأحاسيسه.
 
سارة (صرّاء في النسخة العربية)
 حدث أثناء المسار المُشارِ إليه تطوّر مُهم ميَّزه هذه المرّة عن الرحلات السابقة هو وجود فتاة في العشرين من عمرها ضِمن زبائنه السُّواح اسمها صارّة تجلس وراءه مباشرة. هذا الوجود الحاضر بقوة هو عِلّة الرواية كُلِّها، إذْ هو الحدثُ المُفسِّر للأحداث المُستعادة على مدار الرِّحلة لأنّه محرِّك أحاسيس ومشاعر البطل/الراوي وانجذابه إلى الجِنس الآخر.
استيقاظ الإحساس بالأنثى هذا والرغبة فيها هما بداية تيار وعي وتداعي مشاعر وأحاسيس كيَّف الرِّحلة والبطل/الراوي والرواية معا. وقع في غرامها واشتهاها وراح يصفها، ما ظهر منها وما تخيَّله. هي في ملامحها أقرب إلى الفتى منها إلى الفتاة بتكوين جسمها وطريقة تسريحة شعرها القصير.
حدّثها عن نفسه، عن ماضيه، بيدَ أنَّها كانت مُتعجرِفة غير عابِئة. لم تُبدِ أيّ شيء تجاه هذا الحبّ الوليد، مع إحساسها به. كثيرا ما يجعله هذا الحُبُّ ينسى بقية زبائنه، السياح الآخرين، أو ينسى نفسَه ذاتَها فيكاد يتيهُ عن معالِم المسار على الرغم من خِبرته به وطرْقه أحيانا لأجزاء منه خاصّة به لا يعرفها بقية زملاء مهنته من السائقين والأدلاء السياحيين. كما يجعله يتعمَّد التيه أو غوص الحافلة في الرمال أحيانا. اقترح عليها مرّة أن ترافقه إلى أحد المحالّ السرية التي تُقام بها حفلات غناء ذي طابَع محلِّي يُسمّى «أهاليل» يتميّز بأجواء إيروتيكية تمتدُّ من غروب الشمس إلى فجر اليوم المُوالي، فرفضت، لكنّها فاجأته ليلة انتهاء الرِّحلة عند الوصول إلى تيميمون لقضاء الليل بها قبل العودة إلى العاصمة باقتراح حضور إحدى هذه الحفلات، فاستجاب لرغبتها دون تردُّد مع أنّها لم تُلِحّ على ذلك، هنا كانت صدمته: افتتنتْ سارة بشابّ أسمر من سنِّها من العازفين في الجلسة من أهل البلد ووقعت في غرامه، لم تَعدْ معه إلى الفندق، فاضطر إلى تعديل برنامج العودة لانتظارها والغرق في الشّرب حتى فقدان الوعي كعادته كلّما أراد الهروب من معضلة تُصادفه. تتضاعف صدمته ويزداد أسفه عندما تعود وبصحبتها الشاب، فيتقبّل الأمرَ، بل أكثر من ذلك يضطرّ حِفاظا على ماء وجهه (وهي مفارقة لافتة) إلى قبول سفره معهما إلى العاصمة ورفض المقابل الذي اقترحته «صارّة». ينتبِه في الأخير إلى أنّها الشبيه تقريبا لصديقه كمال رايس حين مُراهقته: لون العينين المتأرجح بين الأزرق والبنفسجي نفسُه، الأهدابُ الطويلةَ المُقوّسة نفسُها، المِشية المُفكّكة نفسها، الوجه المنحوت نفسُه. يتساءل بفزعٍ عما إذا كانت الشبيه الأنثوي لصديقه، لينتهي إلى التأكيد أنّه لم تكن له في مراهقته تلك النظرة المُخادعة المُنحرفة المُريبةَ تِجاهَ صديقه. أصبحت نظرتُه إليها عادية مُباشِرة صريحة وحدث له تحوُّلٌ جوهري: أحسّ بنفسه شخصا آخر. أمّا هي فقد شحُب وجهُها وأصبحت فجأة قبيحة في نظره وميِّتة بالنسبة له.

عائلة الراوي البطل
لعائلة الراوي البطل حضور قوي في الرواية أثّر كلُّ فرد منها، خصوصا الأب والأم والأخ البِكرُ المُتوفَّى، بنسبة مُعيّنة في أحداثها ما تعلَّق منها بالبطل/الراوي خاصّة.

الوالدان
 تواتر ذِكر والدَيْ البطل/الراوي في النصّ وكان لكلٍّ منهما دورٌ في تكوين شخصيته وفي ما لاقاه وحلَّ به في ما بعد.  كانَ أبوه دائمَ الغياب. بل هو التجسيد الحيُّ للغياب ماديا ومعنويا. لا مبالٍ. مهمِل لواجباته الزوجية والأبوية. لا ينقطع عن التجوال واكتشاف العالم. يبعث من كلّ مدينة يحلّ بها بطاقة بريدية لا تحمل سوى اسم المدينة وتاريخ الإرسال وتوقيعه دون أي شارة أخرى أو كلمة قد توحي بإحساس ما أو شوق أو حنين. يُرسِلها فقط لتأكيد وجوده الرّمزي. لهذا تمرَّد عليه في ما يُشبه العقوقَ وانتقم لنفسه منه برفض الطريق الذي رسمه له، أي دراسة الهندسة الصناعية الغذائية لتسلم أحد فروع إمبراطوريته الصناعية الغذائية التجارية الكبرى ومراقبة والدته لدى بلوغه الثامنة عشرة من عمره، أيْ عِند بلوغه سنَّ الرُّشد القانونية، واختار الالتحاق بمدرسة الطيران. فتبرَّأ منه وحرمه من الميراث. 
 أمّه على الرّغم من حُبِّه لها ورثائه لحالها (وقَدَرِها) كانت غائبة هي أيضا كما لو أنّها مُغتمّة لمناورات زوجها في تغطية غيابه المتواصِل. كانت طوال حياتها واهِمة صامتة لا تتغير، ما جعلها تعاني هي أيضا صُداعاً مُزمناً ينتابُها كلّما واجهت ما يستعصي على الحلّ، صداعاً تحاربه بشدِّ رأسها بخمار بربري مُرصَّع بقطع ذهبية وفضية حقيقية صغيرة ورثته عن أمِّها وستورِّثه من دون شكٍّ إحدى بناتها. لا تحمل نظرتُها سوى أشياء قليلة أهمّها الشعور بالاحتجاز وعلامات الزمن الذي جمّده زوجها دائمَ الغياب. 

الشقيق البِكرُ المُتوفَّى
 توفي هذا الشقيق البِكر في العشرين من عمره عندما أخفق في أحد تحدياته المُفضّلة ورهاناته مع رفاقه: القفز إلى عربة الترامواي عند انطلاقه. خلَّف هذا الموتُ التراجيديُ ندوبا كبيرة في نفسية البطل/الراوي، رافِضا اختزالَه في حادث عرضي، الحقيقة التي كيَّفها والدُه تحت ضغْط السّلطات الدينية التي رفضتْ رفْضا باتّا فرضيةَ الانتحار، بل حتّى مُجرّد تصوُّرِها. كان هذا الشقيق مثله يخاف كثيرا من الحياة وربّما يكون هو الذي أوْرثه هذا الخوف. 
ومع ذلك كان يقضي أيامَه، باحثا عن الموْت، مُتحدِّيا له، شامّا رائحتَه عن قرب مثلما كان يردِّد.

صديقا البطل/الراوي
 لعِب صديقا البطل/الراوي اللصيقان كريم رايس الذي كان رائع الجمال (حسبه) طويل القامة أنيق الهندام، فحلا، أي نقيضُه تماما وعبقرياً في حلِّ المعادلات من الصِّنف الثالث ويحفظ رباعيات عمر الخيام، وهنري كوهين، دورا كبيرا في توجيه حياته والتأثير فيها فقد كان يقضي معهما منذ الطفولة ومن بعدها المُراهقة في قسنطينة وقتا طويلا. كما احتفظ بهذه الصّداقة بعد ابتعاده عنها لكنّه لم يقطع الاتصال بهما. كانت اهتمامات الثلاثة وأذواقهم متقاربة، لا يشذُّ عنهما إلاّ في النفور من النساء ودمامته نسبة إليهما. 

المكان/الصّحراء
 الصحراء في رواية تيميمون اختيارٌ بالنسبة للبطل وإجبارٌ في الوقت نفسه. بدأ يجوبها وحيدا سنوات على متْن حافلته طولا وعرضا شرقا وغربا بعد فصْله من الجيش. لا ينفكُّ يصفها على امتداد صفحات الرواية. هي شغبُ الكون، شغب غير متسامح، انقلاب لا يُصدَّقُ للجغرافيا وللجيولوجيا وطبقات الأرض. رموز هيروغليفية أو طلاسم مُبهَمة يتعذّر وصفُها داخل شفرة خُرافية أسطورية. هي المحلُّ المركزي للألم واللوعة والدُوار. توفِّر له الإحساس بأنّه يفقد كلّ معانيه وكلّ دلالة للكون، وكلّ حدود جسده (ص 15). شعور بالانحلال في هذا الفضاء الواسع (الصحراء)، بالعدمية. يتعمّق هذا الشعور في الليل، فإضافة إلى كونه مادّة صلبة عمياء فإنّه يُحيلُ الصّحراء إلى خدعة كبرى وبهتان حقيقي. يعتقد الإنسان أنّه يحلم فيفقد كلّ معاني الواقع ويرى أشياء ليست في الحقيقة سوى سرابٍ، خطأ. الصّحراء شرِّيرة وقاسية وباردة. توفّر له الخوف والفرح والبهجة في الوقت نفسه.
فهي برمالها وكثبانها وبحيراتها الضيِّقة جدا والمنحصرة بين الصّخور، فظّة شرسة غير رحيمة. هي المكان الذي يخرُبُ فيه العالمُ ويتحطّم، لهذا يتمسّك بها ويعمل دليلا لها ويطرُقُ فيها سُبُلا لا يسير عليها غيرُه بغرض امتلاكها له وحده. 
تتراكمُ هذه الرؤى لديه بعضُها فوق بعض منذ عشرِ سنوات. تسمح له بالنجاة والاستمرار في الحياة، فهي الملجأ والمخبأ والمهرب من الحالة النفسية ومن خطر الاغتيال الذي كان يترصده بعد تهديده من مجهولين. كان في كلّ مرّة يندهش أمام أي منظر من مناظرها، فهي في رأيه المكان الأفضل للألم والمعاناة. المكان المثالي لكشف الخِسّة والدّناءة الإنسانيتين. المكان الذي تمحى فيه كلُّ المعالِم بسرعة استثنائية. لذا يعمل على رعاية هذه المعاناة الصحراوية بتعمُّده قطعَ هذه الأماكن القاحلة كي يجترّ شذوذَه وخيبتَه وعدم قدرته على عيش العالَم كما هو. مع كلِّ هذه المخاطر والسلبيات والأوصاف المُخيفة للصّحراء تكون النتيجة في كلِّ مرّة عكسية، فهي تمنحه تطهيرا أصبح في نهاية الرواية اختلافا كليا وانقلاب وضعية: أصبح إنسانا آخر. 

الوضع الأمني في الجزائر خلال التسعينيات
 كان لأخبار الوضع الأمني أو أخبار العُنف المُسلَّح الذي شهِدَتْه الجزائر في تسعينيات القرن الماضي وأودى بعشرات الآلاف من مُواطنيها أو «الإرهاب» حسب التسمية الرسمية حينها أو «المأساة الوطنية» في ما بعد التي بثَّها الراوي الأساس في ثنايا السّرد على طول الفصول السبعة للرواية والمُتعلِّقة أساسا بالاغتيالات، خصوصا تلك التي طالت المثقَّفين والإطارات من اليساريين أو تلك التي حصدتْ أرواح مواطنين بُسطاء وأجانب، كان لها تأثير كبير في مُجريات أحداثها وتطوّرات نفسية البطل/الراوي (وسارة أيضا)، التي كان يتلقّاها عبر راديو الحافلة أو عبر الجرائد التي يُسلِّمها له صاحب المنزل الذي يقيمُ فيه عند مروره بتيميمون ذهابا وإيابا. شجب هذه الأحداثَ مُهاجما مُرتكبيها بشدّة (وكذلك الراوي الأول أو الأساس/المؤلِّف) إذْ كان مُهدَّدا من طرفهم أيضا (وربما يكون هذا التهديد سببا من أسباب اختياره جَوْبَ الصّحراء وقطْعَ فيافيها).

في السّرد وصيغه
 سُرِدت علينا روايةُ «تيميمون» بضمير المُتكلِّم في ما يُشبه الاعتراف. مونولوج أو خطاب مباشر أو استبطان في حكايتين. حكايةٌ إطار هي حكاية الرِّحلة وبداية حبِّ البطل/الراوي لسارة، هي حاضر السّرد. وحكاية ثانية هي العودة المتكرِّرة إلى الوراء، إلى الذاكرة، إلى الماضي، إلى أزيد من ثلاثين سنة إلى الوراء واستدعاء حدث أو أحداث تُفسِّر الرِّحلة والحبَّ وتطوراتهما وتُفسِّر كلّ ما طرأَ على البطل/الراوي بعدها. التطورات ليست أحداثا مادية بقدر ما هي تطورات نفسية في معظمها وأحاسيس ومشاعر ومواقف وردود أفعال في الحكايتين. استبطان نفسي. تداعي أفكار ومشاعر وأحاسيس تَحصِر مجال الرؤية وتضيِّقُه وهي سِمة السَّرد بضمير المتكلِّم لأنّنا لن نرى حينها سوى ما يراه هذا الضَّمير. 
لذا فالمنطق الذي يتحكّم في ترتيب الأحداث وتناوب سرْدها بين الحكايتين ليس منطِقَ تتالٍ زمني كرونولوجي بقدر ما هو منطق ترتيب أو تتالٍ نفسي تفسيري. الرِّحلة وسيلة (أو برنامج سردي رديف) لهدف آخر، لبرنامج سردي أساس هو محاربة الخوف بالصحراء والعمل على استعادة توازن نفسي وجودي مفقود منذ سِنٍّ بعيدة هي سنّ الطفولة ثم المراهقة.  لا حِوار مباشرا في النصِّ، فالأقوال مسرودة أو منقولة بأسلوب غير مباشر، غير مُمَسرح. للوصف دور أساس في بناء هذا النصِّ، وصف للصّحراء مناظِرها وتحوُّلاتها وخصائصها (من ذلك مثلا الجانب الثقافي الوحيد للصحراء في الرواية، المتمثِّل في وصف نظام الريِّ في مدينة تيميمون ومنطقتها والآبار الجوفية التي تخرج منها هذه المياه عبر نظام من القنوات المحفورة منذ مئات السِّنين ونسق التوزيع الدَّقيق للمياه في ما يُعرَف في المنطقة بالفقارة). وللأشخاص وللمشاعر والأحاسيس، ولأجواء عائلية ولفضاءات أخرى كالبيت ومدينة قسنطينة مسرح طفولة البطل/الراوي ومراهقته، وللعلاقات بين الأفراد، ولتصرفات وسلوكيات، ولأخبار الوضع الأمني في الجزائر أثناء مٍحنتها أي في الفترة المُفترَضة لأحداث الرواية في حاضر السّرد أو الحكاية الإطار. 
مُعظم الوصف في هذه الرواية امتدادٌ لمواقف الراوي الأول/المؤلِّف في الحياة الواقعية ذلك أنّه معروف باختراقه للتابوهات والممنوعات وتحدِّيه للموروث بكلِّ أصنافه وفي كلِّ مجالاته كتابة وتصريحات. الاختراق الذي يعدُّه من صميم الحداثة التي يُنادي بها ويرغب في تجسيدها، ما يجعله في الجزائر عرضة لكلِّ الانتقادات ومثارا لكثير من المواقف وموضوعا لمعارك أدبية فكرية بينه وبين خصومه ومُعارضيه من جهة وبين هؤلاء وأنصاره والمُتعاطفين معه من جهة أخرى.
«بحْثاًً عن آمال الغبريني» لـ إبراهيم سعدي (268 صفحة من القطع الصَّغير)
تدور أحداث هذه الرواية في مدينة جنوبية. تدور كما يدلُّ على ذلك عنوانها حول البحث عن سيدة شابّة تُدعى آمال الغبريني. لا نعرف عنها سوى أنّها وُلِدت قبل ثلاثين سنة تقريبا من علاقة محرّمة. لا تعرف لها أبا. تخلّت عنها والدتها بعد الوضع مباشرة. جميلة جدا شقراء بعينين خضراوين. كانت طالبة جامعية تحظى بحماية ورعاية من أحد أساتذتها (ونّاس خضراوي) الذي يبدو أنّه كان يُحبّها ولا يستطيع البوح لها بذلك. تختفي لظروف تتعلَّق بالأزمة التي عصفت بالجزائر في نهاية القرن الـ 20، فينطلق في إثرها بحْثا عنها، دون أن يعرف لها مكانا بالضبط مُعوِّلا فقط على ختم البريد في الرسائل التي كان يتلقّاها منها من كلّ مكان تحلُّ به. يتَّجه نحو إحدى المدن الجزائرية في أقصى الجنوب. ينزل في فندقها الكبير. يلتقي فيه هناك شخصيتين رجاليتين اثنتين سبقت لهما رؤية آمال الغبريني: عامل الاستقبال بالفندق موح الشريف» الذي يوحي لنا السرد بمعرفته تجاه آمال، إلاّ أنّه نفى كذبا كلّ معرفة له بها. والمهدي المُغراني أحد الهاربين من الشمال الباحثين عن مخبأ بعدما هدّدته الجماعات الإرهابية بالموت. لا أحد من هؤلاء يعثُر على آمال، إذْ تغدو سرابا أو شيئا يعزُّ وجودُه. يتَّجه الأستاذ جنوبا لاعتقاده ذهابها إلى هناك ويهلك في أحد البلدان المجاورة. يعود المُغراني إلى الشمّال، أمّا موح الشريف فينتهي في مستشفى المدينة مُصابا بداء فقدان المناعة (الإيدز)، الذي هو أحد الأخطار الكبرى المحتملة في الجنوب.
تشترك هذه الرواية مع سابقتها في نقاط عِدّة كتواتر الوضع الأمني على طول صفحاتهما وكونه دافعا لهروب الشخصيات الرئيسية إلى هذه الأماكن وسببا في وجودها فيها. تعدَّدت صِيغ سردِها. لا تخلو بدورها من الوصف، غير أنّها لا تبلغ فيه ما بلغته الأولى من القوة والكثافة والشمول، إضافة إلى أن الفضاء الموصوف هنا فضاء مأهول حضري بكلِّ مكوِّناته، المدينة الصحراوية التي تجري بها الأحداث. «الوجوه المُلثَّمة والبدلات التقليدية الصّارخة الألوان واللغات المختلفة». تلتقي الروايتان في بعض ما وصفتا به الصّحراء، فهي هنا مثلا «أماكن هجرتها الرحمة» (ص 158)، «امتداد عارٍ لا نهاية له يغمره الصّمت والسكون»، «لا شيء غير العدم والكثبان الرملية المُمتدّة إلى ما لا نهاية، شريط بلا صُوَر»، «قاحلة، قاسية، مُميتة» (ص 182). هي لا تُذكٍّر هنا سوى بالحرارة الملتهبة الباعثة على اليأس والشعور بانعدام الجدوى والإحساس بما يُشبه الموتَ والعدم» (ص 183)، وزوابع الرّمل الخانقة والجفاف والمجاعة والحرب الأهلية وجثث الحيوانات المُتفسِّخة وسط أراض يابسة مُتشقِّقة لا نهاية لها والوباء اللعين الفتّاك الذي لا دواء له، كالموت والتهريب. تهريب كلِّ شيء بما في ذلك البشر. وشراء كلِّ شيء وتزويره بما في ذلك الجنسيات ووثائقها.
وأخيراً تظهر الصحراء في الروايتين بمكوِّنها الطبيعي وأبعاده السَّلبية القاسية التي عكستها الأوصاف المشار إليها. أما المكوِّن الثقافي فلا يبرُز هنا إلاّ على استحياء في الرواية الثانية (وإن كان المؤلِّف قد أشار في الأولى إلى نظام الريّ في تيميمون وأدرار ونواحيهما) ولا يُركِّز أيضا إلاّ على المظاهر السلبية (من ذلك مثلا التهريب والتزوير والدعارة والاكتظاظ وانعدام الشروط الضرورية الدنيا للحياة الكريمة والهجرة السرية... إلخ). الصّحراء إذن بِنية نفسية بيئية طبيعية تحكّم ماضي الشخصيات في تحديدها، مرتبطة بالهدف الذي أتتْ إليها الشخصياتُ من أجله، وليست بِنية ثقافية (كما أسلفنا) لا لِشيءٍ إلاّ لأنّ مؤلِّفي الروايتين (وكثير من الروايات الأخرى) هم في الواقع أُناس من الشمال. ليسوا صحراويين خبروا الصحراء وعرفوا أسرارها مثل أهلها الأصليين، اضطرّتهم ظروف ما للتواجُد في هذه الأُطُر. تشترك الروايتان في توظيف الوضع الأمني وأخباره، وذلك طبيعي لأنّه كان عِلّة وجود شخصياتها في هذه الأماكن أصلا، بل ربّما أكثر من ذلك، عِلّة كتابتهما بدْءا.
 تُحقِّق الصّحراء مقروئيتَها في الروايتين بدلالتيْ الوصفُ الذي أطلقته عليها العرب قديما: المفازة، فقد اجتمعت في الروايتين كلُّ الأضداد والتناقُضات التي تشملها الصّحراء التي تُحقِّق تماما دلالة اللفظ المُتضادّ: المفازة. انعكست هذه الأضداد والتناقضات على مصائر الشخصيات: تحوُّلٌ (إيجابي) بالنسبة للبطل/الراوي في «تيميمون»، و«هلاك» لموح الشريف والأستاذ الوناس خضراوي وتبخُّرٌ الآمال في «بحثا عن آمال الغبريني».
 نهايةً, أسمح لنفسي بأن أختِم بالقول: إنّ رواية «تيميمون» لرشيد بوجدرة رواية قوية ومُتمكِّنة شكلا، ذات معمار فني آسِر. هي في نسختها الفرنسية أجمل لغة وأسلوبا منها في نصِّها العربي .