سينما اليمن الوليدة في عيون سينمائيي العالم
شهدت الفترة الأخيرة مجموعة كبيرة من الأفلام اليمنية والأجنبية - منها ما وصل للعالمية – التي لمست العديد من الجوانب والموضوعات الإنسانية أو الاجتماعية أو السياسية الخاصة بالمجتمع اليمني، واتخذت منها الإلهام لقصتها الرئيسة، مُبينة جزءًا من واقع اليمن السعيد الذي غَدا مُنهكا بمشكلات جمّة. تأخذ تلك الأفلام القالب الوثائقي الواقعي أو الروائي الخيالي، مُقدمة لنا تنوعاً فنياً يوثق قضايا البلاد وخصائصها من زوايا متنوعة، لكن المحزن في الأمر هو أن هذا النتاج الفني لم يُلاق بعد داخل البلاد غيمةَ يحيا فيها. إذ لايزال اليمن يُعاني نُدرة وجود دور عرض سينمائية رسمية، وهو ما يؤثر سلباً ليس فقط في هواة مشاهدة الأفلام اليمنيين، بل في صُناع الأفلام المحليين أيضاً، فضلاً عن ضمور هذه الصناعة في مجال الثقافة والفن في البلاد بشكل عام.
لم تكن هذه هي الحال للواقع الفني الثقافي لليمن في سبعينيات القرن الماضي، فقد كانت البلاد تزخر بدور عرض سينما يعود تاريخها إلى العام ١٩١٠. في البداية كانت دور السينما متمثلة في عروض متحركة في مدينة عدن لأفلام صامتة كأفلام شارلي شابلن وغيرها. ومع الوقت كانت دور عرض السينما في أوجها في سبعينيات القرن الماضي، حيثُ كان يتم عرض أفلام سينمائية مصرية وهندية وعالمية، في ما يناهز 50 دار عرض منها «سينما الراديو» في منطقة المعلا و«السينما الشعبية» في منطقة الشيخ عثمان و«سينما هريكن» في مدينة عدن.
خلال التسعينيات، تم إغلاق العشرات من دور السينما ما عدا ثلاث دور عرض فقط، هي اليوم مسارح رثّة، منسية، مهترئة، تُعرض فيها أفلام بشكل اعتباطي أو مجرد مباريات كرة قدم بواسطة بروجكتور، وأحياناً يتم تأجيرها لمناسبات أعراس. التراجع يعود لمزيج من الأسباب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ورغم أنه لا يوجد قطاع صناعة سينما كبير في اليمن، لكن فيض الإنتاج الفني والسينمائي الحالي مليء بتجارب تحاول أن تؤسس بصمتها المليئة بأصوات يمنية.
ولعل الحاضن الوحيد المتاح حاليا يتمثل في عدد من المهرجانات الفنية التي تقدم حيّزا يُبرز تلك الأعمال. على سبيل المثال، فإن مهرجان اليمن للأفلام القصيرة في صنعاء هو أول مهرجان يقام في البلاد يُعنى بالإنتاج اليمني للأفلام. ومُنذ إنشائه في العام ٢٠١٢ وهو يقوم بدور ملتقى فني، ويعتبر حدثا فنيا يعمل على تشجيع وإبراز المواهب الفنية الشبابية.
هناك أيضاً مهرجان آخر أقيم للمرة الأولى في بداية هذا العام، هو المهرجان اليمني الدولي للأفلام والفنون الذي أقيم في أمريكا من قبل شبكة مشروع السلام في اليمن (Yemen Peace Project Network)، التي تهدف إلى خلق جسر تواصل وتفاهم بين اليمن والولايات المتحدة الأمريكية، وفي دورته الأخيرة عرض ما يقارب الـ ٢٥ فيلما عن اليمن. بعد أن تم إقامة الدورة الأولى للمهرجان في أمريكا في شهر يناير الماضي، شهدت كل من مدينتي عدن وصنعاء عروضًا لأفلام مختارة من المهرجان بالتعاون مع عدد من المراكز الثقافية المحلية اليمنية. وشهدت مدينة حضرموت أيضاً في بداية هذا العام تدشين مهرجان حضرموت السينمائي الأول للهواة الذي أقيم في قاعة مكتبة الطفل في المدينة.
اليمن في الأفلام الأجنبية
من أقدم الأفلام التي أُنجزت عن اليمن الفيلم الروائي الطويل «ثورة اليمن» في مطلع الستينيات للمخرج المصري الراحل عاطف سالم. يحكي الفيلم عن قصة كفاح الشعب اليمني وثورته (المعروفة بثورة ٢٦ سبتمبر) بقيادة عبدالله السلال ورفاقه من قادة الجيش والمثقفين من خريجي الجامعات على نظام الحكم الإمامي في العام ١٩٦٢، ووفقاً لعدد من النقاد، فإن الفيلم كان أداة دعائية لدور القوات المصرية بقيادة الراحل جمال عبدالناصر في الحرب في اليمن آنذاك. أما في الوقت المعاصر، فارتبط اسم اليمن بالإرهاب والفقر لدى المجتمع الدولي في الاتجاهات التلفزيونية والتقارير المصورة، وبات الجمهور الغربي لا يعرف عنه سوى المشكلات الأمنية والاقتصادية من خلال عناوين الأخبار الدراماتيكية.
وأضحى الجمهور الغربي يعرف اليمن من خلال زاوية واحدة فقط، ما يفسر أن اليمن في عيون الغربي مازال مكانا غامضا، أضف إلى ذلك أن عدم تمثيلها بالشكل الصحيح الأقرب للواقعية يخلق نظرة نمطية محتومة تجاه اليمن في عيون الجمهور الدولي بشكل عام، نتيجة تراكمات التوصيف نفسه بشكل متكرر في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة. فلو سُئل الفرد الغربي عن اليمن وأفلامها لأجاب بأنه تعرف على اسم اليمن عندما تم ذكره في مسلسل أصدقاء «Friends» الأمريكي الكوميدي الشهير، في تسعينيات القرن الماضي، عندما ذكر أحد أبطال المسلسل في إحدى الحلقات أنه سيسافر إلى اليمن، محاولاً أن يكذب ويهرب من صديقته المزعجة. الأمر الذي أصبح مزحة معروفة بين متابعي المسلسل بأن يتعذروا بالسفر إلى اليمن متى ما أرادوا التملص من أمر ما.
كان ذلك الأمر الوحيد الذي يرن في أذهان الجمهور الغربي بالنسبة للأفلام واليمن حتى وقت طويل، إلى أن ظهر الفيلم البريطاني «اصطياد السالمون في اليمن»، مع التشديد على أل التعريف، (Fishing Salmon in the Yemen)، الصادر في العام ٢٠١٢. الفيلم البريطاني المقتبس من الرواية الأولى للكاتب البريطاني الراحل باول توردي المعنونة بالاسم نفسه جعلت من اليمن بلدا ذائِع الصِّيت خارج سياق التقارير التلفزيونية المصورة. تدور قصة الفيلم الرئيسة حول تحديات تنفيذ خطة لشيخ يمني ثري - يُؤدي دوره الممثل المصري عمرو واكد - في زراعة سمك السالمون في اليمن، بالرغم من عدم وجود البيئة المناسبة هناك لهذا النوع من الأسماك. وبالتزامن مع ذلك نشاهد قصة حب تنشأ بين أبطال الفيلم، من أداء الممثل الأسكتلندي إيوان مكريجور والممثلة البريطانية إيميلي بلانت، يقف أمامها عدد من الصعاب. من المفترض أن تدور أحداث القصة في اليمن كما جاء في الرواية، ولكن لأسباب أمنية وسياسية حالت دون تصوير الفيلم في اليمن، فقد تم تصويره في المغرب. لم يكن ذلك فقط نقطة ضعف الفيلم، إذ يضاف إلى ذلك غياب التفاصيل الصغيرة المهمة عن اليمن التي نراها خلال أحداث الفيلم، كاللهجة اليمنية الركيكة أو زي الشيخ الذي لا يمت للزي اليمني التقليدي بأي صلة، باستثناء مشاهد الجزء الأخير من الفيلم. إضافةً لذلك فإن الصورة الاستشراقية لديناميكية العلاقة بين اليمني والإيمان الديني أضعفت التوصيف الحقيقي للحالة الدينية في اليمن.
أما فئة الأفلام الوثائقية عن اليمن، فمن الممكن القول إنها تتصدر جُلّ الأفلام المنتجة عن اليمن. ومن أحدث هذه الأفلام الفيلم الوثائقي الأمريكي «حروب قذرة»، الصادر في العام الماضي، والذي رُشح لجائزة الأوسكار عن فئة أفضل فيلم وثائقي في بداية هذا العام. يأخذنا الفيلم في رحلة استقصائية للبحث في أسلوب إدارة حكومة الولايات المتحدة للحرب العالمية على الإرهاب. يكشف الفيلم جرائم القتل من قبل القوات الأمريكية لمدنيين أبرياء في كل من أفغانستان واليمن والصومال تحت مسمى الحرب على الإرهاب.
الفيلم من إخراج ريتشارد رولي، وهو مقتبس من كتاب الصحفي الأمريكي جيرمي سكاهيل بعنوان «حروب قذرة : العالم ساحة قتال». ونذكر فيلم «اصطياد السالمون في اليمن» وفيلم «حروب قذرة» كمثالين عن الأفلام المصنوعة عن اليمن بصناعة أجنبية وليس على سبيل الحصر. فهناك أيضا أفلام أخرى ظهرت أخيراً في الفئة نفسها، مثل الفيلم الوثائقي «الثائر الممانع» (The Reluctant Revolutionary) للمخرج البريطاني شين ما ليستر الصادر في العام ٢٠١٢، والفيلم الوثائقي «جدران اليمن» من إخراج الصحفية اللبنانية ديانا مقلد، الصادر في العام ٢٠١٢، والفيلم الوثائقي «الحصاد الأخير: يمنيو سان واكين» (The Last Harvest: The Yemenis of the San Joaquin) الصادر في العام ٢٠١٢ للمخرجين الأمريكيين جوناثان فريدلاندر وإيريك فريدل، والفيلم الوثائقي «هل مر الربيع من هنا؟.. الثورة اليمنية» من إخراج الصحفي المصري أسعد طه الصادر في العام ٢٠١٣، والفيلم القصير «البيت الكبير» للمخرج موسى سعيد، الصادر في بداية هذا العام، وغيرها من الأفلام.
اليمن في الأفلام اليمنية
على الرغم من انتشار دور العرض السينمائية في جنوب اليمن منذ بداية القرن الماضي حتى التسعينيات، فإن اليمن لم يشهد وجود قطاع صناعة الأفلام إلا منذ التسعينيات وحتى يومنا هذا. باكورة الأفلام اليمنية بصناعة مواهب يمنية يتقاسمها المخرجان خديجة السلامي وبدر بن هرسي. المخرجة خديجة المقيمة في فرنسا حيثُ شغلت منصب المستشارة الإعلامية والثقافية في سفارة اليمن في باريس تُعد أول مخرجة أفلام من اليمن، وفي رصيدها أكثر من 20 فيلماً وثائقياً، وقد حازت السلامي جوائز عدة لأعمالها السينمائية والكتابية منذ إصدارها كتابها الأول «أرض سبأ» في العام ١٩٩٦ ثم انتهاءً بعملها الأخير في إخراج الفيلم الوثائقي «قتلها تذكرة للجنة» الصادر في ٢٠١٢ والذي يروي قضية الكاتبة اليمنية بشرى المقطري ومقالها الشهير «سنة أولى ثورة».
عُرفت خديجة بأنها من أولى النساء اليمنيات اللواتي وظفن الفن والوثائقي خاصة من أجل فضح البيئة المجتمعية الذكورية التي تلقي بسلطتها على إناثها. أغلب أفلام خديجة – إن لم تكن كلها - تركز على قضايا النساء في اليمن وتسلط الضوء على الظلم الواقع على النساء.
من أنجح أفلام خديجة فيلمها الوثائقي «غريبة في موطنها» الصادر في العام ٢٠٠٥، الفيلم الذي افتتح المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان في جنيف في ذلك العام، وفازت عنه بست جوائز في المهرجان ذاته. أثار هذا الفيلم موجة من السجال لدى الرأي العام والإعلام اليمني لتطرقه إلى موضوع حجاب النساء والأعراف التقليدية في اليمن. يناقش الفيلم ظاهرة الحجاب في بلد معروف بأعرافه المتحفظة، فيوثق قصة طفلة صغيرة من صنعاء القديمة بعمر 13 عاماً تدعى نجمية... طفلة ضاحكة، ونظرتها للحياة فيها الكثير من الأسئلة المؤرقة، الكل بالمدينة يعرفها والكثير ينظرون إليها كطفلة مشاغبة ومزعجة للمحيط الذي توجد فيه، ويتتبع الفيلم بعدسته تحركات الطفلة، وممارساتها العفوية، واضعاً المشاهد أمام صورة من التحدي الفريد الذي تجادل عبر محطاته هذه الطفلة، وتنتقد أفكارهم مدافعة عن حقوقها الإنسانية.
نظرة خديجة الرافضة لواقع تهميش النساء تجسد مرة أخرى في أحدث أفلامها الوثائقية النابع من رحم الثورة اليمنية في العام ٢٠١١. فإبان الثورة تركت السلامي منصبها الدبلوماسي في باريس وعادت إلى صنعاء من أجل تصوير فيلم عن مشاركة المرأة في الانتفاضة ببلادها، بعد أن كان دورها مهمشا، لتعرض بعد ذلك عملها الوثائقي «الصرخة» الصادر في العام ٢٠١١، ويسجل الفيلم تجارب نسائية شخصية في نضال النساء خلال الثورة. شارك الفيلم في مهرجان الخليج السينمائي في دُبي ومهرجان «جنى» الدولي السابع لسينما الأطفال والشباب في بيروت، ومهرجان السينما العربية (إيماجيما) الذي نظمه في معهد العالم العربي في باريس.
أول فيلم روائي طويل
من جهة أخرى، يُعتبر بدر بن هرسي صانع أول فيلم يمني روائي طويل، وفي رصيده عدد بسيط من الأفلام الوثائقية وثلاث مسرحيات كتبها وتمت تأديتها في مهرجان إيدنبرغ فرينج (Edinburgh Festival Fringe) في العام ١٩٩٤، إلى جانب كونه منتجًا مساعدًا لعدد من الأفلام. أغلب أفلام بدر تُركز على القضايا الإنسانية وبقصد الابتعاد عن السياسة. لمع نجم الهرسي فور إصداره الفيلم الوثائقي «الشيخ البريطاني واليمن النبيل» (The English Sheik and the Yemeni Gentleman) الصادر في العام ٢٠٠٠، والذي يحكي عن اليمن من وجهتي نظر الرجلين.
وبعد خمسة أعوام على صدور «الشيخ البريطاني»، أبصر النور فيلم بدر الروائي الطويل الأول «يوم جديد في صنعاء القديمة» في عام ٢٠٠٥، الذي كتب قصته شخصياً وأخرجه في أرجاء دهاليز صنعاء القديمة. أراد بدر أن يكون الحب جوهر فيلمه الأول وهو موضوع غير متوقع من اليمن في ظل التغطية الإعلامية الكثيفة على قضاياه الأمنية والسياسية. يعالج الفيلم النظام الطبقي وظاهرة الزيجات المعدة سلفاً، ويدعو للتفكير في احتمالية قلة الفرصة للوقوع فعلاً في الحب. كان التحدي الكبير الذي واجهه بدر في تحضير الفيلم هو أن تسمح له الحكومة اليمنية بالتصوير على أرضها لأسباب عديدة، منها انعدام خبرة المؤسسات المعنية آنذاك في التعامل مع صناعة الأفلام الطويلة في اليمن، والتشكيك في أغراض الفيلم.
بالرغم من كل التحديات، قام بدر بالمستحيل لإنجاز العمل، فلقي جهده الاستحسان على المستويين الإقليمي والعالمي. حاز الفيلم العديد من الجوائز، مثل جائزة مهرجان الفيلم الدولي في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية في عام ٢٠٠٦، ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي كأفضل فيلم عربي في عام ٢٠٠٥، كما أنه يُعتبر أول فيلم يمني يتم عرضه في مهرجان كان السينمائي في فرنسا.
بعد كل ذلك النجاح الذي حققه بدر، صارت التوقعات عالية لما سوف يقدمه من أعمال في المستقبل. يعمل بدر حالياً في التحضير لفيلمه الروائي الثاني «العروسات الصغيرات» (Little Brides) الذي يدور حول موضوع شائك، ألا وهو زواج الصغيرات، الظاهرة التي في تفشٍّ مستمر في المجتمع اليمني وحول العالم على حد سواء.
لم تخل الساحة الفنية المحلية اليمنية من الأفلام الروائية الطويلة بعد «يوم جديد في صنعاء القديمة»، فكان عمل الهرسي انطلاقاً لتيار الأفلام الروائية اليمنية سواء من فئة الأفلام القصيرة أو الطويلة. شهد العام ٢٠٠٨ إصدار الفيلم الروائي الطويل «الرهان الخاسر» من إخراج اليمني فاضل العلفي، المنتج بدعم من وزارة الداخلية اليمنية في إطار جهود مكافحة الإرهاب في البلاد. يحكي الفيلم عن الإرهاب والتطرف الديني ويمثل رسالة من المجتمع اليمني إلى العالم حول خطر الإرهاب الذي يتعرض له اليمن بوصفه نتاجاً لفكر دخيل يرفضه المجتمع اليمني، فنشاهد في أحداث الفيلم صورة حول هذه الظاهرة والأسباب التي تؤدي إلى تناميها، والمخاطر التي تحدثها على المجتمع والبلد والجهود الحكومية التي تبذل لمواجهتها.
وفي العام ٢٠١٢، تناولت الكاتبة اليمنية سوسن العريقي قضية تهميش المرأة، لتروي لنا في أربع دقائق معاناة المرأة القابعة في الظل، لتنجز فيلمها الثالث «صورة» في رصيد أعمالها الإخراجية بعد فيلمي «ممنوع» و«بنت البحر». حصل فيلم «صورة» على جائزة أفضل فكرة في مهرجان طيبة للأفلام القصيرة بالقاهرة، وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان مكناس الدولي لسينما الشباب بالمغرب عام ٢٠١٢.
وفي العام نفسه، شارك المخرج اليمني سمير النمري في مهرجان الخليج السينمائي بفيلمه الوثائقي «أسوار خفية»، بعد أن استقى الإلهام من رواية «طعم أسود رائحة سوداء» للأديب اليمني علي المقري، ليوثق بعدسته أحوال فئة المهمشين في اليمن الذين يطلق عليهم «الأخدام»؛ وهو لفظ عنصري مبني على لون بشرتهم السوداء، الأمر الذي يُمثل أحد أهم مظاهر التمييز الطبقي في المجتمع اليمني. حاز فيلم «أسوار خفية» الجائزة الثانية من مسابقة الأفلام القصيرة الخليجية في الدورة الخامسة لمهرجان الخليج السينمائي في دبي.
كما شارك النمري في المهرجان نفسه بفيلمه الوثائقي «-18»، حيثُ يتناول فيه قضايا إعدام القاصرين في اليمن. واسم الفيلم يرمز للسن القانونية التي يمنع فيها القانون اليمني إعدام من هم دون سن الثامنة عشرة. وتدور قصة الفيلم حول الشاب محمد سموم (27 عاماً) المحكوم عليه بالإعدام بعد قتله لأحد أصدقائه عندما كان عمره 13عاماً عن طريق الخطأ، كما يقول، لكن أسرة المقتول تصر على أن القتل كان عمداً وتطالب بإعدامه.
هناك أيضاً عدد من الأعمال الفنية اليمنية المصنوعة بأنامل مواهب شبابية تستحق الرعاية والاهتمام، مثل فيلم «عيد الصغيرين» للمخرج أحمد يحيى بن يحيى، وفيلم «صوت العود» للمخرج إيبي إبراهيم، وسلسلة الأفلام الوثائقية القصيرة «أيام من قلب الثورة» للمخرج عمار الباشا، وغيرها من الأعمال لمخرجين آخرين. وبذلك لا شك في أن هناك حركة سينمائية يمنية تقاوم الضعف الذي ينهش جسدها بإصرار هؤلاء المبدعين على إصدار أعمالهم بالرغم من الصعوبات التي يواجهونها.
اليمن و«الأوسكار»
ولا شك في أن هذه الحركة السينمائية الوليدة لم تنجح بعد في الوصول للنتيجة المرجوة بخلق دور عرض سينما رسمية في البلاد، ولكن نجاح الحركة يتمثل في أنه وصل للفضاء العالمي بامتياز. سجلت المخرجة الشابة، اليمنية من جهة الأب والاسكتلندية من جهة الأم، سارة إسحاق، إنجازا تاريخيا بإنجازها أول فيلم يمني يُرشح لجائزة الأوسكار ضمن فئة الأفلام الوثائقية القصيرة، الفيلم الوثائقي «ليس للكرامة جدران» الصادر في عام ٢٠١٢.
كان الأمر مفاجأة لإسحاق نفسها فور تلقيها خبر اختيار باكورة أعمالها الإخراجية للمشاركة في مهرجان جائزة الأوسكار العالمية في دورته الـ 86، ففيلم «ليس للكرامة جدران» تم إنجازه بمحض المصادفة. كانت خطة سارة المبدئية قُبيل قدومها لليمن في عام ٢٠١١ بعد غياب لمدة عشر سنوات عاشتها في إسكتلندا أن تعود لإعادة خلق روابط بينها وبين جذورها الأصلية، وتسجل ذلك في فيلم يوثق سيرتها الذاتية، ولكنها وجدت نفسها أمام مرحلة تاريخية تمر فيها البلاد، فلزم الأمر تغيير المسار لينتهي بها الأمر إلى أن تنجز فيلمين وثائقيين، الأول «ليس للكرامة جدران»، والثاني «بيت التوت»، الذي عُرض في مهرجان دبي السينمائي في العام الماضي.
تخبرنا سارة أثناء زيارتها للعاصمة السويدية استوكهولم أثناء مشاركتها في عرض فيلم «ليس للكرامة جدران» عن كيفية بدء المرحلة التحضيرية للفيلم، وتقول «كان الأمر عفوياً، فلم تكن هناك خطة مسبقة محددة لشكل ذلك العمل ولم نتلق أي دعم مؤسسي رسمي حكومي في إنجاز الفيلم، بل إننا قمنا بصناعة الفيلم بخالص مجهوداتنا الفردية. هي مجموعة من الظروف غير المتوقعة التي دفعتنا لإنجاز الفيلم، ولم نتصور أبداً أن ينتهي بنا المطاف إلى السجادة الحمراء في حفل الأوسكار». فيلم «ليس للكرامة جدران» ولد من رحم الثورة وهو ثمرة تعاون بين سارة إسحاق والمصور اليمني أمين الغابري والمصور ومصمم الجرافيك عبدالرحمن حسين، ثلاثة شباب يمنيين وحدوا طاقاتهم وإنتاجهم التصويري في إنجاز الوثائقي. يحكي الفيلم عن مجريات أحداث يوم دام في بداية الثورة، وذلك في توثيق القمع العنيف من قبل قوات الأمن لمتظاهرين سلميين في يوم ١٨ مارس ٢٠١١ المعروف بيوم جمعة الكرامة، والذي يعتبر نقطة تحول في مسار الثورة اليمنية.
تفسر سارة نجاح الفيلم بوجود عوامل عديدة وتقول «أعتقد أن الفيلم نجح لأن الموضوع مهم ومؤثر وفريد من نوعه، والرسالة التي نقلناها عن الشعب اليمني وإصراره على سلمية التظاهر بالرغم من نسيجه الاجتماعي القبلي ووجود ثقافة السلاح والتسلح، هذه الرسالة هي التي أثرت في الناس حول العالم».
كان طموح فيلم «ليس للكرامة جدران» هو إيصال رسالة للعالم عن نضال الشعب اليمني من خلال تسليط الضوء على جمعة الكرامة وتخليد ذكرى شهداء ذلك اليوم الدامي، وأن يكرس الفيلم أهداف الثورة والتضحيات التي قُدمت لتلك الأهداف السامية. يهدف الفيلم إلى أن يكون مرآة تعكس حقيقة موقف الشباب اليمنيين وشجاعتهم أمام رصاص القمع على أمل أن يتم دحض كل المفاهيم النمطية عن أن الشعب اليمني همجي. فهل تم إيصال تلك الرسالة فعلاً؟ تجاوب سارة بأن العالم صار اليوم أكثر قربًا من الجانب الإنساني لليمن وتقول: «في كل عرض للفيلم كنت أندهش من ردور الأفعال الرائعة جدا من قبل الحضور. في كل عرض يعبر الجمهور عن تأثره بمدى بساطة القصة ومدى مصداقيتها، ويعبرون عن تقديرهم لنضال الشعب اليمني السلمي. لا أخفي أننا فوجئنا بكل هذا النجاح الذي حققناه».
إلى جانب عرض الفيلم في مهرجانات عالمية، تم عرضه مرات عديدة على القناة التلفزيونية اليمنية وفي عدد من الصالات في مراكز ثقافية محلية في اليمن بحضور ممثلين من عدد من المؤسسات الحكومية كوزارة الثقافة ووزارة حقوق الإنسان، الأمر الذي أثار نقاشا جديا بخصوص دور الإدارة السياسية في إحياء دور العرض السينمائية في اليمن. تقول سارة إن من أهم مكاسب نجاح الفيلم هو ردة الفعل الإيجابية من الجانب الحكومي تجاه قطاع السينما في اليمن، وتقول: «أعتقد أن هذا النقاش سيؤدي إلى البدء في إنشاء دور سينما وإبداء اهتمام أكبر بهذا القطاع في المستقبل.
لـ «الوثائقي» نصيب الأسد
تعد فترة التسعينيات فترة انطلاق السينما اليمنية، أما فترتها الخصبة فكانت على مر العقد الأخير. من الجلي أن هناك توجهًا كثيفاً إلى صناعة الفيلم الوثائقي من قبل المخرجين السينمائيين اليمنيين، وهو توجه متأثر بالكم الكبير من القضايا الإنسانية والاجتماعية، فقد ظهرت تلك الأفلام لتوثق وتنتقد الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية المتردية. ممكن وضع إطار واحد لمجموعة صنَّاع الأفلام اليمنيين الحاليين وندعوهم بمجموعة صنَّاع الأفلام الواقعيين، فهم نزلوا بالكاميرات إلى الشوارع، تقريباً بأسلوب إبداعي جديد يعرف في علم السينما بـ «الغوريلا» (Guerrilla filmmaking)، ليصورا بيئات واقعية متعلقة بموضوع الفيلم، لم يقتصر الأسلوب على الشكل وإنما على المواضيع المعالجة، فالمواضيع تقترب من الواقع وتسلط الضوء على كفاح الإنسان العادي.
الحالة الفنية التي برزت من خلال صناعة الأفلام الوثائقية تعود إلى توافر المكونات النوعية للمادة المصورة على مستوى الشخصيات والديكور الواقعي، إلى جانب أن ميزة التكلفة نسبياً تمكن بلورتها بأقل الإمكانات، وهكذا وجدت صناعة الأفلام الوثائقية في اليمن البيئة الخصبة للوثائقي، وخصوصا أن أبرز القيود التي تعيق صناعة الأفلام في اليمن هو التمويل، الأمر الذي يحد أيضا من تنوع الفيلم اليمني إلى المزيد من الأفلام الروائية القصيرة والطويلة .