العولمة بين الثوابت الإنسانية والمتغيرات البرجماتية

العولمة بين الثوابت الإنسانية  والمتغيرات البرجماتية

ظهرت العولمة Globalization وكأنها تُسقط على تاريخ المجتمعات الإنسانية شروطًا جديدة لتغيير مساره التقليدي، بحيث يتمركز حول جملة من القيم والرؤى المحددة. إنها ترفع شعار توحيد القيم والتصورات والرؤى والغايات والأهداف بديلاً عن التمزق والتشتت والفرقة وتقاطع الأنساق الثقافية.

لكن العولمة في دعواها هذه إنما تختزل العالم إلى مفهوم، وتتخطى حقيقته باعتباره تشكيلا متنوعا من القوى والإرادات والانتماءات والثقافات والتطلعات، لأن توحيدا لا يقر بالتنوع سيؤدي إلى توتر يفجر نزعات التعصب المغلقة، وعودة إلى إحياء الخصوصيات الضيقة التي تتغذى من مرجعيات عرقية ودينية مغلقة، وذلك يقود إلى الارتماء في سجن الهويات الثابتة والمغلقة، فالتاريخ البشري لعوب في تحولاته، فكل رغبة بالتعميم والشمول قد تفضي إلى التضييق المبالغ فيه، الداعية إلى ضغط المجتمعات في إطار واحد، تنشأ رغبات احتجاجية مضادة ترفض الامتثال لعملية الدمج التي تنزع عن المجتمعات خصوصيتها الثقافية من لغة ودين وبنية اجتماعية ونفسية وأخلاقية، ويقود مسار التنازل إلى تعارض بين القيم ذاتها، إذ من الصعب الاحتكام إلى مبدأ التفاضل والتراتب حينما يكون الأمر متعلقا بالبطانة الشعورية والثقافية للمجتمعات، لأنها نسبية، وتتحدد أهميتها من نوع العلاقة التي يقيمها الإنسان الذي ينتمي إليها.
إن العولمة تتجاوز هذه الخصوصيات وبها تستبدل قيما تدعي أنها عالمية. إن القول بعالمية القيم أمر فيه مجانبة للحقيقة، لأن قيم العولمة إنما هي القيم الغربية التي تبلورت ضمن المحضن الغربي خلال القرون الثلاثة الأخيرة، إنها ذات القيم التي نشرتها المركزية الغربية وطبعتها بطابعها، وكذا كانت تلك القيم قد تشكلت في بيئتها الغربية في ظل شروط تاريخية معينة، فإن نزعة التمركز الغربي عملت على تعميمها لتصبح كونية.

قيم إجبارية
وكانت التجربة الاستعمارية قد أسهمت في إشاعة تلك القيم على مستوى العالم، لكن العولمة تجاوزت الأسلوب التقليدي فصاغت جملة من القوانين والضوابط الملزمة التي بها يصبح الأخذ بتلك القيم إجباريا، ووظفت التقدم الكبير الذي بلغته الاتصالات من أجل إشاعة هذه القيم كمرحلة أولى قبل فرضها قانونيا على العالم. كلنا مستعد للإقرار بأن للعولمة تأثيرا في الهوية الثقافية، ولكن من الطبيعي أن كلا منا لا يرى إلا هذا التأثير الذي يصدر عن ذلك الجانب من العولمة الذي يلمسه بيده، ومن ثم كان من الطبيعي أن يختلف المحللون لظاهرة العولمة، حول تحديد ذلك الأثر في الهوية الثقافية: ما هو بالضبط؟ 
هناك مثلا من لا يرى في العولمة إلا اتجاها متزايدا نحو تقسيم العمل وانتشار التكنولوجيا الحديثة من مراكزها في العالم المتقدم اقتصاديا، إلى أقصى أطراف الأرض، ومن ثم زيادة الإنتاج أضعافا مضاعفة، وهو في سبيل ذلك مستعد لأن يغفر للعولمة أي تأثير سلبي يمكن أن ينتج عنها على الهوية الثقافية، بل مستعد للقول بأن هذا التأثير السلبي في الهوية تافه أو بسيط، بل قد يذهب إلى حد القول بأن الهوية الثقافية سوف تفيد من العولمة بدلا من أن تضار. 
هناك أيضا المفتونون بالحضارة الغربية بوجه عام، ليس فقط بكفاءتها منقطعة النظير، في الإنتاج المادي، بل وفي نقل المعلومات الغربية وتخزينها وتوفيرها لمن يريد الانتفاع بها، وبما حققه الغرب في مضمار التنظيم السياسي والاجتماعي والإنتاج الثقافي، أولئك المفتونون بالديمقراطية الغربية، وبالعلاقات الاجتماعية الغربية، وبغزارة ونوع الإنتاج الثقافي في الغرب، ويتمنون لشعوبهم سرعة اللحاق بكل هذه الإنجازات ويجدون في العولمة السبيل إلى ذلك. 
  ومن هؤلاء من لا تثير لديهم مسألة الهوية الثقافية إلا السخرية والاستهزاء، وهناك أيضا  الكارهون للعولمة، ولكن  هناك مائة سبب محتمل لهذه الكراهية. هناك من يكرهونها لأنها تتضمن مزيدا من الاستغلال الاقتصادي: يتجلى هذا في ما تفعله الاستثمارات الأجنبية الخاصة عندما تترك العالم في البلاد الرأسمالية نهبا للبطالة، وتذهب لاستغلال العمل الرخيص في البلاد الأقل نموا، كما يتجلى في شركات الأدوية العملاقة التي تضغط من أجل أن تفتح لها كل بلاد العالم أبوابها لتحقق مزيدا من الربح على حساب مستهلكي ومنتجي هذه الأدوية داخل هذه البلاد الأقل نموا.
ومن هنا يعلق الباحث جلال أمين، نعم الهوية الثقافية لابد أن تعاني جراء ذلك، ولكن المعاناة هنا ليست إلا نتيجة الاستغلال الرأسمالي، إذ تحمل كل هذه الاستثمارات الأجنبية وهذه السلع المستوردة في طياتها ثقافة مغايرة تسحق ثقافات الأمم المستوردة لها، لا لغرض ما إلا لتحقيق مزيد من الأرباح، وحماية الهوية الثقافية واجبة، في نظر هؤلاء، كوسيلة للتصدي لهذا الاستغلال، إذ إن إثارة الحمية الوطنية والحماس للثقافة الوطنية قد يعطلان هذا الاتجاه لدى الرأسمالية العالمية للانتشار.
في زمن سابق كان استنزاف الإمكانات البشرية من بلدان الجنوب يتم بالاغتصاب (اغتصاب مواطنين أفارقة من أوطانهم ومن بين ذويهم وشحنهم إلى بلدان أخرى بعيدة، حيث يباعون كعبيد، وحيث تغتصب آدميتهم منهم) أما في الزمن الحالي، فإن استنزاف الإمكانات البشرية من بلدان الجنوب يتم - أساسا - بالتحفيز الانتقائي، وفي كلتا الحالتين، سواء بالاغتصاب أم بالتحفيز الانتقائي، فإن جزءا من الشمال يستنزف لمصلحته إمكانات بشرية من الجنوب، في الزمن السابق، كانت هذه الممارسة تمثل نزفا للسواعد والعضلات، أما في الزمن الحالي (عصر الرأسمال الذهني) فإنها تعد نزفا للعقول والإمكانات المعرفية. 
إن إصرار القوى المهيمنة في الشمال على أن تسخّر لمصلحتها الإمكانات البشرية في الآخر - وهو الجنوب - جعلها تقوم بتجميل عملية التسخير، حيث هي لا ترى فيها نزفا للأدمغة Brain drainage   وإنما تعتبرها حفظا لهذه الأدمغة Brain Saving  من التعرض للأذى أو التدهور أو الفقدان إذا ما بقيت في الجنوب، وذلك باعتبار بلدان وشعوب الجنوب غير قادرين على تطوير هذه الأدمغة والانتفاع بها.
وهكذا، المهيمنون في الشمال يراوغون على الدوام، من أجل تعظيم مكاسبهم، بصرف النظر عما يحدث من أقلمة لإمكانات الجنوب. وفي جميع الأحوال يكونون هم - حسب المنطق الاستعماري - أصحاب الفضل. وإذا كانت عمليات الاغتصاب التي يمارسها الشمال ضد الجنوب وعلى مدى قرون تتبدل وتتنوع بين اغتصاب للمواد الخام (المعادن ـ المطاط ـ البترول) واغتصاب للسواعد والعضلات (استعباد السود) واغتصاب للعقول (نزف الأدمغة)، فإن السؤال الكبير المطروح هو؛ كيف السبيل إلى وقف كل هذه الأنواع من الاغتصاب والاستنزاف للجنوب، والذي يتم على مدار العقود والقرون لمصلحة دول الشمال؟! 

فخ العولمة
وفي العصر الحاضر يقوم العالم المتقدم - باسم العولمة - بتقديم المسكنات لعالم الجنوب المتخلف في صورة وسائل تسلية وإعلام، من أجل إلهائه وتخدير أجهزته المناعية، عما يحاك له في الخفاء. ومن حسن الحظ أن الصحفي الألماني النابه هانس بيتر مارتين كان أحد ثلاثة صحفيين فقط من كل أرجاء العالم سمح لهم بحضور لقاء غير عادي عقد في سان فرانسيسكو خلال سبتمبر عام 1995 ومع خمسمائة من القادة على المستوى العالمي في مجالات المال والسياسة والاقتصاد. كان صاحب الدعوة لهذا اللقاء هو ميخائيل جورباتشوف من خلال معهده الذي أُسس في الولايات المتحدة بواسطة تبرعات بعض الأثرياء الأمريكيين، وكان مكانا للقاء فندق الفيرمونت الشهير، وحضرته شخصيات مثل جورج بوش ومارجريت ثاتشر ورئيس مؤسسة CNN ورؤساء لبعض الشركات العملاقة المتعددة الجنسية. 
شكل هذا اللقاء بالنسبة للصحفي هانس أحد المعابر الرئيسة والمهمة التى ساعدته (وصديقه هارالد شومان) على تكوين نظرة مختلفة لمسارات وتتابعات العولمة، أدت بالصديقين الألمانيين إلى إصدار كتابهما الشهير فخ العولمة عام 1997. ومن خلال «فخ العولمة» نقل إلينا مارتين مصطلحا جديدا وهو «تيتي تينمنت» Tittytainnment كعنوان لأطروحة مهمة ناقشها «كبراء العالم» المجتمعون في «الفيرمونت».  
كان صاحب الأطروحة وناحت المصطلح هو السيد زيجينو بريجينسكي البولندي الأصل، الذي كان مستشارا للأمن القومي في إدارة الرئيس الأمريكي كارتر. وحسبما شرح بريجينسكي للمجتمعين فإن كلمة Tittytainnment مصطلح منحوت من Entertainnment (تسلية) وTits (حلمة)، وهي الكلمة التي يستخدمها الأمريكيون للثدي «دلالا». لقد بيَّن بريجينسكي أنه يستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى «الحليب الذي يفيض عن ثدي المُرضع، فبخليط من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن تهدئة خواطر سكان المعمورة المحبطين». 
وهكذا كانت الأطروحة تختص - موضوعيا - بما يمكن أن نطلق عليه «حلمة العولمة» من حيث هي «ميكانيزم» لتسكين خواطر المحبطين (في كل أنحاء العالم) من جراء الرياح العولمية التي يصطنعها هؤلاء القادة «العولميون» وغيرهم. ومن هنا يؤكد الدكتور جلال أمين أن التركيب البنائي للفكر البريجينسكي وكذلك للقاء «الفيرمونت» يجسد حقيقة مهمة، وهي أن شعوب العالم ومصائره ليست عند هؤلاء القادة أكثر من كرة صغيرة يسعون إلى اللهو بها، وحتى يستمر هذا اللهو لأطول زمن ممكن، عليهم أن يعملوا على أن تستمر الكرة مجرد كرة، وألا يحدث لها أو فيها أي تعديل أو انفجار.
ومن هنا كانت هذه السياسة، التي تعد بمنزلة آلية استراتيجية في إطار مناخ للعولمة الذي تهيمن فيه اتفاقيات التجارة الدولية (من خلال منظمة التجارة العالمية)، وتتلاشى الحدود وتتكسر الوطنيات، وتضمحل الصناعات المحلية وتتعاظم أحجام وقدرات الأموال القذرة dirty Money  (الناتجة عن المضاربات)، وتضعف اتحادات ونقابات العمال والمهنيين، وتتقلص إمكانات الحكومات (في الدول النامية) ذلك بينما يتضخم نفوذ الشركات متعدية الجنسية، وتتعاظم أنشطة الدعاية والإعلان والترويج الاستهلاكي. كل ذلك بينما يتزايد انكفاء جزء كبير من النخبة من المثقفين والمفكرين والعلماء على الذات المحدودة جدا، من أجل الحفاظ على إمكان مجاراة التطورات المالية والاستهلاكية. 
وفي الحقيقة، فهذه السياسة موجودة حتى قبل أطروحة بريجينسكي، وصناعات التسلية (الأمريكية بالذات) حققت تطورات وانعكاسات اقتصادية واجتماعية مذهلة على المستوى العالمي، ذلك بالإضافة إلى القدرة الأمريكية الضخمة في مجالات الدعاية والإعلان والترويج الاستهلاكي باستخدام أحدث وأرقى وأغلى التكنولوجيات.

الأماني العالمية
 وهذا ما دعا هانس مارتين في «فخ العولمة» إلى القول بأنه لم يعد ثمة شك في أنه لو طلب من سكان المعمورة التصويت لأي أسلوب في الحياة هم يفضلون، لكان بوسعهم ذلك.  فهناك ما يزيد على خمسمائة قمر اصطناعي تدور حول الأرض، مرسلة إشارات لاسلكية للحداثة التي صارت تنعم بها بعض الشعوب. فبواسطة الصور الموجودة على شاشات مليار من أجهزة التلفزيون، تتشابه الأحلام والأماني، على ضفاف الآمور ويانغ تسه Jang Tse  والأمازون والغانج والنيل. لقد «اقتلعت» الأطباق المستقبلة لما ترسله الأقمار الاصطناعية، وكذلك مولدات الكهرباء العاملة بالقوة الشمسية في المناطق النائية غير المربوطة حتى الآن بالشبكة الكهربائية، كما هي الحال في النيجر غرب إفريقيا، اقتلعت ملايين من البشر «من حياتهم القروية رامية بهم في خضم أبعاد فلكية» كما قال برتراند شنايدر (Bretrand Schneider) الأمين العام لنادي روما.
وبهذا فإن المعركة الدفاعية التي يشنها الحاكمون في الصين ضد رسائل الفاكس والبريد الإلكتروني (E- mail)، ومحطات البث التلفزيوني لم يعد القصد منها الوقاية من نسق اجتماعي مختلف، بل هي تهدف إلى المحافظة على ما يتمتعون به من سلطان. وحتى في كوريا الشمالية وبعض البلدان الإسلامية، حيث تُستكره الصور التي تبثها محطات التلفزيون التجارية العالمية، حلت الصور الفوتوغرافية والأقاصيص ذات الصور الدقيقة مكان المحطات التلفزيونية هذه، وأخذت تنتشر على مستوى عريض.
ويؤكد مارتين أنه لو قدر للستة مليارات إنسان الذين هم تقريبا سكان المعمورة أن ينتخبوا الحياة التي يريدونها، لانتخبت الغالبية العظمى منهم حياة الطبقة الوسطى السائدة في واحد من أحياء سان فرانسيسكو. لقد بدأت وسائط الاتصال والإعلام تصوغ وعي الشعوب صوغا يرمي إلى تقبُّل نسق القيم الغربية، وفي خطوة لاحقة سيصار إلى تشريع المعايير اللازمة لتطبيق ذلك. وهو ما سيفضي إلى استبعاد كثير من التشكيلات الثقافية والقيمية الأصلية. 
والمفارقة أن العالم التقليدي  لن يأخذ من عالم الحداثة إلا كل ما هو سطحي وبهرج وزائل غير متأثر بقيم علمية وحضارية ثابتة. كما أن ما تفعله التكنولوجيا الحديثة بهوية الإنسان داخل الدولة الواحدة ـ تفعل مثله بثقافات الأمم في العالم ككل، فكما خلبت التكنولوجيا الحديثة لُب الفرد حتى استسلم لها، خلبت لب الأمم، فضحَّت الواحدة بعد الأخرى بجزء بعد آخر من استقلالها الثقافي. وكما استخدمت التكنولوجيا الحديثة من جانب طبقة لقهر الطبقات الأخرى داخل الأمة الواحدة، استخدمت من جانب الأمم المتقدمة لقهر سائر الأمم.  
وقد يكون صحيحا إلى حد بعيد أن دعاة العولمة، بمفهوم الهيمنة والسيطرة على العالم، وليس بمفهوم بناء المشترك الإنساني، الذي يحتفظ بالتنوع ويقوم عليه، ويعتبره أساس النمو الحضاري، والتقدم وإثارة الاقتداء والفاعلية، وتجميع الطاقات، للإقلاع الحضاري، حاولوا التمهيد، وتأهيل الشعوب وترويضها للقبول بالعولمة، التي تعني التسلط والاستعمار، بصيغ قديمة متجددة. 

الوهن الحضاري
كل ذلك لإدخال الأمم والشعوب في مرحلة «الوهن الحضاري»، وذلك بإقامة الاستبداد السياسي ومساندتها، لأنها تدمر الثقافة، والتربية والتعليم، والاقتصاد، وتغرس صفات الذل واليأس في النفوس، وتجعل المجتمعات هشة، وسريعة العطب والانكسار والاستسلام، وحتى الميل للانتحار الجماعي، أملا في الخلاص.
هل يتعين أن نذكر سلسلة الانتحارات الجماعية وبطائفة «بوابة السماء»، كما رأيناها متسمة بأسمائها، وبغير أسمائها، إذ تدين بعبادة «سفن الفضاء» أو نذكر كيف ازداد المجتمع الأمريكي  يومها اهتزازا وهلعا بعدما تابع تفاصيل الأشرطة التي تركها المنتحرون، وتبين الجميع أن الذي أعانهم على الإمعان في تصوراتهم وزادهم إصرارا على ضرورة الانفلات من قبضة الأرض والخروج إلى الفضاء الرحب الفسيح عمق خبرتهم بالكمبيوتر وطول عشرتهم للشبكات المندمجة والعنكبوتية التي توجهها «الإنترنت»، أم يكفي أن نورد الإحصاءات التي ضبطت نسبة الحمل بين الفتيات المراهقات في بعض المجتمعات الحاملة للواء الأممية الجديدة. 
وهل ستنسى ذاكرة الإنسان المعاصر فظاعة مجازر الأطفال من بنين وبنات ضمن تجارة الجنس بالأحداث بعد اختطافهم، وذلك في شبكة من الأخطبوط السلمي المتدرج إلى أعلى أهرام المجتمع الأوربي، وخاصة في بلجيكا وفرنسا. وقد جاءت الصورة مروعة أنها شكلت بآليات التجارة والاستثمار: فيها الكفلاء وفيها الوسطاء، وفيها من علية القوم ومن يغطي ويستر ويستدر العائدات، بحيث كدنا نشارف تدويلا تجاريا، وعولمة جنسية، وأممية في ممارسة الشذوذ الجنسي.
 إن الحالة الراهنة والأنماط المستقبلية بالنسبة للحقوق والعدالة الاجتماعية وظهور كثير من القيم الاجتماعية الجديدة تعتمد بشكل أساس - كما يذكر أستاذ القانون ياشي كاي - على التفاعل بين العولمة والتدويل. إن تأثير العولمة، ليس متطابقا بين الطبقات أو الدول، فبعض الدول أكثر قدرة على استغلال الفرص التي توفرها العولمة، بينما تعجز دول أخرى عن مواجهة سطوتها. بعض الفئات أو الطبقات تستفيد من العولمة بينما يعاني البعض الآخر منها، بصفة عامة تستفيد من العولمة المؤسسات والطبقات الأكثر قدرة على تنظيم نفسها، عبر القوميات في تنظيمات دولية، بينما يبقى الآخرون تحت رحمة العمليات العالمية. لقد أثرت العولمة إطار الخطاب وممارسة حقوق الإنسان بشكل جذري، وقليل من القضايا المثارة جديد، ولكن سياق التحليل طرأ عليه كثير من التعديل، على سبيل المثال، وفرت العولمة زاوية جديدة لواحدة من أكثر القضايا جدلية، وهي، هل الحقوق عالمية أم خصوصية؟  وقد أثارت الجدل والحوار حول من هم المستفيدون الحقيقيون من نظام الحقوق، ومن يتحمل مسؤوليتها؟ 

الحكومة العالمية
إن النظام العالمي الجديد يقوم على مسلَّمة أساسية وهي إيجاد ما يشبه الحكومة العالمية، ولو من خلال بناء المجتمع المدني العالمي أولا. ولعل مؤتمرات الأمم المتحدة التي بدأت بمؤتمر الأرض ثم السكان ثم المرأة ثم المسكن، ثم الدعوة إلى إنشاء المجتمع المدني العالمي التي أصدرتها لجنة شؤون المجتمع العالمي تؤكد ذلك وتؤسس له، ومن أهم العقبات أمام سريان النظام العالمي الجديد واستقراره حدوث خروج على قيمه ومعاييره التي من أهمها إزالة الخصوصيات وتذويبها وتحويل العالم إلى نسق واحد تحدده قيادة النظام العالمي الجديد. ولعل الموقف من الصين في موضوع حقوق الإنسان ثم الحظر على كوريا الشمالية وكوبا وليبيا والسودان والعراق وإيران لا يخرج عن رفض النظام العالمي الجديد أي مخالفة لمعاييره وقيمه العالمية، ومن خلال إطار تحكم خمسة من الاحتكارات تعتبر قانون العالمية المعاصرة وهي: 
الاحتكار التكنولوجي. 
احتكار التحكم في أسواق التمويل المالي العالمي. 
احتكار وسائل الإعلام والاتصال. 
احتكار الموارد الطبيعية لكوكب الأرض. 
احتكار أسلحة الدمار الشامل. 
وهذه الاحتكارات  تجعل من استمرارية العالمية أكثر احتمالا من الانتقال إلى عصر الخصوصيات، ويجب أن نعي أن الخصوصية الحضارية، هي مرتبة وسطى في بناء حضارة من الحضارات إلى علاقة حضارتهم بغيرها من الحضارات، وسطى بين «المغايرة الكاملة» وبين «التماثل والتطابق التامين»، فالخصوصية  تعني «التمايز» الحضاري و«التمايز» وسط بين «الوحدة» وبين «الفصل التام» وهذا يعني وجود مشترك إنساني عام بين مختلف الحضارات، لا تتمايز حقائقه وقوانينه ومعارفه باختلاف الحضارات وتعددها، ووجود خصوصيات تتمايز فيها وبها كل حضارة عن غيرها من الحضارات... كمثل الإنسان، يشارك كل بني جنسه، في الإنسانية والخلق وفي كثير من المعارف وحقائق الأعضاء ووظائفها، ولكنه يتميز بالنفس والروح والمشاعر المميزة لذاته، وبالبصمة التي لا يشاركه فيها سواه من بني الإنسان. 
إن وظيفة الإنسان المؤمن الصالح لكل العالم، والذي تأخر مجيئه، تجد مجالا رحبا ومواتيا في عصر العولمة التي تحضر لما يعرف بـ «مجتمع الذات» Le Soclelste، أي المجتمع الذي يجد فيه الإنسان الذي يخاطب استمرار طاقاته الروحية والمادية لمصلحة المؤسسات الاجتماعية. 
وهكذا فالإنسان الذي يخاطب كل جوانبه وأبعاده لا يصير مجرد رقم أو فرد، وإنما تربطه مع بقية المواطنين جملة من العلاقات الإنسانية تحدده، ويتحدد بها مع الآخرين. وما يعزز هذا التوجه هو انتقال الحديث عن «حقوق الإنسان» عندما تعني الرجل وأبعاده المادية إلى حقوق الإنسانية Les droit Humains، حيث يُراد بها ليس فقط الرجل وإنما المرأة أيضا، علاوة على الاهتمام بالحقوق الداخلية أو الروحية.
فوعي الإنسان بكل أبعاده وذاتية المجتمع الذي يعيش فيه مع اللحظة العالمية والتفكير في مصلحة العالم تساعد على ازدهار الشخصية والرفع بها إلى مجالات أرحب لتصوغ فقرات كاملة من البيان العالمي للحضارة الإنسانية الجديدة، تخاطب الجميع، لأنها من الجميع. 
وعامة فقد تعددت اتجاهات التفاعل مع العولمة بين المسلمين، وهي تتراوح بين اختيار إيجابيات العولمة حتى الدعوة لقيادة المسلمين في هذه المرحلة. وفي كل الأحوال أصبحت ردود الفعل جميعها أكثر واقعية وتكيفية، وخمدت النزعة الصراعية نسبيا، وهناك اتجاه بارز هو أن المسلمين قادرون على أن يوجهوا بوصلة سير العالم مستقبلا، إن صدقت النيات واجتمعت العزائم، يقول الدكتور المسيري: «وعلى المستوى الثقافي نجد أن الهيمنة الغربية الثقافية بدأت في التراجع، والنموذج الغربي لم يعد جذابا لا بشخصه الرأسمالي، ولا بشخصه الاشتراكي، بمعنى أن الاختراق الداخلي لهذه الحضارة، قد حدث، فالنظام الاشتراكي انهار، والنظام الرأسمالي أصبح في أزمة». وهذا المدخل يعني أن الساحة قد أصبحت خالية أو مهيأة لأن يحل البديل الإسلامي محل النظم السابقة. 
ولكن لا ننسى أن الطريق شاق وطويل أمام المسلمين لإقناع العالم، وخاصة الغرب، بأهمية الخصوصيات الثقافية الإسلامية التي لا تتعارض البتة مع المواثيق والقوانين الدولية، ولكنها يمكن أن تكملها وتثريها بما فيها من مفاهيم وروحانيات، إنما الغرب في أشد الحاجة إليها، وعلينا أن نحدد معالم تلك الخصوصيات الثقافية الإسلامية التي تعتبر القاسم المشترك لشعوب الأمة الإسلامية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون «خير أمة أخرجت للناس» .