الآخرُ الموازي والآخرُ النقيض في روايات الشيخ د. سلطان القاسمي

الآخرُ الموازي والآخرُ النقيض  في روايات الشيخ د. سلطان القاسمي

  يتشكّل مفهوم الآخر تشكّلات عديدة بحسب موجّهات المفهوم ومستوياته ودلالاته ومرجعياته في اللغة أولًا والثقافة ثانيًا، فعلى مستوى البعد اللغوي للمفهوم فإنّ لمفهوم الآخر جذورًا قديمة في اللغة العربية، و«الآخر» في هذه الجذور يفترض وجود شيئين يقابل أحدهما الآخر على سبيل المضاهاة أو الحوار أو الصراع، يشتركان في الوجود ويختلفان في الصفة، وعلى أساس هذا الوجود والاختلاف معًا تتمظهر فكرة «الآخريّة» بالنسبة للشيئين معًا، كلّ منهما بإزاء الآخر.

يشتغل المفهوم على رؤية ثقافية بالدرجة الرئيسة، لذا فإنّ حضورها في كلّ عصر يستجيب لطبيعة العصر الثقافية، لما تنطوي عليه من حساسية إنسانية «بشريّة» تتجاوز حدود التمثيل الثقافيّ للرؤية بمنطقها الذهنيّ الفكريّ، لتنفتح على مجالات الحياة الأخرى وهي تحدّد شكل العيش بين البشر وطبيعته وكيفيته على الأرض.
على الصعيد الثقافيّ العربيّ تمظهرت فكرة الآخر في مقاربة العلاقة التقليدية بين الشرق والغرب، القائمة على صراع ضمنيّ بينهما يذهب باتجاه السعي إلى امتلاك الحقيقة على المستويين الروحيّ والماديّ، التاريخيّ والراهن، المتخيّل والواقعيّ، واشتغل الاستعمار الغربي والاستشراق الغربي على أسس فكرته عن الشرقيّ في أنموذجه العربيّ بالدرجة الأولى، في حين تماهى الآخر الشرقيّ غير العربيّ مع الفكر الغربيّ واستجاب له لأسباب كثيرة.
وحين استقرّت فكرة الصراع الحواريّة بين العقل الغربيّ والعقل العربيّ على هذا الأساس كشف فيه العقل الغربيّ عن نيّات مبيّتة داخل الرؤية الاستشراقية العامة التي دفعت العقل الغربيّ إلى استثمار نتائجها. إذ كان من أبرز نتائج العمل الاستشراقيّ الكثيف والمركّز لتحليل العقل العربيّ والكشف عن ممكناته هو وضع العقل العربيّ في خانة الهامش، ليس بوسعه الإسهام في بناء العالم الجديد بوصفه شريكًا محتملًا. 
وإذا كانت هذه الفكرة قد عبّرت عن نفسها في ما مضى على نحو أقلّ تعصّبًا على المستوى الفكريّ والثقافيّ، فلربما لم تظهر وراحت تمارس سلطتها التفوّقية اعتمادًا على معطيات هذه الفكرة وهي تنظر إلى العربيّ على أنه الآخر الضعيف. 
وعلى الرغم من أنّ الغربيّ بوصفه «آخر» استعماريّا في منظور العربيّ فإنّ العربيّ لا يخفي إعجابه بالأنموذج الغربيّ حضاريًا، على النحو صاغت النخبة العربية فيه مشروعها التنويريّ لتجاوز عقدة المستعمٍر والأخذ منه بوصفه «آخر» متحضرًا ومتقدمًا ومــــتطورًا، ينبـــغي الاقتداء به والإفادة منه وتمثّل رؤيـــته. وبهــــذا تكون فكرة «الآخر» متمظهرة قياسًا بفكرة «الأنا» اختلافًا واتفاقًا، وللاتفاق رؤيته ومنجزاته وللاختلاف أيضًا، بما يجعلنا ننظر إلى أكثر من «آخر» في أكثر من سياق وأكثر من مجال وأكثر من حالة، وبحسب موقع الأنا ناظرة ومنظورًا إليها.
تلعب الهويّة على هذا الأساس دورًا بالغ الأهمية في تركيز مفهوم الأنا في مقابل الآخر، حين يُنظر إلى الهويّة بوصفها مصيرًا إنسانيًا على النحو الذي يؤسس بين الأنا والآخر حوار هويّات، أو تنازع هويّات، بحسب طبيعة العلاقة بينهما في الزمان والمكان المحددين على النحو الذي تتحوّل الهويّة فيه إلى مستقبل حاسم يتحدّد على أساسها نوع الوجود الإنسانيّ ومظهره وطبيعته ومستقبله. 

القاسميّ روائيًا تاريخيًا خالصًا
في ظلّ هذا التطوّر الذي حفل به الفنّ الروائيّ العربيّ في السنوات الأخيرة، بحيث بدأت الرواية العربية في بعض مفاصلها تضاهي الرواية العالمية، وليس أدلّ على ذلك من فوز الروائيّ العربيّ الكبير نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988م، إذ أسهم اتساع رقعة ترجمة الرواية إسهامًا فاعلًا جدًا في إطلاع الروائيّ العربيّ والقارئ العربيّ على أحدث منجزات الرواية العالمية في شتى بقاع العالم، من أوربا إلى أمريكا إلى أمريكا اللاتينية إلى اليابان والصين والهند وتركيا وغيرها، وصار الروائيّ العربيّ يقلّد تارة، ويستلهم تارة أخرى ويستنبط أساليب ورؤى وأشكالًا ونظم بناء من ذلك تارة ثالثة.
لكنّ بعض الكتّاب ومنهم على نحو خاص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى للاتحاد حاكم الشارقة  أصدر ثلاث روايات تاريخية «الشيخ الأبيض/الأمير الثائر/الحقد الدفين»، وقد احتفظت هذه الروايات الثلاث بمزايا التاريخية التقليدية احتفاظًا كبيرًا، وانتمت إلى فضائها انتماءً حاسمًا، بحيث أعادتنا إلى تذكّر الاتجاهات التي أتى عليها محمد يوسف نجم في تقسيمه للرواية التاريخية، فيحضر (اتجاه الإحياء التاريخي لبعث الماضي عبر تقديم صورة شاملة لذلك العصر) بقوّة من أجل الإسقاط الوظيفي على الراهن، ويمكن تلمُّس بعض مظاهر «الاتجاه العقلي في تقديم الحقيقة التاريخية في إطار قصصي» فيها، كما يمكن ملاحظة التركيز على «الاتجاه العاطفي في تفسير التاريخ عبر العواطف الإنسانية» في بعض مفاصلها الحيوية على صعيد بناء الشخصية تارة وبناء الحدث الروائيّ تارة أخرى، ولم يبتعد «الاتجاه الرمزي في الكشف عن أزمة الحضارة الإنسانية عبر أحداث التاريخ الماضي» كثيرًا عن مفاصل أخرى في روايات القاسميّ، ولاسيما حين يسعى إلى محاكاة عقل القارئ العربيّ عبر الترميز الحاصل بين الماضي والحاضر، وتحريك عقله باتجاه إعادة إنتاج الماضي والإفادة منه.
إنّ القاسميّ لا يهتمّ بجماليات التعبير السرديّ الروائيّ قدر اهتمامه بالوظيفة التي تحمّل الرواية التاريخية أساسًا قدرًا كبيرًا منها، ولا شكّ في أنّ الوظيفة الفكرية والثقافية والأيديولوجية التي تضطلع بها روايات القاسميّ تضعها في مكانية روائية خاصة، لا يمكن الاكتفاء بمحاكمتها فنيًا وجماليًا على أساس نظريات السرد الحديثة وكفاءتها البنيوية ذات الطبيعة المعمارية النوعية، بل النظر في البعد الوظيفي الذي يسعى أساسًا إلى بلوغه من أجل التأثير في المتلقي ودفعه لاتخاذ موقف محدد تجاه حياته ووضعه وتحديات عصره، ولاسيما أن هذا الإنسان يعيش حالة خنوع وتراجع على المستويين العربيّ والإسلاميّ، وهو بحاجة إلى شحنات ثقافية وأدبية من نوع خاص لدفعه إلى تجاوز محنته والوقوف على أسبابها، عبر استلهام تاريخه وأخذ العِبَر منه، تمهيدًا لمحاولة الإسهام في ثورة ما تحققها الرواية والقصيدة والمسرحية والقصة واللوحة وسائر وسائل التعبير الفنية الأدبية والجمالية الأخرى، وعلى هذا الأساس سنتعامل مع روايات سلطان بن محمد القاسميّ، وفق رؤيتها الوظيفية قبل رؤيتها الجمالية، على الرغم من أنها اشتغلت جماليًا في مفاصل معينة منها على توظيف الدراما والسينما مثلًا في سياق «سردنة» الأحداث التاريخية، ما منحها صفات فنية فضلًا عن صفاتها الوظيفية المركزية، وعلى هذا يمكن النظر إلى هذه الروايات بوصفها روايات تاريخية من نوع خاص، بوسعنا إضافتها إلى المستويات التي عرضناها لمحمد يوسف نجم.
وبما أنّ القاسميّ كاتب مسرحيّ أساسًا، وينهل شخصياته وأحداثه الدرامية من التاريخ أيضًا، فقد أصبح لزامًا علينا التفريق على نحو ما بين عمله التاريخيّ على المسرح، وعمله التاريخيّ على الرواية، ويظهر هذا التفريق على نحو أكثر بروزًا في طبيعة استدعاء الشخصيات من التاريخ كي تكون مرةً شخصيات درامية، وتكون مرة أخرى شخصيات روائية، وهذا يتأتى من طبيعة الاختيار التي يتولاها المؤلّف حين يستدعي شخصيات محددة ضمن تاريخ محدد، بوسعها أن تجيب عن أسئلته الثقافية وتنتمي إلى مقولته الفكرية والرؤيوية.
تتمظهر هنا فلسفة الهدف المركزيّ الذي يشتغل عليه المؤلّف الذي يتحقق على يديه بوسائل تعبيرية مختلفة، وهذه الصفات هي التي تكوّن الهيئة العامة للشخصية في مجتمع الرواية مماثلًا للصفات القائمة تاريخيًا في مجتمع العصر، على النحو الذي تكون فيه الشخصية الروائية المأخوذة من التاريخ مختلفة في الشكل والمضمون والوظيفة والأداء عن الشخصية الدرامية المشابهة، وهو ما يحيل على اختلاف الجنس الأدبي بين الرواية والمسرحية، حتى وإن كان المصدر واحدًا هو «التاريخ»، وكان هذا الاختلاف على هذه المستويات واضحًا وجليًا بين مسرحيات القاسميّ التاريخية ورواياته التاريخية، مع ثبات التاريخ بوصفه المصدر الوحيد لبناء كل هذه الشخصيات.

عتبة التقديم وفكرة تمثيل الآخر في رواية «الشيخ الأبيض»
تنطوي عتبة التقديم في هذه رواية «الشيخ الأبيض» على بنية سردية واقعية ضخّها القاسميّ بحساسية قصصية منذ البدء، فهو يروي حكاية واقعية حدثت له مع ممثل أمريكي حرّضته على كتابة الرواية بطريقة لا تخلو من مفارقة، ففي حين يبحث الممثل الأمريكي في حواره مع المؤلّف عن قصة تُحاك لمصلحته كي يمثّل الدور الذي يطمح في تمثيله، يفاجئه المؤلف بوجود رواية واقعية تُغنيه عن افتعال رواية في هذا السياق:
«زارني الممثل الأمريكي «باتريك سويزي» «Patrick Swayze» في السنة الماضية، وأثناء مجاذبة الحديث ذكر لي أنه رغب مرة في أن يمثل دور «شيخ عربي» وقد طلب من مدير أعماله أن يبحث له عن قصة عربية بطلها عربي سيقوم هو بتمثيل دوره في فيلم. فأجابه مدير أعماله بأن العربي له ملامح خاصة لا تنطبق عليه.
قال السيد «سويزي» إنه ردّ عليه قائلًا لنبتدع قصة ونذكر أنّ جنديًا من الجيش الأمريكي الذي نزل في شمال إفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية تاه في الصحراء، فوجدته القبائل هناك وعاش لدى تلك القبائل حتى أصبح واحدًا منهم ثم صار شيخًا عليهم. قلت له: ما رأيك لو كتبت قصة حقيقية؟

قال: اروها لي. فرويت له الرواية التالية ..»
العناصر الأساسية في عتبة التقديم هذه تتمثّل في حضور شخصية المؤلّف، وحضور شخصية الممثل الأمريكي، وحضور فكرة الممثل الأمريكي وهي تعبّر عن رغبته في تمثيل دور شيخ عربي، واعتراض مدير أعماله بأن مواصفاته لا تصلح لذلك، فيطوّر الفكرة نحو جندي أمريكي تاه في أثناء الحرب العالمية الثانية ليعيش في كنف العرب ويصير شيخًا عليهم، ومن ثمّ ردّ المؤلّف على وجود قصة حقيقية تحكي جوهر هذه الحكاية، وينتهي الحوار إلى أن الممثل الأمريكي يطلب من المؤلف رواية هذه الحكاية التي هي رواية «الشيخ الأبيض»، حيث يتضح من عتبة العنوان حضور الصفة اللونية «الأبيض» للدلالة على البطل غير العربي، ومفردة «الشيخ» التي تدل على ما وصل إليه «الأبيض» من قوة حضور في المجتمع العربي، على النحو الذي يجيب المؤلف فيه عن سؤال الممثل الأمريكي. ولعلّ من المناسب الانتباه إلى طاقة حضور البنية الفلمية في سرد هذه الرواية، استنادًا إلى ارتباطها بالممثل الأمريكي الذي حرّض المؤلف على كتابتها، وتصريحه برغبته في أن يمثل دورًا سينمائيًا قريبًا من شخصية بطل الرواية، إذ إنّ كلّ ما يمكن أن يحيل على ذلك حاضر وماثل ومؤثّر في عتبة التقديم الكثيفة. 
إنّ الجملة الحوارية «قلت له: ما رأيك لو كتبت قصة حقيقية؟» التي وجهها المؤلف للممثل الأمريكي تشتغل في مستويات عديدة، المستوى الأول يعكس المعرفة العميقة والمنتخبة للمؤلف في التاريخ العربيّ الإسلاميّ، التي سرعان ما تجلّت لتؤكّد نوعية هذه المعرفة وقيمتها واستجابتها الفورية للحال والموقف، والمستوى الثاني يتمثّل في كثافة هذا التاريخ وخصبه، بحيث يزخر بما يرتقي إلى مستوى المتخيّل، والمستوى الثالث في استعداد المؤلف لرواية الرواية المطلوبة في الحال بفضل قوة حضورها وتألقها السردي في الذاكرة التاريخية، والمستوى الرابع توكيد القيمة الحقيقية للحكاية على النحو الذي لا يكلّف الذهاب إلى اختراع حكايات تجيب عن سؤال رغبة الممثل الأمريكي بتمثيل هذا الدور.
فالتأكيد على حقيقية القصة وواقعيتها يقود إلى أهمية الرواية التاريخية ذات الأصول الواقعية وقيمتها السردية، فضلًا عن احتوائها على عناصر تشكيل سردية جوهرية لا تقلّ قيمة عن عناصر التشكيل في الرواية المتخيلة التي تحكي حكاية مشابهة، ومادام التاريخ يزخر بمثل هذه الحكايات الخصبة سرديًا، فلماذا لا تكون روايات وأفلامًا سينمائية، ينظر إليها كما ينظر إلى الروايات والأفلام التي تولد في فضاء المتخيّل؟
يعمل التأكيد على حقيقيّة الرواية «قلت له: ما رأيك لو كتبت قصة حقيقية؟» تحييد عنصر التخييل وتقييد الواقعة الروائية بالحقيقة التاريخية، لتوفير أكبر طاقة حجاج ممكنة بحسب منهج الكتابة الروائية عند القاسميّ ورؤيتها، إذ هو لا يبتغي صناعة جمالية خالصة في مجال الكتابة الروائية بقدر ما يريد تشغيل مقولة سردية ذات وظيفة ثقافية واجتماعية وسياسية، لها أهداف معينة ومحددة تمثّل المغزى الأساس الذي يشتغل عليه في رواياته ومسرحياته وكل ما يكتب في هذا السياق.

عتبة التقديم وفكرة تمثيل الآخر 
   أمّا عتبة التقديم في رواية «الأمير الثائر» فإنّها تؤكّد على حقيقيّة القصّة وواقعيتها التاريخية، إذ تقدّم شخصية مجتلبة من تاريخ الخليج العربيّ كي تكون درسًا سرديًا يتمثّل رؤية الكاتب بهدف إطلاع القارئ العربيّ على جزء من تاريخه:
  «إنّ قصة الأمير الثائر، هي قصّة حقيقية. فإنّ كلّ ما جاء فيها من أحداث وأسماء وشخصيات موثّقة توثيقًا صحيحًا في مكتبتي، ولا يوجد أيّ نوع من نسج الخيال أو زخرف الكلام، أقدّمها للقارئ العربيّ ليطّلع من خلالها على جزء من تاريخه في الخليج العربيّ».
إنّ الإحالة على الشخصية في عتبة التقديم تأتي أولًا في فضائها السرديّ (قصّة)، والصفة العامة للشخصية (الأمير)، فضلًا عن صفتها الإجرائية الخاصّة (الثائر)، وصلـــــتها بتاريـــخ الخليج العربيّ، ورغبة المؤلّف في أن يطّلع عليها القارئ العربيّ كي يعرف تاريخه، على النحو الذي نستشف منه حضور شخصية نوعية (موازية) يتطلّع المؤلّف إلى استعادتها سرديًا من أجل إسقاطها على الراهن، وتقديمها درسًا أخلاقيًا وقوميًا وسياسيًا يمكن أن يتّعظ المتلقي به كي يقوّم الوضع من حوله، فالشخصية الروائية المستخدمة هنا «الأمير الثائر» هو «آخر موازٍ» للأنا الرواية بمرجعيتها الاجتماعية والثقافية الراهنة، لأنّها مستمدّة من فضاء هو غير فضاء الراهن السرديّ للراوي على النحو الذي يكون فيه آخرَ مناظرًا وموازيًا، يمكن تشغيله سرديًا في نطاق الأنا الراوية (الذاتية والجمعية) لتحقيق المقولة التي تترسّمها الرواية على صعيد الإسقاط من أجل العبرة، وتثوير الفكرة، وإشاعة ثقافة الإيمان بنصاعة التاريخ، والسعي إلى استعادة وهجه وبريقه لتحقيق الأهداف الغائبة.
إذ على الرغم من أنّ شخصيّة «الأمير الثائر» هي من جنس الراوي/المؤلّف (تاريخيًا وجغرافيًا) فإن تكوينها وسلوكها وطبيعتها وسيرتها تفـــصلــــها عن الانتماء إلى مناخ الأنا الراوية وفضائها، وتجــــعل منها «آخر» منفصلًا منظورًا إليها بوصـــفـــها رمزًا سلبيًا تحيل على الدرس الأخـــلاقيّ الــــذي يتمظــــهر في الرواية بوصفه أنمـــوذجًا لتــــفادي الاقــــــتداء به، ومحــــاربة ما يشبهه من نـــــماذج في الواقــــع الراهن المماثل، بمعنى أنّ «الآخــر» ليــــس هــــو دائمًا (غير العربيّ/الاستعماريّ) وهو يسعى إلى استغلال العربيّ أرضًا وإنسانًا، بل يمكن أن يكون العربيّ نفسه حين يكون أنموذجًا سلبيًا يعبّر عن صورة لا تنتمي إلى جوهر هذا الإنسان وتاريخه وثقافــته ورؤيته.
   
عتبة التقديم وفكرة تمثيل الآخر في رواية «الحقد الدفين»:
في حين تقدّم رواية «الحقد الدفين» عتبتها التقديمية بطرح أنموذج «الآخر النقيض» على نحو بالغ الوضوح والتعيين والقصدية، وهو (الآخر/الغربيّ) الذي تمظهر في المخيال العربيّ بوصفه الأنموذج الأمثل لتمثيل صورة (الآخر) الاستعماريّ القادم من أجل احتلال الأرض العربية واستغلال خيراتها واستباحة مقدساتها:
تتمظهر فكرة «الآخر/ النقيض» مباشرة منذ مطلع عتبة التقديم «قصة رجل حمل معه حقده الموروث»، وتحيل عبارة «حقده الموروث» على عتبة تاريخية تجعل من «الآخر النقيض» ليس شخصًا فردًا بل قومًا مجتمعًا يخضع لسياسة لها أهداف محدّدة، تتمثّل هذه الأهداف صفة «الحقد» على مجتمع الأنا الراوية، وهو حقد «موروث» له صبغة تاريخية يداوم فيه الأحفاد على مواصلة برنامج الأجداد من أجل تحقيق السيطرة والهيمنة والإلغاء. إنّ هذا «الآخر/النقيض» يتنكّب سلسلة مهام ووظائف مركزيّة تنتمي إلى الفكرة الاستعماريّة التي اشتغل عليها هذا الآخر منذ زمـــــن بعـــيد، ولم يتوقّف تشغيل هذه الفكرة وتطويرها واستثمار معطياتها حتى الراهن، وكانت في كلّ عصر تأخذ أشكالًا متعددة تتناسب وطبيعة الفضاء السياسيّ والحضاريّ الذي يحكم العالم، منها العسكريّ الإرهابيّ والترويعيّ، ومنها الثقافيّ، والسياسيّ، والصناعيّ التقانيّ، وغير ذلك .