قراءة وُجودية في شِعر فهد العسكر

قراءة وُجودية في شِعر  فهد العسكر

لهذا الكتاب الفريد باتجاهه النقدي، وقد ألفه الأستاذ عقيل يوسف عيدان تحت عنوان: «معصية فهد العسكر»، ويلحقه بعنوان شارح: «الوجودية في الوعي الكويتي»، لهذا الكتاب حق الصدارة في ما يتعلق بالشعر والشاعر؛ فهو أحدث الدراسات النقدية ظهوراً (2013)، ومع هذا فقد عني بشاعر غاب عن الحياة منذ أكثر من نصف قرن، وقد ألفت عنه دراسات عدة، أفاد منها الباحث ولكنه تجاوزها جميعاً.

بوجه عام فإن الشعر العربي لم يحظ بالتفات الفلاسفة أو المشتغلين بالفلسفة إلاّ في حالات قليلة جدا، ولم يكن للعسكر حظ منها. النقد الأدبي (العربي) مشغول عادة (تراثياً) باللغة، والصور البلاغية، والقضية أو القضايا، ومشغول (في زماننا) بتطبيقات تفيد من منجزات المناهج الغربية (مثل البنيوية، ونقيضها التفكيكية، والسيميائية.. إلخ). وإذ يظهر هذا الكتاب فإنه يمثل «الجيل الثالث» من حيث الاهتمام بشعر العسكر، إذا عددنا عبدالله زكريا الأنصاري واضع الأساس بجمع أشعار العسكر (أو ما تيسر له منها) على التدريج، كما أن الأنصاري هو راوية أخبار العسكر ومصور حالاته، والدكتورة نورية الرومي التي أضافت الأساس الثاني باكتشاف بعض قصائد العسكر (كانت مجهولة) وأجرت دراسة تحليلية لجملة أشعاره, كاشفة عن اتجاهات فنه والقضايا الشاغلة له، ثم يأتي الأستاذ عيدان ليقدم قراءة تتحرك بين قطبين: تقريب مفاهيم الفلسفة الوجودية عبر رواد فكرها في تدرجهم الزمني، وإبراز أهم نزعاتهم الفلسفية والروحية والسلوكية التي نادوا بها واحتجوا لها، وبعد أن يستوفي هذا القطب أو المحور الذي أطال صحبته بما يتجاوز حاجة تأطير شعر العسكر، وحياة العسكر ذاتها وتقريبها إلى المتلقي من منظور هذه الوجودية (الباب الأول من ص: 35 إلى ص: 118) يبدأ القطب أو المحور الثاني الذي شغل فيه شعر فهد العسكر – بعد مقدمة عن حركة الفكر في الكويت، وبخاصة المناهج التعليمية (ص: 121 – 201)، تعقبها وقفة تحاول أن تضيء «السيرة التكوينية لفهد العسكر» (ص: 203 – 290)، لنواجه: «وجودية فهد العسكر» بشكل محدَّد ومباشر (ص: 291 -344) لنصل إلى الخاتمة، والوثائق، فالمراجع العربية والأجنبية، التي تصل إلى ص 380!

طرح فلسفي للشعر
هذا الامتداد المتجاوز للمألوف في الطرح الفلسفي للشعر الذي لم يألفه المثقف العربي حين يقرأ الشعر من خلال رؤية فلسفية تقوده نزعة «تعليمية» مستترة، وتعقب منهجي سلس، واختيار للنصوص الموثقة التي تواشجت – في القسم الأخير الخاص بالشاعر - مع نماذج مختارة من قصائده،  فتأكدت عدالة التقسيم وسلامة الحكم. في العنوان، والعنوان الشارح، رمز إلى طابع «المعصية» المقترن بالتمرد، وهو هنا (المتمرد) سيزيف المتوازي مع فهد العسكر، ولكن «الأستاذ عيدان» يفرق بين التمرد والثورة، فالتمرد من أجل الذات، والثورة من أجل الآخرين، ويرتب على هذا أن العسكر كان ثائرا وليس متمردا، وقد بذل الباحث جهدا في تأكيد هذا الفرض بأن وصف مجلس العسكر (ندوته = صالونه الثقافي = ديوانيته) وكيف كان موئلا للشباب الجديد الطامح إلى التغيير الفني والاجتماعي والسياسي على السواء، بل إن المؤلف جعل من إبداع العسكر الشعري فاصلا، أو حاجزا بين ما قبله من شعر أنتجه شعراء الكويت من سابقيه جملة وتفصيلا، وما بعده، وهذا الوصف ينطبق على «الثورة» وليس على التمرد الذي يغلب عليه طابع الهدم، وهو – المؤلف – وإن لم ينكر على شعر العسكر، وعلى سلوكه طابع الهدم أيضا  ترفق به، فوصف هذا الهدم بأنه هدم وجودي، أو «التفلسف بالمطرقة»، وهو ما وصفت به فلسفة نيتشه، وهذا التوجه الصدامي غير منكور عند العسكر، وهو المسلك الذي وصف بأنه مجاهرة بالمعصية عند المتربصين به وبشعره!!
تحفل فصول هذه الدراسة الضافية بلمحات كاشفة عن وعي بالإنسان وتاريخ مراحله بين البدائية والتحضر، بين سلوكياته المظهرية وبواطنه المتجذرة اللاهثة لتحقيق رغباته. وقد أهديت الدراسة إلى قائدين من قادة التفتح وشجاعة المكاشفة في مواجهة من أسماهم/وصفهم بأنهم أصحاب تدين «يوم الجمعة»: أحمد البغدادي، الأستاذ الأكاديمي «الجرّاح» بكلماته الصامدة في موقف الإرادة والمصرّة على تنقية الجسد الكويتي/العربي من أدوائه، وشبلي شميل الذي أسس للاتجاه نفسه في زمانه. وفي «المنتهض» (اسم مكان أو اسم آلة من النهضة أو النهوض) يستعين بلورانس (الروائي الإنجليزي)، صاحب «مدام تشاترلي» وقد كتب هذا الأديب روايته «الجارحة» للذوق العام ليقاوم التصنّع والزيف والاستسلام للقوالب الجاهزة، وهذا «الاستدعاء» وضعنا أمام خصوصية فن العسكر الشعري دون مواربة، وقدّم التعليل النفسي «الجوّاني» الذي يرتفع بشخصية فهد العسكر من تسكينها في الوصف المألوف؛ أنه لم يزد عن كونه شابا كانت أمامه الفرصة والإمكانية المتاحة لأن يكون أثيرا مذكورا بالخير عند أهل الحل والعقد من كبراء قومه، يقدمونه ويتذاكرون أشعاره، ولكن سقوط همته وانحراف طبعه نزل به إلى درك الصعلكة وأفعال الفراغ! فكانت هذه الأشعار المتبجّحة: الجارحة الخارجة عن حد الأدب! لم يكن الأمر على هذه الصورة «المدبرة» لقولبة الرجل وشعره في موقف التهافت، فقد كانت الحقيقة في نقيض الادعاء، كان محاربا يسعى إلى تحطيم الزيف والكذب (على النفس) وتجميد الحياة في قوالب ميتة لا تؤدي إلاّ إلى مزيد من الموت في اتجاه مستقبل هادر بالتحولات عربيا وعالميا، وإن اتهام فهد العسكر بالنازية (!!) إبان حياته، والتمكن من عزله ومحاصرته اجتماعيا، وإحراق أشعاره عقب رحيله، ثم تحطيم تمثاله في المدرسة التي حملت اسمه، وتغييب سيرته في رسالتها التي أرادها، وتفسير أشعاره بأدوات «فنية» قاصرة، لتدلنا على نجاح مسعى خصومه من أعداء الحياة! ليس أمام مبضع الجرّاح إلاّ أن يجرح ما دام متيقنا من مكمن العلة، وليس له أن يهاب قطرات من الدم الفاسد تناثرت على ثوبه البريء، كما صنع لورانس وجماعات من المبدعين والفلاسفة حديدي البصر، عملوا لشق طريق أممهم إلى المستقبل دون أن يتوقعوا جزاء أو شكورا، محتكمين – راضين – إلى المستقبل، ثقة منهم بالوعي الإنساني وأنه قادم لا محالة، مادامت البذور التي غرسوها نقية صالحة. وهذا ما يعنيه صدور كتاب له هذا الوزن، من موقف الإنصاف العلمي، والتوثيق المنهجي، وشمول الرؤية، وقوة الأسانيد. لقد انطلقت الدراسة من قناعة بأن شعر فهد – في مرحلته – يشغل مساحة «الاستثناء المميز»، وأنه شغف باقتحام «المسكوت عنه» من هموم المجتمع، والسلطة، والأخلاق العامة، والشعر على السواء. من ثم كانت فضائل هذه الدراسة التي كان يسهل أن تنجرف فتنحرف، أو تنماع فتستسلم للضياع، أن التزمت بثلاث فضائل: اهتمت بدقة التوثيق، واشتبكت بالموضوع الذي وضعته في بؤرة الاهتمام من أول سطر إلى آخر سطر، مع اهتمام واضح باكتشاف أو إعادة اكتشاف الروافد (مثل التوسع النسبي في تعقب مقولات الوجوديين، وقضايا التعليم ودور فقهاء الجمود في «تحنيط» الفكر وتغييب رسالة الأدب الحيّ في الكويت)، أما الفضيلة الثالثة فهي وضوح المعيار النظري المحتكم إليه، وهو المبادئ والأهداف الوجودية، كما تجلت عند واضعيها، أولئك الذين لم يكن فهد العسكر يدري بهم أو يردد أقوالهم، ولكن أشعاره التي انتقاها عقيل عيدان، واختار لها سياقها من طرحه النقدي، تقول إن تأويل شعر العسكر من منظور الوجودية يلائمه تماما، ويمكّن لشعره في وجدان قارئه، ويبرئ سليقته من أن يصنف بسببها بين الشعراء المتهتكين أو ناقصي النخوة، إنه – الآن – شاعر رسالة، وأديب مجدد، وليس صورة مستنسخة لشاعر سابق. 
لقد أطلق عيدان – في دراسته هذه – فهد العسكر وشعره من محبسه، وتحديد إقامته، بأن أعاده إلى حيث كان يجب أن يكون: شاعرا صاحب رؤية، ومبدعا صاحب أسلوب مميز، وإنسانا حرا يرفض أن يعاد صبّه في قالب أعده أصحاب السطوة له ولغيره قبل وجوده، إنه يرفض الفكر النسقي، ويرفض التدجين، ويرفض أن يكون «زينة مجالس الكبراء ومحل عطفهم» إنه – كما يراه الأستاذ عقيل – رافض لموقف المشاهد الغافل السلبي: إنه منفتح على الوجود، يستلهم تجربته هو، ويتشكل عبر ممارساته فيبني تجربة وجوده مستأنفا بكارة الحياة مطلع كل شمس!! بما يعنيه هذا من رفض التدجين، وقبول التحدي المجاهر (الكتاب: ص23 -32). 

القراءة الرأسية
وقبل أن نمضي مع محتوى هذه الدراسة النادرة، أذكر بما سبق أن أشرت إليه من أن صدورها في هذا التوقيت يكوّن الطور الثالث: بعد جمع شعر العسكر (عبدالله زكريا الأنصاري) ثم الطور الثاني: قراءته قراءة أفقية (نورية الرومي) ليبني عليهما الطور الثالث: القراءة الرأسية، أو المذهبية، وأضيف هنا أننا بحاجة إلى «إعادة» قراءة الشعر الكويتي من منظور رأسي يعمل في اتجاه الكشف عن «حجر سنمار» الذي نهض عليه سر البناء كله، فاستجمع نقاط ارتكازه وخصوصية صناعته، وما وراء سلوكيات صانعه. لقد اتجه د. خليفة الوقيان إلى رعاية وتمييز الاتجاه القومي (أو ما يطلق عليه: القضية القومية) في الشعر الكويتي، وإنّي لأرى أن شاعرا متوحد الرؤية متجذر الاتجاه هو عبدالله حسين (الرومي) جدير بأن تفرد له دراسة كاشفة عن الفلسفة القومية، وموجاتها، وتجليات مبدعيها، ومصاعب ما واجهوه زمان رواج أشعارهم، وزمان أزمتهم كذلك. وليس الشاعر عبدالله حسين إلاّ مثلا لتوحد الاتجاه، الذي يشاركه فيه آخرون – على تفاوت – مثل علي السبتي – الذي يعوّضه أنه أعلى فنا وأقل خطابية... وهكذا. في ما يخص حياة فهد العسكر (الوجودية) التي فاض بها شعره في موجات متلاحقة، عبر قطع وقصائد تصنّف تقليديا (باعتبار موضوع القصيدة) في عدة مسارات من طرائق تجارب الشعراء وتوجهاتهم ما بين الأهاجي والنقد الاجتماعي، والإخوانيات، وشعر الشكوى، والخمريات، وتصنف من حيث الشكل إلى قصائد ورباعيات، وموشحات، وقصص، وحواريات... ولكنها تلتقي عند مقولات عامة، استخرجها عقيل عيدان، كما قد يكون غيره سبق إلى استخراج المعنى في بعض منها أو أكثرها، ولكنه لم يوحّد فلسفتها في «الوجودية»، وإنه إذا كان «لورانس» في روايته التي فجعت المجتمع البريطاني المحافظ في زمانه، فقد أبدى نبل غايته بأن أعلن أنه إنما أراد بالكشف عن المستور من الطبائع والأفعال والسلوك أن يصدم المجتمع حتى يفيق من التصنّع (التهذيب المرسوم الزائد في صلفه وجموده) الذي يهدد السلامة النفسية، بل يهدد حياة المجتمع!! لقد استعان فهد العسكر بالأداة نفسها، لتحقيق الغاية ذاتها: محاربة الزيف والتصنع بما يهدد بمسخ الإنسان وتحويله إلى آلة، مبرمجة، عاجزة عن أن تكون رهينة وعيها الذاتي وحريتها. إن العسكر – بما يؤكد انتسابه إلى زمرة الوجوديين – مع ذاته الفردية، مع حقه في الاختيار حتى لو لم يجد نصيرا، مع الحرية وحق الرفض والمقاومة، مع إنسانيته وحقه في التجريب وحرية الممارسة، وضد النمذجة، والقولبة (الإعداد المسبق) وضد المثالية (ادعاء ما لا يكون) وضد الإمعية، وضد التقييد والتقليد.

تطبيقات المنهج
وفي تطبيقات المنهج، إذ أفاد من أفكار ومقولات أهم غارسي بذور الوجودية، ورعاة نبتتها، وحراس ثمراتها، العاملين على تفعيلها في اتجاه مطالب الوجود الزمني التاريخي المتواشج بحتمية التطور الخلاق، منذ سقراط، وإلى القديس أوغسطين وفلاسفة التنوير، وعبر فلسفات كيركجارد، وكامو، وسارتر، وكولن ويلسون وغيرهم من الأقل بزوغا في المذهب، أو في فلسفة الأدب خاصة... إلخ، فإن الباحث استحضر جهود سابقيه ممن طوّفوا حول فن العسكر، مثل الدكتور خليفة الوقيان، والدكتور طارق عبدالله، والدكتور هاشم بهبهاني، (بالإضافة إلى الأنصاري والرومي اللذين تكررت العودة إليهما).
إن الفصلين: الثاني بعنوان: «السيرة التكوينية لفهد العسكر» (ص: 203 – 290)، والثالث بعنوان: «وجودية فهد العسكر» (ص: 291 – 344) يمثلان «البناء» الشاخص على أرضية المعيار، والبرهان الذي يقدم الدليل على صحة الدعوى ودقتها. ولأن المؤلف لم يكن حاضرا زمن فهد العسكر، وليس قريبا منه ليرصد الصدى، فقد كان لزاما عليه أن يستعين بالمدونات: أشعار العسكر في موازاتها مع أشعار أخرى لمعاصريه ممن لا يملكون سيرته أو سليقته، وكتابات من كانوا قريبين منه مثل الأستاذ الأنصاري، والأستاذ عبدالرزاق البصير. وقد «قرأ» عقيل عيدان ما كتب الأنصاري عن العسكر بعين تختلف في مدى إدراكها وتحفزها الفلسفي، عن العين التي فطن بها الأنصاري أثناء تدوينه، ويحمد له صدق الرؤية وصواب الوصف الذي شف عن مدى أبعد. إن الأنصاري إذ يصف مجلس فهد وأسلوب تعامله مع مريديه من شعراء الشباب، وإذ يسجل التفاتاته النقدية المستمدة من شعر العسكر يدور في فلك المألوف، فيستوقفه – على سبيل المثال – قول العسكر في قصيدة: «أهلا وسهلا»: 
يا ليلة كالريح مرت
أو كأحــلام النـؤوم
يتعثر الـواشي بها
كالغيظ في صدر الحليم
وقد يرى الأنصاري في المشبه به: «الغيظ في صدر الحليم» معنى/صورة جديدة في الشعر العربي، ولكن عقيل عيدان الذي يتبع هذين البيتين بقطعة من قصيدة  «البلبل» لا ينظر إلى «التجديد» من هذه الزاوية البلاغية/الشكلية، كما أنه يتجاوز بنفاذه إلى «ما وراء» شعر العسكر هذا الوصف – على سلامته وصحته – الذي سطره الأنصاري: التحرر الفكري، والثورة على التقاليد والعادات، والسير بالشعر إلى الحرية المطلقة، التي لا تعترف بقيود، ولا تؤمن بالمحافظة على الأوضاع الموروثة (معصية فهد العسكر – ص: 231)! لقد ذكرني فرق ما كتب الأنصاري ونورية الرومي، وما كتب عقيل عيدان، في لجوء الأولين إلى الوصف، وتركيز الآخر على المصطلح، بما سبق لي أن عرضت له في مقال ترجمته عن تشريح الشعر، لـ «مرجري بولتون» (نشرته في كتابي: اللغة الفنية ص31، نشر في دار المعارف  بمصر 1985)، وقد طرحت الناقدة سؤالا يتعلق بالمصطلح، إذ قالت: هل يمكن أن نشرّح أرنبا، ونبسط بالشرح عملية التشريح ذاتها دون أن نستعمل تعبيرا واحدا من التعبيرات المعروفة في علم التشريح؟! وهنا أفضل أن أنقل عبارتها كما ترجمتها – (ص: 35 من الكتاب المشار إليه):
«يمكن من ثم أن نبتكر أسماء نستطيع أن نفهمها بأنفسنا، مثل: حقائب التنفس – حقيبة الطعام – مجاري الدم – مادة التفكير، ومع ذلك فهذه العبارات غير المألوفة تبدو لنا حين نسمعها صبيانية سخيفة، ونحن – في الواقع – نفضل عليها الكلمات التي صارت شائعة في الاستعمال، وهذا الوضع يناظر ما يحدث عندما يستعمل طالب أحد المصطلحات النقدية دون معرفة بمعناه. ولكن استعمال مجموعة من المصطلحات المحددة لوصف تقنية الشعر يوفر الجهد، كما يجنبنا سوء الفهم، بل قد يوفر لنا وقتا أكثر مما ينبغي، في حين أن الاستعمال غير الدقيق للمصطلح النقدي يظل معلقا بأمل أن يعطي الانطباع الصحيح.. وهيهات»!!

مقارنات ومفارقات
من الواجب الاعتذار عن إطالة الاقتباس، ولكن: كان من المهم أن نوضح الفارق – الحاسم ربما – بين كتابة باحثين في ذات الموضوع، طوّف الأول حول الأوصاف وأشبعها، ولكن الآخر وضعها في إطار اصطلاح محدد، تماما كالفرق بين من قال (في تشريح الأرنب) حقيبة الطعام، بدلا من: المعدة، ومجاري الدم، بدلا من: الأوردة والشرايين. المصطلح جامع مانع متفق عليه يستند إلى رصيد علمي تجريبي، والوصف محاولة اقتراب أو إحاطة، يظل معلقا بأمل أن يعطي الانطباع الصحيح... وهيهات!! على حد تعبير مرجري بولتون.
في ما يتعلق بشعر العسكر، واتخاذه كاشفا لفلسفته الوجودية، ودليلا على اتساق حياته مع معطيات شعره، فإن عقيل العيدان حرص على أن يجري مقارنات في جانب، ومفارقات في الجانب المقابل. ففي مجال المقارنة، وحين طرحت قضية «الاغتراب» كانت أشعار بودلير حاضرة (ص: 257)، كما كان جواب هيدجر عن أن اعتبار الموت (أو الانتحار) دليل تشاؤم.. حاضرا (ص: 105)، كما كانت مقولة كامو: «أن نعيش بقوة أكثر، لا أن نعيش أحسن، لأن المعيشة الحسنى لا معنى لها» (ص: 63). وقد سلط المؤلف الأضواء على جوانب من الخصائص الوجودية في شعر العسكر مؤسسا انتماءها المذهبي/الفلسفي على سير وأشعار شعراء وفلاسفة الوجودية في الغرب، وبخاصة عندما عرض لظاهرة الاغتراب، (ص: 256) وطابع السخرية والتهكم (ص: 255، 279) فضلا عن نماذج الهدم مقدمة للبناء كما رأى ديكارت (ص: 244، 264). ولا نشك في أنه كان باستطاعة المؤلف أن يستدعي بعضا من شعر أبي محجن، وكثيرا من شعر أبي نواس، وقد تحدى كل منهما أحكام مجتمعه، لأسباب مختلفة، تكشف عن الفروق وثوابت المجتمعات عبر العصور.
وفي ما يتعلق بالمفارقة، فقد كشف عقيل العيدان، توصيفا عن الموقف التقليدي التاريخي للشعراء في العصور العربية، واقفين على أبواب السلاطين، إذ كان الشعر دائما تابعا للسياسة خاضعا للساسة، إلاّ قلة، منهم العسكر، ونفر قليل (ص: 274) توجهوا إلى المجتمع، وآثروا أن يكونوا هم أنفسهم، وليسوا أقنعة وقوالب، يملكون شجاعة طرح الأسئلة، وشجاعة التجريب بحثا عن الأجوبة، بما فيها سؤال الوجود نفسه!!
لقد افتتح المؤلف كل عنوان من عناوين كتابه بكلمة يبتدعها أو يقتبسها، فتحت عنوان «همسة» كتب متحديا خصوم الشاعر، بأساليب الوجوديين المتقبلين برحابة صدر مواجهة نتائج مواقفهم حتى قبل أن يعلنوها: «... فيا صاحبي فهد، الذي لم أعرفك، وبت اليوم وكأني لا أعرف غيرك، تأكد أنهم «ما حطَّموك وإنما بك حُطموا» فمن ذا يستطيع أن «يحطّم رفرف الجوزاء»، كما قال شوقي، في رثاء حافظ إبراهيم»!! وقد اختلفت اقتباساته من شعر فهد في مفتتح الأبواب، يغلب عليها الأسى والشعور بجحود زمانه، وهو صادق في احتواء الصدى، ولكن فهد العسكر، قد أُنصف أخيرا، عاد إلى الحياة كما يعود طائر «الفينيق» الأسطوري، منبعثا من بقايا رماده، بعد أكثر من خمسين عاما على رحيله!! .