جمالها يتحدى الزمن والغزاة، يافا.. عروس بحر الأراضي الفلسطينية: بقلم: تحسين يقين وعبدالحكيم أبوجاموس

جمالها يتحدى الزمن والغزاة، يافا.. عروس بحر الأراضي الفلسطينية: بقلم: تحسين يقين وعبدالحكيم أبوجاموس
        

عدسة: فداء كيوان

          إذا كان لفلسطين أن تفخر بحاضرة يومًا، فإنها ستفخر بـ «يافا»، المدينة التي نافست مدينة القدس، بكل ما تحمله القدس من حضارة وثقافة، وهي المدينة الفلسطينية الأولى قبل نكبة فلسطين عام 1948، ويكفي أن تتفحص التاريخ القريب لـ «يافا» التي نأت عنا، أو نحن نأينا عنها، لتتأمل نهضتها الحديثة، والتي وأدها الغزاة وسلبوها.

يافا، المدينة البحرية الساحلية، بتلتها الخضراء الرائعة، لا تكاد تذكر إلا وتقرن بالجميلة، وكيف لا واسمها أصلا هو الجميلة، فقد نحت اسمها من يافي، وهي كلمة كنعانية تعني الجميلة الجميلة.

          قبل 4000 عام أو يزيد، تأسست «يافا» على أيدي المهاجرين الساميين من جزيرة العرب، ومن يومها، وهذه الجميلة تتعرض لأطماع الدول والإمبراطوريات، فقد غزاها الفراعنة والأشوريون والبابليون والفرس واليونان والسلوقيون والرومان والتدمريون.. حتى كان الفتح العربي عام 636 م حيث أعاد إليها القائد العربي عمرو بن العاص وجهها العربي، كما أعاد إليها اسمها القديم الجميل: «يافا»..، وكان الإنجليز ومن جاء معهم وبعدهم آخر الغزاة.

          تميزت «يافا» الجميلة لجمالها وأهمية موقعها بأنها كانت تتعرض للتخريب كثيرا، على أيدي الغزاة، وعلى أيدي العرب الذين كانوا يحررونها لئلا يعود الغزاة إليها وإلى قلاعها للكر من جديد، لكنها كانت دوما تنهض من جديد، ولربما ينطبق عليها أكثر من غيرها من المدن الفلسطينية أسطورة طائر الفينيق، الذي لم يكد ينتهي من الاحتراق حتى يعود من جديد.. للحياة!

          في 14 مايو سقطت يافا بعد أن أخلت العصابات الصهيونية باتفاق مع العرب، ففي يوم 13 / 5 / 1948 سلم حاكم اللواء الإنجليزي مفاتيح الدوائر الحكومية إلى الحاج أحمد أبو لبن الذي اعتبر مسئولا عن شئون المدينة, ووافق العرب واليهود على اقتراح قدمه الحاكم بجعل يافا منطقة مفتوحة، ولكن لم يحترم الصهاينة الاتفاق, ففي اليوم التالي اقتحموها بقواتهم ورفعوا أعلامهم عليها!

          مشكلة يافا أنه تم اختيارها مركزا لتجمع اليهود، وذلك في منطقة اسمها تل الربيع، حيث قام المهاجرون اليهود ببناء نواة تل أبيب الناشئة، المدينة الناشئة الصغيرة والتي لم يتوقع أحد في سالف تلك الأيام أن تحتل «يافا» العريقة وتطغى عليها.

          وربما أدرك اليافيون خطر الغزاة الجدد، أكثر من غيرهم، حيث طرح اليهود وقتها أنفسهم دعاة حداثة، ودعاة علم وتقدم، علما بأن «يافا» كانت في عز حداثتها على مستوى دول المنطقة، لذلك، لم يكد الاحتلال الإنجليزي يعلن الانتداب على فلسطين، حتى انطلقت ثورة يافا الأولى عام 1921، وكان من أهم أسبابها: وقف سياسة تهويد المدينة!

          «يافا» بلد خير، فهي تستلقي باطمئنان في السهل الساحلي، مستفيدة من انفتاحها الاقتصادي والثقافي على دول بحر المتوسط والغرب، وما تميزت به من حركة تجارية نشطة، يضاف إلى ذلك حركة الحجاج القادمين من أوربا إلى القدس عن طريقها، وهي بما منحها الله من أرض خصبة، كثيرة الماء، والشجر، شكلت بؤرة زراعية ما لبثت أن استقطبت الصناعة، وبذلك فقد امتلكت مقومات التمدن والحضارة.

          وحتى ندرك مدى رسوخ هوية يافا الفلسطينية والعربية، فيكفي تأمل خرائط تقسيم فلسطين منذ عام 1937، حيث كانت يافا دائما ضمن الدولة العربية، وتأكيدا على كونها ميناء رئيسيًا لها.

          فرغم وجود مدينة تل أبيب الجديدة بقربها، بل وعلى أرضها، لم يستطع مقسمو فلسطين سلخها عن الدولة العربية وإلحاقها بالدولة اليهودية المقترحة في الساحل في أجزاء كبيرة منها، لكن القوة والبطش، وتآمر سلطات الانتداب، سلخت المدينة عما تبقى من فلسطين!

القدس يافا

          على باب العامود، في منطقة المصرارة في القدس، انتظرت كي أركب من هناك إلى يافا، لم أسمع كلمة يافا عند الموقف، ولم يناد عليها السائقون، بل كانوا يقولون: تل أفيف، أي تل أبيب!

          همست لنفسي في غصة في الصدر: ها هو الاسم يستلب، لنقرأ الموضوع من عنوانه!

          - أريد الذهاب إلى يافا.

          - إذن ما عليك إلا الذهاب إلى تل أبيب، ومن هناك تستطيع الذهاب إلى يافا..

          من المصرارة، حيث تلمع قبة الصخرة المذهبة في هذا الصباح، انطلقت بنا الحافلة، وسرعان ما تركنا القدس الشرقية التي احتلت عام 1967، عابرين القدس الغربية التي احتلت عام 1948، فانتقلت بين عالمين، أوربي غربي لا يخلو من طابع شرقي، وعربي شرقي خالص، لقد اختلفت عليّ الوجوه والملابس واللغة والناس.. وعبر شارع يحمل اسم شارع يافا سارت الحافلة، إلى غرب القدس، في طريق يافا القدس.

          تستطيع مشاهدة قرى القدس المدمرة التي احتلت عام 1948، سريس وبيت محسير وقالونيا، وجزء من بيت إكسا، ولفتا، ودير ياسين، وتل القسطل.. فيبدأ شريط الذكريات بالتداعي، ظهرت «دير ياسين» الحمراء كما كانت قبل 60 عاما، وأكاد أسمع إطلاق النار في القسطل، وهناك على القمة تلمح علما يرفرف على قلعة القسطل، أترحم على الشهيد عبدالقادر الحسيني، والذي حين سيطر على شارع باب الواد، أي شارع القدس يافا، استطاع تغيير مسار المعركة، وحين استطاع الغزاة احتلال القسطل، أصرّ أن يعيدها، وأعادها حرة ولكن كان قد دفع من دمه ودم رفاقه الثمن، ثم لما ترك المقاتلون القسطل ليشيعوا قائدهم.. زحف الغزاة - الذين منوا بهزيمة قبل ساعات - إلى القسطل ومازالوا فيها حتى الآن 60 عاما.

          أكاد ألمح أجزاء من خط حديدي خرب، لابد أنه خط سكة حديد القدس / يافا، الذي تأسس عام 1892، من خلال شركة فرنسية، فكان أول خط حديدي في فلسطين، لكن بعد قليل، شاهدت قطارا حديثا يسلك طريقا آخر إلى.. يافا!

          ها نحن نترك جبال القدس، ونهبط إلى السهل الممتد من أرجل الجبال إلى الساحل، تتأمل السهل بتربته الخصبة السمراء، ثمة حبوب هنا، وأشجار حرجية تطل من التلال، وأشجار مثمرة، لا أكاد أتأملها، فقلت لعلها بيارات برتقال يافا!

          تسطع أشعة الصباح على الأرض الممتدة الواسعة، لم يمر وقت طويل برغم طول الذكريات، حتى اقتربنا من مستوطنات صغيرة، هي تجمعات قليلة البيوت، سرنا فترة مع خط القطار، فسار الذهن إلى زوار القدس ويافا منذ قرن أو يزيد..اقتربنا أكثر، لم نر البحر بعد، وبعد قليل، وصلنا طرف مدينة تل أبيب، التي لا نحمل تجاهها أي ذكريات طيبة، وبدت المدينة هادئة صباحا، وكان من السهل على موظفي الـ «بتحون» أي الأمن معرفة هويتنا، ولكنهم لم يقتربوا، ربما لكبر سننا، أو أن ثباتنا جعلهم يتوقعون أننا نحمل تصاريح للزيارة!

          انتهت عبوة الماء، ودلفنا إلى محل للسؤال عن الماء، إنهم عمال عرب، قدموا لنا المياه الغازية، واطمأنوا على الضفة الغربية، لفت انتباهي كثرة الدراجات النارية هنا، سرنا باتجاه «يافا»، متأملين بعض المشاهد في المدينة الغريبة، مركزين شوقنا على التعرف على يافا أولا.

          هناك يافا، تطل من بعيد، ليس بعيدا جدا، آثرنا أن نمشي إليها على الأقدام.. سرنا دون سؤال عن المكان والطريق إليه.

          تقع مدينة يافا على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، وهي تقع شمال غرب القدس، وتبعد عنها 60 كيلو مترا.

          قال صاحبي: كانت «يافا» جسرًا لعبور القوافل التجارية بين مصر وبلاد الشام كونها في منتصف السهل الساحلي الفلسطيني الذي يعد من أكثر الطرق التجارية سهولة، وقد ارتبطت بالشام بواسطة خط سكة حديد القنطرة، وبمصر عن طريق رفح، فإلى الجنوب هناك تستلقي أختها المجروحة غزة.

          سرنا باتجاه حي النزهة، ثم ارتفع صوتي قائلا: إنها المنارة، وترقرقت دمعة في عينيّ، نحن نقترب على غير هدى ومن دون دليل من البلدة القديمة، هنا مباني الحكومة قبل عام 1948، وهنا الحامية التركية القديمة، تقرأ على خارطة جدارية تاريخ المكان الذي لم يستطع مغتصبوه أن يمحوه.

          كان أذان الظهر ينطلق من المسجد على شاطئ البحر، قلت لصاحبي: إنه مسجد تركي، يبدو ذلك من أسلوب عمارته وشكل مئذنته وقبابه..

          دقائق وتعود إلى الحالة العربية الفلسطينية، مسجد ومصلون وخطيب جمعة، تجلس وسط الناس، كأن «يافا» كما هي، تنسى مشاهدك الخارجية، وتتأمل المسجد من الداخل، بهذا القيشاني الجميل، وللمسجد ساحة خارجية غير مسقوفة، فقط تم سقف جوانبها حيث تعلوها القباب الصغيرة كثيرة العدد. عمر المسجد 300 عام، سعدت بعمره، لأنه خفف من بؤسي هذا الصباح، فعراقة المكان تتحدى الغازي وتظل كاشفة فاضحة تقول له: غريب!

          يحدثنا إمام المسجد بحب، يستفسر عن شعبنا في الضفة، ولقد كانت خطبته عن دعم الإخوة في الضفة، داخل المسجد وفي الساحة الخارجية ثمة مهرجان صغير إسلامي، تباع الكتب والأشرطة الإسلامية على هامشه، خرجنا من الباب الثاني للمسجد، ومقابلنا كانت البلدة القديمة، سوق، ويافيون.

          تبادلت الحديث مع بائع الكعك، مداعبا أي الكعك أزكى كعك «يافا» أم كعك القدس؟ فانتصر لكعك «يافا»، فأحببت انتصاره.

          - مرحبا!

          - من؟ أحمد؟ ماذا تعمل هنا؟ وهل معك تصريح؟

          أحمد من قرويي نابلس، بلدياتي، يعمل هنا ويقضي فترة من الوقت قد تصل شهرا، ثم يعود، لكنه يجد في كل مرة مشكلة في الوصول إلى هنا.

نريد رؤية يافا

          سرنا باتجاه تل يافا الجميل من الجهة الشرقية، حيث يكون البحر إلى شمالك، صعدنا التلة الخضراء، أشجار، ثمة عناية بهذا المقطع من المدينة، والتل الحضاري هذا ليس عاليا، في جزء منه أقام الأثريون الإسرائيليون مقطعا أظهر آثارا قديمة، ربما تعود إلى عهد الرومان الذين مروا من هنا يوما! حفريات داخل التل، والتل عموما عادة ما يكون محتويا على أكثر من طبقة حضارية.

          تلة يافا البسيطة والصغيرة ، قليلة الارتفاع، نطل منها على البحر، وهي في مأمن من أمواجه العالية، لذلك تم اختيار المكان لبناء المدينة عليه، بعيدا عن شاطئ البحر.

          بنيت يافا على ربوة ترتفع بضع عشرات الأمتار فقط عن سطح البحر، وهي تنحدر للبحر بشدة، في حين تنحدر للساحل ببطء، تاركة البحر يغسل أرجلها.. نهبط التلة، ثمة مكان كبير هنا تاريخي المبنى، أقرأ: المسرح العربي اليهودي، أدخل، ثمة بروفات لمسرحية معاصرة، لم أتبين العرب من اليهود، فقط سمعت لغة عبرية، فقلت هذا تزييف آخر، فالوجود العربي هنا ليس على قدم المساواة!

          «يافا» عاصمة للثقافة والصحافة والتعليم.. أين أنت؟ وهل اختفيت ووليت إلى غير رجعة؟ يافا التي كان فيها سبع صحف أشهرها فلسطين، وإذاعة يكون هذا هو ما تؤول إليه! قيل لنا عن وجود مركز للطفل والمرأة، يحمل اسم «هيرش».

حي العجمي

          اقتربنا من منطقة العجمي، في الطريق إليها ثمة بيوت مهملة، نساء ينشرن غسيلهن أمام البيوت، قلت لصاحبي كأن هذه البيوت في مخيمات الضفة لا في «يافا».. الجميلة.

          أهل «يافا» هنا يعيشون كلاجئين.. في بيوتهم البائسة الضيقة غير المرتبة، ماء الغسيل يسير في الشوارع..برائحة كريهة، أغطية لتستر البيوت، وألواح زينكو، ما أضيق هذه البيوت!

          سرنا في شارع فرعي من شارع «بيفيت»، تهويد الأسماء، هذا ما سنعتاده هنا..كما اعتاده اليافيون وغيرهم من نزلاء المكان، هنا كان تجمع اليافيين الذين تبقوا فيها بعد رحيل عشرات الآلاف عنها، 65 ألف مواطن رحل من هنا صوب الأرض الأخرى لعلهم يرجعون بعد انتهاء الحرب!

          لقد قامت العصابات الصهيونية بعد السيطرة على يافا بتجميع أهلها الباقين، وحشرهم هنا، كانوا (4000) يافي ويافية، في هذا الحي بالمدينة تم سجنهم، بعد أن أحاط اليهود حي العجمي بسياج من الأسلاك الشائكة، جاعلين الدخول إليه والخروج منه بإذن من السلطة المحتلة.. أنظر حولي، متسائلاً عن ذلك المكان بالتحديد، تغيرت معالم الحي، فقط 60 عاما..!

          ثمة هيكل سفينة قديمة صغيرة تآكلت من الصدأ، مائلة أمالت تداعيات ذهني، هنا المكان مهمل، كل ما فيه مهمل، يعلمك كم ترك هذا المكان على حاله دون تطوير، كأن الغازي أراد نفيه من الذاكرة.

          أحاول التحدث مع الناس، لكنهم حين يرونني أكتب ينفرون مني، ثم لا يخفون نفورهم وتبرمهم، تصف لأهل «يافا» الذين مازالوا على قيد الحياة ممن عاشوا فيها وفي العجمي عما آل إليه العجمي من خراب. ما كل هذه النفايات التي تشكل تلاً؟ ما هذا التراب والطمم؟ ولِمَ يتم وضعه هنا؟

          - لا إجابة!

          أعلى من ورائي يطل مسجد قيل لي إن اسمه جامع الجبلية، أما تلك فهي كنيسة الخضر..دلالة على تعايش المسلمين والمسيحيين هنا بسلام.. المباني الصفراء العتيقة تفضح عراقة المكان، بيوت كبيرة، بيوت عزّ، لكن الحاضر يطل بقسوته أيضا، تود دخول بيت من البيوت، وددت لو دعينا لتناول فنجان من القهوة.. لكن ثمة ما يريب، أخفي أوراقي والقلم قليلاً حتى أستطيع أن أتعرف!

          ليست هذه الفينة الصغيرة سفينة «تايتانك» المشهورة، لكنني لا أدري لِمَ أحسست بصخب الحياة فيها، كان هنا يومًا بشر، كم عمر هذه السفينة؟ كم يحزنني مشهد السفن التي توقفت عن الحياة وظلت فقط هيكلاً بلا روح.

          ليس بعيدًا.. إذا بنا في الميناء القديم، ولا أدري كيف أسمع نصري شمس الدين يغني: أذكر يومًا كنتُ بيَافَا..

          خبرنا خبر عن يافا

          وشراعي في مينا يافا

          رجل كبير في السن يحمل السمك، كأنه لم يستطع ترك مهنته القديمة، سألته عن الميناء...فابتسم ابتسامة عريضة، قائلا: وهل ما زال أحد يسأل عن الميناء؟!

          نعم.. ميناء يافا؟

          قال تم بناء الميناء زمن الإنجليز، في سنة الثورة..

          أي ثورة.. ثورة 1921؟

          لا يا عمي ثورة 1936.

          كنت طفلاً، وأذكر كيف كان هذا المكان مزدهرًا.. بيع وشراء، وتحميل السفن وتنزيلها..بواخر وناس خواجات وأجانب ومصاروة.

          ارتفاع البيوت اليافية يغري أهلها بتأمل البحر، ومناجاته، وباستطاعة الناس هنا أن ينظروا من خلال الشبابيك تجاه المراكب والصيادين والسفن والزائرين، قبل أن يغلق الميناء قبل 42 عامًا..

          بإغلاق الميناء خسرت يافا بعضًا من تاريخها الجميل، فوجود ميناء في المدينة حياة لها ولعمالها وموظفيها.. «في البدء تم إهمال المينا (الميناء)، إلى أن أغلق نهائيا، ولم يبق منه سوى مراكب صيد وبعض اللنشات كما ترى».

          والبحارة.. أين هم؟ وكيف كانوا؟

          اسأل الناس، أو اقرأ الكتب يا بني، لقد اتصف بحاراتها بالجرأة والمهارة في الملاحة في مرفأ معرض لأمواج البحر التي تخيف، ولولا شجاعة البحارة اليافيين لغرقت الكثير من السفن.

الرحيل

          هل رحل البحارة اليافيون إلى بحار أخرى؟

          يذكر الدكتور إبراهيم أبو لغد رحمه الله ابن يافا الذي أوصى بأن يدفن فيها، وفيها دفن بعد غربة خمسين عاما - أنه كان ابن 18 عاما حين كان يحاول هو وبعض الشباب ثني الناس عن الهجرة، لكنهم لم يكونوا يسمعون صوتهم، قارب وراء قارب وسفينة وراء أختها، منها إلى عكا، وإلى الشتات.

          وهكذا ظل فيها حتى آخر فوج، وما كان منه سوى أن اضطر إلى الرحيل هو الآخر تاركا يافا، وهو يتأملها، وينظر إلى هذا البحر العظيم ملقيا فيه سؤاله الكبير: هل لنا عودة؟

أهل يافا

          عانى أهل يافا كغيرهم من فلسطينيي عام 1948 من الحكم العسكري منذ عام النكبة حتى عام 1966، حتى إنهم لفترة طويلة لم يرغبوا في الحديث عنها..ولا أدري لماذا؟

          حالة من الضياع والفقر واستلاب الهوية، وتحولهم إلى عمال بأجور زهيدة، وعدم السماح بإظهار الهوية العربية، ورغم ذلك، رغم هذا الخراب فإنهم ظلوا يولدون من جديد، فمن 4000 مواطن صاروا 25 ألفا أو يزيد.

          رغم إقامة مدينة تل أبيب التي كبرت خلال قرن من الزمن، ورغم ازدهارها، فإن اليهود لم بتركوا يافا على حالها، بل احتلوها هي الأخرى، فرغم الوجود العربي فيها، فإنها تنتمي إلى ما يسمى بالمدن المختلطة، عرب ويهود.

          خمسة وعشرون ألف عربي بين 50 ألف يهودي في يافا..

          أهل يافا لا يحبون الكلام.

          تمر على البيوت القديمة، فلل ودارات وبعضها قصور صغيرة، لكنها مهملة خربة، في فناء تلك البيوت أطفال يلعبون، مشهد الأطفال يخفف حزني.

ما أجمل هذا البيت!

          تجرأت وسألت رجلاً خمسينيًا يرتدي البيجامة أمام البيت: لماذا لا ترممون البيوت ؟

          - ممنوع يا أستاذ!

          ودخل إلى البيت..

          بعض البيوت أو أكثرها تعود للاجئين من يافا، تتبع ما يسمى أملاك الغائبين.. لذلك تستغل سلطات البلدية ذلك وتمنع ترميمها!

          من جهة أخرى، يتحدث اليافيون عن إغراءات سكان تل أبيب بشراء البيوت بأسعار مرتفعة!

          حدثني شاب ملتحٍ عن وضع يافا السيئ، الذي يأتي في أسفل درجة من حيث المستوى، فشكا من مشكلة المخدرات التي تعانيها المدينة، حيث تغض الشرطة نظرها عن هذه الظاهرة كما في مدينة الرملة أيضا.. المدارس مهملة تعاني عدم التطوير، غير مسموح بالبناء، أما اليافيون فهم غير قادرين على منافسة رأس المال اليهودي سواء في الشراء أو في مناقصات البناء، يتحكم اليهود في هذه المدينة المختلطة بواقعها ومستقبلها. لا أحد يسأل الفلسطينيين عن خياراتهم وطموحاتهم وآمالهم..

سمك يافا

          اشتهرت يافا بسمكها قديما، وما زالت، تحدثني السيدة زينة داود عن طيب طعم السمك، متغزلة به، فقلت لها: مهلاً فنحن نعرف السمك أيضا..!

          - أنتم تعرفون شجر العنب والتين..لكن السمك ما أدراكم به؟!

          - وهل هو علم؟!

          - نعم هو كذلك..فنحن لا نأكل أي سمك مثلكم أهل الجبل، نحن نعرفه ولا نأكله إلا طازجًا..

          لا شك أنه جميل، طيب المذاق.. مشبع.. شعرت بثقل المعدة فعاتبت زينة!

مسجد البحر

          أطل على بحر يافا، ناظرًا إلى الطيور، وإلى الناس من حولي، لا أحد ينظر تجاهنا، الكل منشغل بأحاديثه، أيضا ثمة عرب هنا، أنظر تحت المكان، ثمة مسجد آخر قريب، لنصلي العصر..

          توضأت على عجَل.. وإلى المسجد دلفت فرحًا، بعض المصلين فقط كانوا هنا..شباب صغار..

          نزلنا تجاه مسجد البحر (أو مسجد الميناء)، قيل لنا إن تلك المنطقة حول المسجد كانت ملتقى المخدرات و...، حدثنا السيد احمد أبو عجوة، إمام المسجد الذي يقع في حجرتين، إن المسجد كان مهملا، أما المنطقة حوله، والتي هي جزء من المعمار التقليدي العربي الإسلامي فقد هدم الإنجليز جزءًا منها عام 1936، في حين أكملت المهمة إسرائيل في الخمسينيات فيما بعد، كان الناس فقراء لا يملكون ما يرممون به المسجد، في أيام الحكم العسكري من 1948 - 1966، كان العرب قد أجبروا على العيش في «جيتو» على حد تعبير أحمد أبو عجوة، ولم يكن بوسعهم الدخول إلى العجمي إلا بإذن الحاكم العسكري، قبل عام 1948، كان في يافا وضواحيها أكثر من 46 مسجدًا، مازالت بعض المآذن ترتفع معانقة أجراس الكنائس.. شيء من العزاء الجميل، أليس كذلك يا صاحبي؟!

          يقول أبو عجوة: إنه في أواخر الثمانينيات انهار قسم من الجزء الشرقي بفعل العوامل الطبيعية، ووضعت إسرائيل يافطة «منطقة خطر» وقد قامت الهيئة الإسلامية بترميم المسجد، وهو الآن مسجد ومركز إسلامي يدرس الفقه والقراءة، والسنة، وأضاف أن القانون الإسرائيلي يطالب بضرورة ترميم كل المباني بما فيها المساجد من قبل الدولة لكن أين التطبيق؟!

          بنى مسجد البحر الوزير التركي حسين باشا في القرن التاسع عشر، ويبدو أنه كان عامرًا كونه على الطريق الرئيسي، الآن وفي ظل بعد المسجد عن منطقة سكن العرب، يصلي فيه القليل لا يتجاوزون 15 فردًا، تحدث أحمد عن مسجد الطابية «في المسجد يافطة مكتوب عليها «نكون أو لا نكون» عن مسجد الطابية، قال إنه وجمعا من أهل يافا دخلوه وأقاموا الصلاة فيه، إلا أن الشرطة أقفلته، وبينهم وبين السلطات محكمة حول المسجد.

برتقال يافا

          شركة برتقال يافا، اسم على قصاصة ورقية قديمة احتفظت بها من كتاب قديم، أظن أنها كانت توجد في شارع إسكندر..

          شارع اسكندر! أين هو هذا الشارع؟!

          هل أبحث عنه وعن الشركة؟ باحثًا عن وظيفة..أو باحثًا عن تجارة..؟

          برتقال يافا مشهور، وهو ماركة ممتازة معروفة، مرّ وقت لم نأكله، وهو ما تشتهر به فلسطين بشكل خاص..

          ورد أول ذكر لبرتقال يافا عام 1751م في كتاب عالم الطبيعة السويدي فردريك هاسل كويست عن رحلاته إلى الشرق، وقد كانت تتركز بيارات البرتقال على جوانب نهر العوجا، حيث جعلت هذه المنطقة مكانًا للتنزه.. لم يحالفني الحظ بالتجول ولو في بيارة واحدة لليمون والبرتقال لعلي حين أشمها تدخل يافا وحيفا وعكا إلى رئتي وقلبي وتسكن هناك إلى الأبد، كانت تكفيني فقط فعلاً شمة من أريج الحمضيات الذي كان يعطر الساحات، فغزا عليه غاز في غفلة من النوّار فسرق الشجر وحبات البرتقال! مسكينة هذه المسلوبة، هذه الشجرة الرائعة الجميلة التي نقل زراعتها الفلسطيني من بلاد بعيدة إلى فلسطين. فهل يتذكر اللاجئون عن يافا رائحة نوّار البرتقال هناك في منفاهم الطويل؟ أقرأ في كتاب مدرسي عن فلسطين قبل عام 1948:

          «في سنة 1886 أرسل القنصل الأمريكي في القدس تقريرا إلى مساعد وزير خارجيته أشاد فيها بالجودة العالية لبرتقال يافا، وبطرائق التطعيم المبدعة التي كان يستخدمها المزارع الفلسطيني، واقترح في تقريره أن يقتبس المزارعون الأمريكيون في فلوريدا أساليب زراعة البرتقال الفلسطينية..»**

          وبلغ عدد صناديق البرتقال المصدرة منها عام 1911 نحو مليون صندوق، حيث كان البرتقال يصدر إلى مصر وبريطانيا وتركيا وفرنسا.

          ما بيننا وبين عام 1886 العديد من السنين، وما بيننا وبين فلوريدا الكثير من الرمال والصخور والتراب والماء. مقابلنا، يطل مسجد حسن بك الكبير، يتعرض باستمرار لتحرشات متطرفين.. نسير على كورنيش يافا.. زرناه، كنت أحسبه كبيرًا جدًا، هو متوسط، بمئذنة، وهو يقع بين يافا وتل أبيب، وإلى تل أبيب أقرب.. بعده تبدأ مدينة تل أبيب الكبيرة، تبدأ بفنادقها العالية، وشاطئها الكبير الواسع..

تل أبيب

          لم نزل في جوانب تل أبيب القديمة، تساءلت عن تاريخها، ولماذا بنيت كمدينة مستقلة لليهود قبل قيام إسرائيل 1948، معلوماتي عن المدينة قليلة جدًا.. لم نكن نحبها لنتعرف عليها، بالسير على الأقدام نتعرف على أطرافها، فليس هناك ما يربطنا بها، بل هناك ما لا يربطنا!

          بدأ اليهود يقيمون في يافا لأغراض تجارية عام 1841 إثر تعيين حاخام فيها، وقد قدر عددهم في منتصف القرن التاسع عشر بثلاثين عائلة.

          لكن أعدادًا من اليهود الأشكنازيم الغربيين بدأوا يتدفقون عليها منذ عام 1882 مستفيدين من نظام الامتيازات الأوربية أواخر الدولة العثمانية.

          على بعد حوالي كيلو متر أو أكثر أقيمت نواة تل أبيب وكانت عبارة عن 60 بيتًا. كان ذلك في بداية القرن، عام 1909 بالتحديد.

ما لي والمدينة الغريبة أنا الغريب عنها!

          لأصغي إلى صوت يافا القديم، لعلي أسمع نداءات الباعة في رمضان، أو موسيقى تنبعث من بيوت العزّ التي صارت أطلالاً، لأصوات طلاب المدارس يهتفون برحيل الاستعمار البريطاني في المنشية..أو صوت البواخر في الميناء. رائحة البحر هي الرائحة ذاتها، والصورة التي نراها من بعيد هي ذاتها أو لعلها تشبهها، لكن ليست هذه يافا الجميلة، تلك العروس كاملة الروعة، لا.. ليست هذه العروس، لا يمكن أن تكون.

          قبل 60 عامًا بالضبط، في 14 مايو سقطت يافا، داخلة زمان الأسر الذي طال.

          ألم يتحدثوا دوما عن يافا عربية في كل الخرائط؟ لم تستطع الديبلوماسية شطب عروبتها لكن جاء من شطب عنوة واغتصابًا للمكان والزمان.

          أتساءل لِمَ سلم حاكم اللواء الإنجليزي مفاتيح الدوائر الحكومية إلى الحاج أحمد أبو لبن الذي جعلوه مسئولا عن شئون المدينة ليوم واحد فقط؟!

          في طريق العودة إلى القدس كان الظلام قد ألقى سدوله عليّ بأنواع الهموم لأبتلي....لأخفي بعض الدموع، هأنذا أصعد التلال مرة أخرى في طريق يافا القدس.
-------------------------------------
* تحسين يقين - كاتب وناقد - القدس المحتلة
* عبد الحكيم أبو جاموس، كاتب وشاعر وصحفي يقيم في نابلس
** وليد الخالدي، قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876-1948

 

 

 

بقلم: تحسين يقين وعبدالحكيم أبوجاموس*