أسمهان (1912 - 1944) أسطورة الغناء العربي الحديث 70 عاماً على رحيلها

أسمهان (1912 - 1944) أسطورة الغناء العربي الحديث 70 عاماً على رحيلها

مع أن لقب «الأسطورة» في الغناء، تعوّد بعض النقاد العرب على إطلاقه على أكثر من واحد أو واحدة من أساطين الغناء العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإن هذا اللقب يليق أكثر ما يليق - برأيي - بصوت أسمهان، ليس لما يتضمن من قيم فنية استثنائية ونادرة فقط، بل لأن حياتها الشخصية، في بدايتها ومسارها ونهايتها، كان فيها الكثير من أجواء الأساطير أيضا.

هي التي ولدت في الماء (على متن باخرة كانت أسرتها تهرب بواسطتها من تركيا)، فولدت فيها مساء الرابع والعشرين من نوفمبر في العام 1912، وماتت في الماء، حيث غرقت بسيارتها في إحدى ترع نهر النيل، يوم الرابع عشر من يوليو في العام 1944، قبل سبعين عاما بالتمام والكمال.
وهي الأميرة التي دفعها عشقها للغناء، إلى التضحية بكل غال ونفيس حتى تظل حرة، تمارس هواية الغناء متى شاءت، وتنقطع عنها متى شاءت.
وهي بنت أسرة الأطرش التي لعبت دورا رئيسا في مقارعة الاستعمار الفرنسي لسورية، فدفعها اهتمامها الجانبي بالسياسة، إلى مزاولة «اللعب مع المخابرات» البريطانية والفرنسية، اندفاعا وراء شغف بالحياة، بما تقدمه من إغراءات المجد والشهرة والثروة.
وهي بعد كل ذلك، صاحبة الصوت الماسي النادر الرنين، التي ولدت في عصر أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، فمالت أكثر ما مالت إلى التأثر بحداثة أسلوب عبدالوهاب، وطبقت روح هذه الحداثة على معدنها الصوتي النادر، فتألقت لوقت قصير كالشهاب اللامع في عصرهما، لكنها ما لبثت أن اختفت فجأة، وبأسلوب الصدمة الدرامية، في ذروة عهدهما أيضا، في منتصف الأربعينيات، بعد أن نصبت نفسها في مرحلة  احترافية لم تتجاوز سنواتها الجادة السنوات السبع، أستاذة للغناء العربي النسائي المعاصر، في عصر زعامة أم كلثوم للغناء النسائي التقليدي، فكانت كأنها النسخة الأنثوية من حداثة محمد عبدالوهاب.
ومع أن ظهورها الفني قد تزامن مع عصر تألق ليلى مراد الاستثنائي في مجال الأغنية السينمائية، فقد نصبت نفسها سيدة الأغنية السينمائية الحديثة، مع أن كل ما شاركت في تمثيله لم يتجاوز سوى فيلمين اثنين: «انتصار الشباب»، في العام 1941، الذي تقاسمت بطولته مع شقيقها الفنان فريد الأطرش، و«غرام وانتقام» في العام 1944، الذي تقاسمت بطولته مع يوسف وهبي وأنور وجدي، وماتت غرقا قبل الانتهاء من تصوير مشاهده الأخيرة، كما ظهر صوتها في فيلم ثالث بطولة محمد عبدالوهاب، «يوم سعيد» حيث أدت بصوتها الدور النسائي في مغناة «قيس وليلى» التي قامت بدورها تمثيليا ممثلة أخرى في العام 1939.
رصيد أسمهان الغنائي الذي لعبت به كل هذه الأدوار الريادية في الغناء العربي المعاصر، لا يتجاوز رغم ذلك، الثلاثين أو الأربعين أغنية على أبعد تقدير.

الهروب إلى القاهرة
كان طبيعيا أن تكون قاهرة النصف الأول من القرن العشرين مسرحا ومقاما لهذه الأسطورة البشرية والغنائية، التي انتقلت إليها بشكل شبه دائم مع والدتها وأشقائها في العام 1923، هربا من الظروف الصعبة للثورة السورية على الاستعمار الفرنسي، التي كان والدها منخرطا فيها بالكامل.
لكن الذي حدث أن حياة أسمهان ظلت مع ذلك مقسمة بين مصر وسورية، موزعة بين عشقها للفن ولممارسة ملذات الحياة في مصر، والعودة إلى جذورها العائلية في جبل العرب في سورية، حيث اقترنت بما يشبه الضغط العائلي من ابن عمها. لكن سورية لم تكن فقط مسرحا للحياة الزوجية لأسمهان، بل تحولت بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية إلى مسرح لعلاقتها بالمخابرات البريطانية والفرنسية، حيث لعبت هذه العلاقة أدوارا مهمة في تسهيل دخول جيوش الحلفاء إلى سورية، ثم فلسطين ولبنان.
ولعل هذا الدور الاستخباري السياسي الذي قامت به أسمهان، كان أقسى من البنية المرهفة لعشقها الفني، فظل يمثل مصدرا للخطر على حياتها الفنية الهانئة.

متاعب السياسة والمنافسة
وقد طرحت عدة نظريات في مسألة موت أسمهان غرقا بحادث مفتعل، بدليل أن السائق قفز من السيارة أثناء انحرافها للوقوع في مياه النيل، وهناك رواية تؤكد تصفية هذا السائق، بعد أسبوع من حادثة أسمهان.
النظرية الأولى ذهبت إلى حد نسبة تدبير الحادث إلى أم كلثوم، التي كانت تشعر بغيرة فنية شديدة من أسمهان، بعد أن انصرف كل من محمد القصبجي ورياض السنباطي، إلى تزويدها بروائع الأنغام، وهما اللذان كانت أم كلثوم تعتبرهما ملحنيها الخاصين، إلى جانب زكريا أحمد.
أما النظرية الثانية فنسبت تدبير الحادثة إلى الملكة نازلي، والدة الملك فاروق، التي كانت هناك تفاصيل كبيرة عن غيرة نسائية بينهما بسبب العلاقة بأحمد حسنين باشا، رئيس الديوان الملكي، والحقيقة أن أسمهان ظلت في حياتها تقاسي عذابا حقيقيا كلما خرجت من مصر، وأرادت العودة إليها، حيث كانت الملكة نازلي في كل الحالات لا تتورع عن استخدام نفوذها، لمنع دخول أسمهان، أو لحصولها على الجنسية المصرية، حلا لكل هذه الإشكالات.
أما النظرية الثالثة، وهي التي أراها أكثر معقولية من النظرتين السابقتين، وأقرب إلى التصديق، فهي أن الخفة التي كانت بها أسمهان تمارس «الألعاب الاستخبارية» الخطرة مع المخابرات البريطانية والفرنسية، ثم اقترابها بخفة قاتلة إلى احتمال التعاون مع المخابرات الألمانية المعادية طبعا للحلفاء، هذه الخفة في ممارسة هذه «الألعاب الخطرة» هي على الأرجح التي أدت إلى وضع المصير النهائي الفاجع لحياة أسمهان، التي كانت لا تصغي في هذا المجال إلى نصائح صديقها المقرب، الصحافي المصري الكبير محمد التابعي، بالابتعاد عن هذه العلاقات الخطرة.

أسطورة غنائية
لعل هذا التداخل الكامل بين كل هذه التفاصيل في حياة أحد الأصوات التاريخية في الغناء العربي المعاصر، هو الذي ساهم في منح صفة الأسطورة إلى اسم أسمهان. لكن مراجعة دقيقة للتاريخ التفصيلي للغناء العربي، النصف الأول من القرن العشرين، وارتقاء اسم أسمهان إلى جانب اسمي كل من عبدالوهاب وأم كلثوم، يؤكد لنا أن أسمهان كانت تستحق لقب الأسطورة الغنائية، بغضِّ النظر عن كل التفاصيل الأخرى في حياتها، بدليل أننا كلما أعادت إحدى الفضائيات عرض فيلم «غرام وانتقام»، نصاب بقشعريرة من نشوة لا نهاية لها، ونحن نستمع إلى صوت أسمهان الماسي، وهو يلمع في الثنايا اللحنية لأغنية «ليالي الأنس» لفريد الأطرش، أو «إمتى حتعرف» لمحمد القصبجي، أو «أيها النائم» لرياض السنباطي.
لعل أسمهان من أكثر الفنانين العرب تجسيدا حيا لمعاني الخلود في الغناء، فعلت كل ذلك في مدى زمني لا يصدق (سبع سنوات) وقدمت في أغنياتها القليلة نماذج من أروع ما استقر من رصيد الغناء العربي المعاصر، من ألحان كل كبار النصف الأول من القرن: عبدالوهاب، وفريد الأطرش، والسنباطي، والقصبجي، ومدحت عاصم وزكريا أحمد.
ومن المؤكد أن أثر أسمهان العميق في الغناء العربي المعاصر لم يتوقف عند حدود المستمعين، بل تعداه إلى التأثير في عدد من الأصوات الغنائية الكبيرة من الأجيال اللاحقة، حيث التصقت صفة الحداثة في الغناء النسائي العربي إلى يومنا هذا، بصوت وغناء أسمهان، التي رحلت منذ سبعين عاما، ومازال تأثيرها كاملا وحاضرا في المستمعين، كما في بنات الجيل الجديد من المغنيات العرب .