عبدالوهاب... و«مجنون ليلى»

عبدالوهاب... و«مجنون ليلى»

مات الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب وفي نفسه شيء من مسرحية «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقي. فقد ذكر الناقد الفني إلياس سحاب في كتاب حديث له عن عبدالوهاب أن الموسيقار الكبير عاد في شهوره الأخيرة التي سبقت وفاته إلى الاهتمام الجدي بتلحين ما لم يكن قد لحّنه سابقا من هذه المسرحية. المعروف أن عبدالوهاب غنّى في شبابه الباكر قصيدة من هذه المسرحية تبدأ بالشطر التالي: «تلفتت ظبية الوادي فقلت لها»، كما عاد في مرحلة تالية إلى غناء حوارية منها بالاشتراك مع المطربة أسمهان.

وكان يقول على الدوام إنه لحّن قسما كبيرا آخر منها إلا أنه طواه بين أوراقه بانتظار تلحينها كاملة. في كتاب إلياس سحاب أن عبدالوهاب فاتح المايسترو سليم سحاب، شقيقه، بهذا الموضوع بقصد التعاون معه في إنجاز هذا المشروع, قائلا له: «أنت تبدأ بالإعداد الموسيقي والكتابة الموسيقية وأنا أنصرف لإكمال تلحينها، وكذلك للاتصال بالسلطات للحصول على تمويل إنتاج هذا العمل الضخم». أصدر عبدالوهاب أوامره إلى سكرتيره الخاص للقيام بجمع الألحان التي كان وضعها سابقا للمسرحية، إلا أن القدر كان أسبق. رحل عبدالوهاب قبل الشروع بالمهمة، ورحل سكرتيره بعد وفاته بأيام!
والخبر حزين لأكثر من سبب، أول هذه الأسباب أن عبدالوهاب لو أنجز ما كان يفكر فيه وبدأ الاستعداد له، لكان عمله هذا ذروة ما قدمه للغناء العربي على مدى حياة حافلة بجلائل الأعمال. والخبر حزين لأن لقاء القمة الأخير الذي كان يفترض أن يجمعه مع شوقي، كان سيعيد إلى الذاكرة لقاءه الأول بشوقي الذي أطلقه ورعاه في شبابه، والذي كان بداية رحلته إلى عالم الشهرة والمجد. والخبر حزين لأنه استقر في ذهن عبدالوهاب في سنواته الأخيرة أن المستقبل هو للأغنية العربية المكتوبة بالفصحى لا لتلك المكتوبة بالعامية. وقد كان من شأن إنجاز هذا العمل تسليط الضوء على عمل شعري من أجلّ وأجمل ما كتبه شوقي من مسرح وغير مسرح، وبالتالي تقديم خدمة تاريخية لأغنية الفصحى ولقصيدة الفصحى في آن، إذ لا يخفى على أحد أن أغنية الفصحى تراجعت تراجعا مخيفا بعد رحيل عبدالوهاب، حتى لكأن غيابه، ومعه غياب عمالقة التلحين والغناء الذين سبقوه أو الذين لحقوه، كان رحيلا للفن الرفيع وللشعر الرفيع المغنّى، وفاتحة لصولة جديدة من غناء الضحالة بالعامية الذي يسود مرحلتنا الحالية.
وتبلغ الحسرة بطيّ صفحة هذا العمل الخالد الذي كان يفكر فيه عبدالوهاب أقصاها عند عشاق شوقي بالذات. فهؤلاء يرون أن شوقي قد أصابه غبن شديد على يد العقاد وجماعته الذين ألحقوه بشعراء مصر في القرن التاسع عشر، في حين أن مكانه في التاريخ إلى جوار المتنبي ورفقائه، و«مجنون ليلى» بالذات ذروة مسرحيات شوقي كما هي ذروة شعره الغنائي.
وقد كانت قبل كل شيء نتيجة نيران الوجدانية التي استعرت فيه في أواخر أيامه، مع أنها كانت مركوزة في طبيعته وظهرت حوالي أربعين سنة قبل هذه الفترة في باريس معكوسة في «خدعوها» و«غاب بولون»، كما أن وفاة أكثر أصدقائه - ومنهم حافظ إبراهيم - تركته وحيدا أو زادت في وحدته، فتفجرت ينابيع الغنائية في شعره. وقد كان لشيخوخته أثر أيضا، فكبر سنه جعله يتشوق لعهد شبابه حتى صار غزله نوعا من الرثاء لشبابه وماضي أيامه.
في تاريخ شوقي كما في تاريخ عبدالوهاب لا ينفصل الاسمان عن بعضهما البعض. وإذا كان شوقي قد أسهم إسهاما كبيرا في دفع الغناء والموسيقى العربية باكتشافه عبقرية عبدالوهاب، فإن عبدالوهاب أسهم بدوره في نقل شعر شوقي إلى وجدان الملايين من العرب. وحبذا لو أمكن تحريك هذا العمل الفني الضخم الذي التفت إليه عبدالوهاب في بداية حياته وفي نهايتها، عبر تشكيل لجنة برعاية وزارة الثقافة المصرية يكون بين أعضائها السيدة نهلة القدسي، زوجة الموسيقار الراحل، والمايسترو سليم سحاب، وبعض الملحنين الكبار، تكون مهمتها إعادة الحياة لهذا المشروع الضخم الذي يكون خير تحية لأمير الشعراء وأمير المغنين، ونوعا من عودة الروح للغناء العربي والشعر العربي، وما أشدّ حاجتهما إلى انتعاشة جديدة .