نخلة في الغربة

نخلة في الغربة

في الطريق الساحلي المنطلق من مدينة «بلنسية» على الشاطئ الإسباني الشرقي والمتجه جنوبا صوب «مرسية» وقرطاجنة ثم ينحرف غربا باتجاه المرية ومالقة والجــــزيرة الخضـــراء حتى يلامس شفة المضيق، في هذا الطريق كـانت سيارتنا تســير الهوينى تداعبها نسـمات غريبة عن جو أوربا المصنع المعقــد، نسمات تحمل عبـقاً مألوفــاً تحسه وأنت في الشــرق الأوسط... في حـــوض الفرات، في واحـــــات الجزيرة العربيـة... وفجأة يتحول العبـــق الشذي إلى لوحة تزحــم الأفق وتمتد وتمتد بعيدا في مسافة تصل البحر بالجبل، وتشكل غابات نخيل متعانقة أنيقة الخضرة. 
ومن بعيد تلـوح بعض المرتفعات بيــن الفينة والأخــرى تطل برؤوسـها الشـامخـة مـــن فـوق غابـات النخيـل,
مشهد ينقــــــلك بعنف وغرابة من الطراز الأوربي الذي فارقته قبل قليــل في برشلونة، إلى طراز تشعر معه بالدعة النفســـــــية والاسترخاء الروحاني... كأنك انفصلت جملة عـــن تعقيدات الحيـاة الصناعيـة.
 بلنسية العظيمـة... التي كانت عــــروس الشــرق الأندلسي... وكانت كنـز غلاله وموطـــن ثرواتـه وخصبـه... بلنسية التي أنجبت شـــــاعر الطبيعة العملاق ابن خفاجة، شاعر الأندلس الأول في هذا الميدان، بل شاعر الطبيعة عند العرب. 
اقترب مرتفع جبلي من الشاطئ، كـان الآخرون فـي السيـارة بيـن محـدق فـي زرقـة المتوســط وبـين مستسـلم للنعـاس وبيـن مصعـد نظراتـه فـي الجبـل.
وخلت أن هذا الجبل هو الذي عناه ابن خفاجة الأندلسي في قصيدته العظيمة: 
«وأرعن طماح الذؤابة باذخ  ......  يطاول أعنــاق السـماء بغـارب» 
وشـعرت لحظـــات بأنني مـكان ابـن خفـاجـة، أتأمــــل الجبـل يهمـس بـي»:


عـشت لحظـــــات كأنني أسبح خلالها في عالم من اللاشعور، وكأن صوت ابن خفاجة المختـــــزن
في شعاب الجبال لم تطوه يد الـزمن في ما طوت.
وكيف تقوى يد الزمن أن تطوي الأثر الأدبي الخالد الباقي بقاء الحياة.
انعطف الطريق يمينــا قليلا ليلتف نحو مرســية البعيدة قليلا عن شــاطئ المتوسط، وتوقف رتـــل النخيل عن عزف أنشــودته الخالـدة...
 نخلات ولدت من نخلة حملها قبل ألـف ومائتي سـنة الأمير الأموي المهاجـر، عبدالرحمن الداخل، حملها من رصـــافة جـده هـشام على شـاطئ الفرات وغرسها في قرطبة عـــلى شاطئ الوادي الكبير، ورحل عبدالرحمن ورحل أحفاده ورحل العرب، وخرج المسلمون وبقيت نخلة عبدالرحمن وحفيداتها النخلات، بقيت غريبة تتلفت فتسمع رطانة غــــريبة وتتنفس فتحس جوا غير جوها... غربة... صنعها بها أبنـــــاؤها... واستمروا يصنعون .