محكمة الغربان

محكمة الغربان

أحاطت به مجموعة من شرطة الغربان في حراسة مشددة، كان يسير منكس الرأس هادئ الحركة، ليشاهده كل الغربان في القبيلة المنتمي إليها، وتتحسر عليه قبل النطق بالحكم من حاكم تلك القبيلة من الغربان.
شاهدته أمه التي بكت وصرخت من أجله، وشاهده أخواه وشاهدته زوجته ولم يشاهده أولاده الذين يعيشون داخل البيت في العش الخاص بهم ومازالوا في مرحلة ما قبل الحياة.
كانت أفكار عديدة تعبر في وجهه فيتذكر كيف فعل تلك الجريمة بأن جار على بيت الغراب المجاور وأخذ منه قطعة ضمها إلى بيته، كان يعلم الحكم جيداً، لكنه كان يتمنى أن يخفف عنه القاضي الحكم لأنه مريض، فقد طعنه أحد النسور في جناحه الأيمن وصار الغراب ذا الطعنة النسرية! وصار معروفاً لكل الغربان ويضربون به المثل في أنه مسكين وتلقى الطعنة الغادرة من النسر، وربما أشفق عليه الجميع لأنه جار على عش جاره ليضع بيض أولاده الصغار لأن بيته صغير. إلا أنهم اليوم يطلقون عليه المذنب، ذلك المتوحش الذي جار على بيت جاره والذي لم يستطع الدفاع عن بيته لأنه طاعن في السن.
وقال القاضي: حكمت محكمة الغربان حضورياً بتكليف المذنب بناء بيت جديد خلال يومين للغراب العجوز، وإن لم يفعل فسنقاضيه بعقوبة أكبر.
وحزن عليه من يحبونه فهو فقير، كانت المحكمة تُعقد في أحد الحقول الزراعية، والتي يتم عقدها دوماً هناك كل يومين، ويأتون بالمذنبين ويعاقبونهم.
ليست هذه قصة خيالية، بل هي من واقع محكمة واقعية تسمى محكمة الغربان، وهي محكمة إلهية وضعها الله في عقول الغربان بالفطرة، فيجتمعون متى أرادوا في أحد الحقول الزراعية القريبة منهم، ويُحكِّمون القاضي كبير السن في ما بينهم، ويحكم القاضي على المذنب بأشد عقوبة، عقوبة لا يمارسها البشر على مذنبيهم!
فالبشر يجورون على بعضهم البعض، على منازلهم، على أراضيهم، على ممتلكاتهم، ولا يحكم عليهم بردِّ المظالم، بل يستطيع اللاعبون بثغرات القانون أن يجلبوا لهم الحكم بالبراءة، ويخرج المذنب وكأنه لم يكن مذنباً!
حتى في جرائم القتل وغيرها من الجرائم العظيمة، فلا يكون القصاص فيها عادلاً دائماً بقتل من قام بالقتل، بل بإعطائه بعض السنوات التي يقضيها بين قضبان السجن ويعود للحياة من جديد وكأنه لم يذنب ولم يقتل!!
إلا أن الغربان أفضل منا كثيراً فهي تحكم بالعدل في محكمة وضعها الإله في رؤوسهم، فتجتمع وعلى رأسها القاضي فيحكم بأحكام رادعة، كي يتعظ الباقون ويفكر الغراب ألفي مرة قبل أن يفعل جريمته، وفي أحكام الغربان موعظة للبشر، فتقوم بالحكم على الغراب الذي يأكل طعام الفراخ الصغيرة التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها أمام سارق طعامها بنتف ريشه حتى يصير مثل الفراخ الصغيرة بلا ريش، كي يجرب ما تعانيه الغربان بسببه، وإذا جار أحدها على بيت أو عش جاره، فيجب أن يقوم ببنائه من جديد، وإذا جار أحدها على زوجة غراب مثله تكون عقوبته القتل، أجل القتل بمناقير الغربان الحادة حتى الموت، لا نفعلها نحن البشر على من يجور على عذراء، أو على زوجة رجل آخر، إنما الغربان تفعل، وتقتل من يفعل هذه الجريمة الشنعاء ثم يسحبه أحدهم ويحفر له القبر ويغطيه بالتراب احتراماً لحرمة الميت، في دليل واقعي أمام البشر ومحكمة غاية في العدل تقول لنا كلمة واحدة، إن العدل لا يتحقق في محاكمكم أيها البشر، بل يجب أن تتعلموا منا عدل السماء لربما أصبحتم تحكمون بالعدل مثل الغربان .