موقد «الكانون»... الشاهد على أيام الزمن الجميل

موقد «الكانون»...  الشاهد على أيام الزمن الجميل

حيث لم يكن هناك لا غاز ولا كهرباء ولا مازوت، كان «الكانون» هو الوسيلة الوحيدة للتدفئة في معظم بيوت الزمن القديم. و«الكانون» بالعربية هو الموقد وهو المصطلى. وتعود التسمية إلى الكانونين، وهما شهران في الشتاء بين نوفمبر وفبراير يعرفان ببردهما القارس. وقد أطلق العرب على هذين الشهرين شهري قماح، والقماح داء يصيب الحيوانات فتمتنع عن الشرب والشرب يقلّ في الشتاء. ويقول الأديب اللبناني أنيس فريحة: «كانون مشتق من فعل كنّ ومعناه الثبوت والاستقرار»، وذلك لأن الناس فيه ينقطعون عن أعمالهم ويكنّون في منازلهم. وثمة جذر بالسريانية بمعنى الأساس والقاعدة اشتقت منه كلمة الأثفية بـ «العربية» وهي أحجار الموقد. أما تسميته بالمنقل فتعود لإمكان نقله من مكان إلى آخر.

كان «الكانون» يصنع من الفخار أو الصلصال، وله أشكال وأحجام مختلفة. وأرخص أنواعه من الحديد الذي يمكن أن يأتي على شكل دائري وله ثلاثة قوائم أو على شكل مستطيل أو مربع وله أربعة قوائم. أما الميسورون فكانوا يتخذون المناقل النحاسية وتكون إما بيضاء، وإما صفراء «منكلة» محفور عليها بعض الرسوم المزخرفة والأشكال المتنوعة، وكان لها غطاء بشكل قبة الجامع يعلوه الهلال الذي يمكن أن يستخدم بشكل مقبض. كما يمكن أن يكون لها صحن كبير بشكل قاعدة من أجل حماية السجادة أو البساط الذي وضع عليه «الكانون».

كيفية إشعاله
أول ما يملأ «الكانون» بنصفه أو أكثر بالرماد أو الصفوة، ومن ثم توضع عليه جمرات الفحم أو الحطب أو الدق. وأكثر ما يستخدم الفحم الذي كان يشعل خارج البيت وتتم تهويته لكي تتقد جمراته. وغالبا ما كان الأطفال يفرحون عندما كانوا يعمدون إلى نثر بعض السكر فوقه كي يسرع في اشتعاله مما يزيد لهب النار.
وعند إشعال النار كان يتسرب الدخان إلى البيت، وعندها كان الأهالي يرددون المقولة الشائعة «الدخان يعمينا ولا البرد يهرينا»، أي أنهم يفضلون أن يصابوا بالعمى من أن يعانوا من البرد. وبعد ذلك يتم إدخال المنقل إلى المنزل، وأحيانا كانت توضع بعض قشور البرتقال أو الليمون وتطغى على رائحة احتراق الفحم.
ومن الأقوال الشعبية الشائعة أنه «بكانون حضّر الفحم والكانون». وهناك العديد من الأوقات التي كان يصبح فيها الفحم في أيام الشتاء نادرًا جدًا، لذلك كان العديد من الأشخاص يعمدون إلى رد الرماد على جمرات الفحم رغبة في الاقتصاد في الفحم في أيام الشتاء. وقد ذكر الأديب الصحفي فيكتور كالوس في كتابه «رمال في الهواء» أنه في عام 1910 اجتاحت مدينة حلب عاصفة ثلجية دامت أربعين يومًا، وقد سميت بالثلجة الكبرى، حيث قبع الحلبيون في دورهم وفي بيوتهم وعطلوا أعمالهم. ولما كان الفحم آنذاك باهظ الثمن أصبح، كما قال كالوس، أندر من الحسان في ذلك الزمان، فراح الشعراء بحلب يتغزلون به شعرًا فيرتلونه في ندواتهم بالقرب من منقل النار.
وهناك طريقة أخرى لتجهيز وقود للمنقل، وهي عبارة عن تحضير جمر ملتهب بالنار. وتتلخص هذه الطريقة في أن تشوى قطع الخشب (الرامي) على ساس الطابون، وتتم العملية طوال الليل، وعند الصباح تستخرج هذه القطع وقد أصبحت كتلا ملتهبة من الجمر، وكان يصب بعضها في «الكانون» والبعض الآخر يصب عليه الماء ليتحول إلى فحم.
وبالإضافة إلى الفحم والحطب، كان هناك الدق أو الجفت الذي كان يستخدم كوقود للكانون. وكان يفضّل على الفحم، في كثير من الأحيان، لأنه لا يحدث ما يعرف بالتفحم الناتج عن استنشاق ثاني أكسيد الكربون. والدق أو الجفت هو ما تبقى من ثمار الزيتون بعد عصرها. فكان أصحاب الأفران يخرجون الجفت المحترق من بيت النار ويطفئونه برشه برذاذ الماء، فيتحول إلى ذرّات فحمية ويترك حتى يبرد ثم يباع كوقود للشتاء.

استعمالاته المتعددة
كان «كانون» الفحم أيام زمان محور الجلسات والسهرات العائلية، فكانت تتحلق حوله العائلة في أيام البرد القارس للسمر والسهر، وكانوا يمدون أيديهم فوق جمراته زيادة في طلب الدفء. وفي جانب منه كانت توضع ركوة القهوة أو إبريق الشاي وفي جانب آخر كانت تطمر فيه حبوب الكستناء للتلذذ بها أثناء السهرة.
يتذكر أحد القرويين فيقول في وصف «المنقل» كيف كان المنقل جامع الشمل، حيث كان يجلس مع عائلته حوله ليسمع حكايات عن الغولة والشاطر حسن، وكان جدّه يحرك بين الفينة والأخرى جمرات الفحم ليلتقط إحداها من أجل تغيير جمرة النار القابعة على رأس أركيلته. يذكر أنهم كانوا يجلسون على هذه الحال متحلقين حول «كانون» النار إلى أن ترتخي جفونهم ويستسلمون للنوم.
هذا كان دوره في المساء، أما في النهار فغالبا ما كان يستخدم الكانون لطهي الطعام. تقول الحاجة شمسة من دير الزور السورية إنه «كنا في الماضي نستعمل الكانون لطبخ الطعام، وخاصة في الصباح، ونمد حوله اللباد ليجلس عليه أفراد الأسرة بانتظار نضوج الطعام، ويتم تبادل الأحاديث وأخبار الجوار، وكانت تلك الجلسات أشبه بالجلسات الصباحية التي تتم بين الجيران في يومنا هذا، وأذكر الكثير من القصص التي كانت تروى حول الكانون التي كانت لمجرد التسلية وتمضية الوقت وعدم الشعور بالملل».
وتابعت لتقول: كنا نصنع في «الكانون» نوعين من الخبز هما «القرصة» و«المخمرية». ويتكون الأول من عصيدة الذرة البيضاء وكانت طريقة التحضير تتم أولا بإشعال الحطب في الكانون حتى يصبح جمرًا ويسحب لكي يظهر بطنه، ومن ثم يمسح بخرقة لإزالة الرماد، ثم يوضع بين قطع الحطب المشتعلة كتلة العصيدة المستديرة. ويتم الانتظار حتى تتماسك ثم تغطى بصاج وعندما تنضج ويصير لها حرف أشقر محروق يسمى «الجلف» تُقطع بالسكين قطعا وتُأكل «حافا» أو مع اللبن ويؤكل اللب مع السمن أو اللبن. أما النوع الثاني المسمى 
بـ «المخمريات»، فتقول الحاجة شمسة إنها كانت تصنع في البلاد منذ نصف قرن من عجين القمح المختمر بالطريقة نفسها التي تصنع بها القرصة، وتشير إلى أن تلك الأنواع من الخبز انقرضت لانتشار استعمال التنور والفرن بدلا من الكانون، وبقي لفظها على ألسنة كبار السن فقط.
وبينما كانت لـ «الكانون» هيبة ومكانة وضرورة في جميع البيوت الريفية وغيرها، تراجع استخدامه مع دخول أدوات التدفئة الحديثة، وتحوّل إلى مجرد قطعة ديكور تزين فيها المساحات السكنية. وستبقى جمراته المشتعلة تضج بتاريخ وقصص وروايات تحدثنا عن زمن جميل مضى .