من السطح إلى السماء الواسعة
منزلنا قريب من المطار، في أوقات كثيرة أصعد إلى السطح حيث لا يكون فوقي إلا السماء، أتابع الطائرات الهابطة والمغادرة، يعجبني كيف أنها بهذه الضخامة، ومع ذلك فهي قادرة على الطيران، وكأنها سفينة تبحر بين السحب.
قال لي جدّي ذات يوم إن كلّ الآلات المتطوّرة التي نراها اليوم في دنيانا، بدأها علماء قُدامى بِخطوات بسيطة. مَن كان ينظر إلى ما يفعلونه بتلك الأوقات البعيدة لم يكن ليظنّ أن ينتهي الأمر بأفكارهم الصغيرة تلك إلى اختراعات عالَمنا. قال لي أيضًا إنّ العرب والمسلمين كان لهم حظ عظيم في هذه العلوم عندما كانت ما تزال تنشأ. وفكّرت هل كان لنا دور في نشأة علوم الطيران؟ هكذا أخذت معي قلمي السحري إلى السطح، تمدّدت على الأرضية الباردة وكتبت، وأنا أراقب خيطًا أبيض صنعته محرّكات طائرة في السماء. وأغمضت عينيّ بِقوة، وهبّة هواء شديدة ترتطم بوجهي!
وجدت نفسي خفيفًا محمولًا بقوّة الريح، لي جناحان جميلان قد زُيّنا بألوان متداخلة، وكنت عملاقًا في حجمي مثل طائر الرخّ بحِكايات السندباد! طِرت باستمتاع في حلقات دائرية، ونظرت أسفلي فأبصرت هضبةً خضراء عليها رجُل نحيف له لحية بيضاء كثّة، قد تجاوز السبعين من عمره، يرتدي جناحَين من ريش غطّاهما بالحرير الثقيل، قد وقف يراقبني بينما يقترب خطوات من حافّة الهضبة. «ابن فرناس»، همست بِدهشة! رأيته وهو يقترب خطوة أخرى ويستعدّ للقفز، فحلّقت منخفضًا لأقترب منه، وسمعته يهمس بِصوت رقيق: «يستطيع الإنسان أن يطير»، ثم قفز...
لِلحظة بدا وكأن الزمن قد توقّف، صمت تامّ إلا من صوت الريح تتخلّل جناحَي ابن فرناس، كان يحلّق، فوق البساتين الخضراء وأشجار النخيل، يحمله الهواء بينما يفرد جناحَيه بِقوّة، اقتربت منه أكثر، ما أزال أذكر قصته، أعرف أنه استطاع الطيران لكنه بالنهاية حين أراد أن يهبط سقط وتكسّرت ضلوعه لأنه رغم امتلاكه الجناحين لم يكن له ذيل من ريش مثل باقي الطيور يمكّنه من الهبوط بِيُسر. لا أريده أن يسقط هذه المرّة.
كان قد بدأ يشعر بالمشكلة التي يواجهها، فتح عينَيه عن آخرهما محاولًا أن يجد طريقة للهبوط الآمن، رأيت شفاهه ترتعش من الاضطراب، حلّقت فوقه حتى لامست مخالبي ظهره، سقط جناحَيه من قوة الريح لكنّي أمسكت به بِقوّة وحملته طائرًا به في السماء الواسعة.
سمعته يصيح بِخشوع: :«سبحان الله!»، ونحن نخترق السحاب سويّاً، تتكاثف على وجوهنا قطرات الماء، وابتسمت لأنه رغم خوفه بدأ يلتفت بِرأسه إلى جسدي لِيتعلّم كيف أطير، كيف تضرب أجنحتي في الهواء، كيف يتحرّك ذيلي موجّهًا إيّاي، كيف خلقني الله في شكلي الانسيابي هذا حتى أطير بِيُسر. رأى العالِم المُسنّ الطيور وهي تحلّق إلى جواره، حيّيته قائلة:
«كيف حالك يا بن فرناس؟».
وضحك ابن فرناس من فرط سعادته، في عقله كانت عشرات الأفكار تدور عن أدوات يمكن أن تُستعمل يومًا ما لِيتمكّن الإنسان من الطيران. لكنّي حين أعدته إلى الأرض كان يبكي بتأثّر، اقترب مني واحتضنني طويلًا، شعرت بالفخر لأن في تاريخنا رجالًا بمثل شجاعته وعلمه. وأغمضت عينَيّ، وفتحتهما، كنت على سطح داري من جديد، تطير فوقي طائرة لم أرَ مثلها من قبل، وجسمها المعدني خالٍ من أي نقوش. ولِلحظة تمنّيت لو كانت هذه الطائرة من صنعنا نحن، ولو أن النقش المرسوم عليها يحمل وجه ابن فرناس.
رسوم: د. محمد عبدالله