الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية ليس تعصبًا شوفينيًا

  الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية ليس تعصبًا شوفينيًا
        

          أسرة تحرير مجلة «العربي» الغراء، من القيروان عاصمة الأغالبة وأرض عقبة بن نافع تحية احترام وتقدير. أما بعد.

          في العدد (622 - سبتمبر 2010) عرض السيد رئيس التحرير د. سليمان إبراهيم العسكري في ركن حديث الشهر الهواجس الجمة التي تؤرقه بشأن الثقافة العربية، وما بلغته من تأزّم وركود في «ظل العوائق الكثيرة التي تعوق المثقف العربي عن الإبداع والمساهمة في النهوض بالأمة العربية»، استوقفني خاصة إلحاحه على غياب الثقافة العلمية في المجتمعات العربية المعاصرة. وهو إلحاح ينمّ عن القلق الشديد الذي يعانيه سيادته وغيره من الغيارى على هذه الأمة ومستقبلها جرّاء هذا الغياب الذي هو، بحقّ، أكبر عائق أمام تطور الأمة وازدهارها، فضلا عن إسهامها في إغناء المنجزات العلمية العالمية وإثرائها، إنه لواقع يدعو إلى التساؤل عن دواعي هذا الغياب وأسبابه، خاصة أننا «أمة اقرأ»، أمة «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد». ويزداد السؤال إلحاحًا عندما نتذكّر أن الحضارة العربية الإسلامية قد شهدت في ما مضى نهضة علمية رائعة، وأن أبناءها ساهموا مساهمة فعالة بنّاءة في ازدهار الحضارة الإنسانية في جميع المجالات العلمية والمعرفية الصحيحة والإنسانية وأثّروا في الفكر الإنساني بنظرياتهم وتطبيقاتهم الرائدة.

          فلماذا نجح الأجداد وفشلنا نحن؟ وكيف تعاملوا مع المشكلات التي اعترضتهم والتي يتعلل بها اليوم علماؤنا ومثقفونا لتبرير واقعنا المتردي؟ وهل يمكن أن نستعين بتجربتهم وتجارب الأمم المعاصرة في تذليل الصعوبات التي يصطدم بها مجتمعنا اليوم؟ للإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن ننظر في واقع تدريس العلوم عندنا ولغته، وفي الحلول المبتكرة التي استنبطها الأجداد لتجاوز العوائق الجمّة التي اعترضتهم.

          إنه لمن نافلة القول أن نؤكد أن استمرار تدريس العلوم، في معاهدنا الثانوية وجامعاتنا وكليّاتنا باللغات الأجنبية، الإنجليزية في بعض الأقطار العربية والفرنسية في أقطار عربية أخرى أبقى هذه العلوم ونظرياتها سجينة داخل أسوار هذه المؤسسات ولم تتجاوزها إلى الشارع العربي بإنسانه ذي التحصيل العلمي المتوسط أو المحدود. فظلّت تبعًا لذلك نخبويّة محصورة في فئة قليلة جدا من الناس، تدرسها وتُدرِّسها دون أن تجد لها صدى في الممارسة والفعل اليوميين لدى الإنسان البسيط. وقد عمّق هذا الانفصال التام بين العلم والمجتمع ذلك الغياب شبه التام للمؤلفات والدوريات العلمية باللغة العربية. فاستثناء عناوين قليلة جدًا قد لا تبلغ عدد أصابع اليد الواحدة، لا يجد القارئ العربي النّهم ما يروي غلّته. وهو أمر ناجم عن غياب لجهود المنظمة لترجمة الكتب العلمية ونشرها والترويج لها.

          فقد اقتصرت عمليات الترجمة على محاولات فردية محددوة، مشكورة لكنها على الرغم من اجتهاد أصحابها ظلّت عاجزة عن تحقيق الغاية المرجوة منها.

          والغريب أن علماءنا والقائمين على شئون التعليم عندنا يبرّرون هذين الأمرين - تدريس العلوم باللغات الأجنبية وفقر المكتبة العلمية العربية في المؤلفات بالعربية - بعجز اللغة العربية عن التعبير عن المصطلحات العلمية الحديثة المعقّدة. وهو رأي مردود على أصحابه تفنّده الوقائع التاريخية وتجارب الأمم المعاصرة.

          قبل مجيء الإسلام وانتشاره، وقبل أن تنشأ حضارة عربيّة مزدهرة كانت اللغة العربية لهجات بدوية محليّة تستخدمها القبائل العربية في صحراء مترامية الأطراف. لم تألف العلوم ولا مصطلحاتها المعقدة ولا الفلسفة وأفكارهاالمجرّدة. لكن ذلك لم يحل بينها وبين تعريب العلوم الإغريقية الفلسفية والرياضية والطبية والهندسية عندما أراد أهلها ذلك، لم تعجز لأنهم لم يعجزوا ولم يتواكلوا، وكانوا متعطشين للعلم والمعرفة وللنهل من منابعهما فتحلّوا بالإرادة وابتكروا الحلول الخلاّقة المبدعة للتغلب على فقر العربية في المصطلحات العلمية والفلسفية، ولجأوا إلى الاشتقاق والاقتراض والتّعريب في الترجمة. فاشتقّوا من لغتهم ما كانوا قادرين على اشتقاقه، وعرّبوا المفردات والمصطلحات التي لم يقدروا على اشتقاقها. أمّا ما لم يقدروا على تعريبه أو اشتقاق مقابله فقد تركوه أعجميّا دخيلاً. وبفضل جهودهم الصادقة وحلولهم الخلاّقة أثريت العربية بالمصطلحات العلمية والفلسفية والرياضية والهندسيّة.. وانتشرت بين الخاصة والعامّة، بين الفقهاء والمتكلمين، بين الأدباء والشعراء، بين الحرفيين والجواري.. كما انتشرت العربيّة في جميع الأصقاع وأصبحت لغة عالمية.

          أما حديثًا فقد نجحت أمم معاصرة كثيرة في ترجمة العلوم الحديثة وتدريسها بلغاتها الوطنية، دون أن تتعلل بقصورها وعجزها أو عدم قدرتها على التعبير عن المصطلحات العلمية. بل إن بعض هذه الأمم أحيت لغات كانت ميّتة أو شبه ميّتة وجعلتها لغات علم ومعرفة. ويكفي الاعتبار من تجربة العدو العبريّ الصهيوني الذي جمّع شتاتًا من جميع أصقاع الدنيا وأحيا لغة ميتة أو شبه ميتة بها تدرّس - اليوم - العلوم في كليّاته وجامعاته.

          العجز الذي يزعمه بعض أهل اللغة العربيّة، إذن، ما هو إلا عجز في عقولهم وإرادتهم. والقصور الذي يدّعونه ما هو إلا قصور في تفكيرهم وأفق نظرهم. فكيف نتجاوز هذا الخلل في علاقة مجتمعنا بالعلم والمعرفة؟

تقريب العلوم

          إنّ تجاوز هذه الوضعية ليس أمرًا مستحيلاً ولا مستعصيًا متى تضافرت جهود جميع الأقطار العربية ووضعت إستراتيجية واضحة المعالم للرقي بالمجتمع العربي علميًا ومعرفيًا. ولعلّ أولى خطوات هذه الاستراتيجية العمل على تقريب العلوم من الإنسان العربيّ وتنمية الحسّ العلميّ عنده، لاسيما عند الناشئة بالإكثار من المتاحف مثل متاحف التاريخ الطبيعي ومتاحف العلوم ومدن العلوم. فمن شأن هذا الأمر - إن حصل - جعل العلم معرفة محسوسة مجسّدة في متناول اليد قبل أن تكون في متناول الذّهن، جعله لعبة مسلية محببة للنفس قبل أن يكون نظريات مرهقة للذهن. كما يجب تكوين هيئة مختصة من العلماء واللغويين المتفرغين للترجمة والتأليف، تخطط وتنفذ وتترجم الكتب والدوريات العلمية وقد يكون للمجامع اللغوية العربية الموجودة دور ريادي في دعم هذه الخطوة، خاصة أنها عريقة وتمتلك تجارب ثرية في هذا المجال. لكن هذا الدور الذي قد تضطلع به المجاميع اللغوية لن يكون فاعلاً إلا إذا وحّدت جهودها ورؤاها وترجماتها للمصطلحات العلمية، إذ لا يعقل ترجمة نفس المصطلح العلمي الأجنبي ترجمات شتى. ولنا في مؤسسة «بيت الحكمة» ببغداد الرّشيد خير مثال على أنه متى توحّدت الجهود ووضعت إستراتيجية متكاملة للترجمة والتأليف حصلت الفائدة وذللت الصعاب، وانتشرت العلوم بين جميع فئات المجتمع. إلى هذا يجب مراجعة الاختيارات التربوية والتعليمية في مدارسنا وجامعاتنا، وكذا مراجعة لغة تدريس العلوم فيها، نحو تدعيم مكانة العربية وجعلها لغة العلوم في الصفوف الابتدائية والمتوسطة في طور أول ثم تعميمها في المرحلة الجامعية في طور لاحق. لكن هذه الخطوات لن تحدث إلا إذا توافرت الإرادة السياسية الصلبة التي يعتنق أصحابها مبدأ أن العلوم ليست معادلات ونظريات تدرّس، وإنّما هي أسلوب عيش ونمط تفكير وعقيدة حياة، وأنّ الازدهار والتطوّر ليسا شعارًا يرفع، وإنما واقع يعاش، وأن الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية ليس تعصّبًا شوفينيًا أعمى، وإنما إثراء للحضارة الإنسانية وإخصاب لمعينها.

سامي الحاجي
القيروان - تونس