تعقيب على مقالة «للديمقراطية وجوه عديدة»

تعقيب على مقالة «للديمقراطية وجوه عديدة»
        

          في خضم المرحلة الدقيقة التي تمر بها المنطقة العربية من تسارع في الأحداث، وما أنتجته من مفارقات، دأبت مجلة العربي - كعادتها - في نشر موضوع غاية في الأهمية رائدها في ذلك الباحث والمفكر د. سليمان إبراهيم العسكري الذي يشرف على تقديم أرقى الموضوعات في أدق المراحل إلى القارئ العربي.

          وقد جاءت مقالة العالم الأنثروبولوجي القدير د.أحمد أبوزيد خير دليل على ذلك، تمحورت حول الديمقراطية ووجوهها المتعددة كمثال حيّ للواقع العربي المعاصر.

          بالرغم من أن مفهوم الديمقراطية كثير التداول في القاموس السياسي، فإنه قليل الوضوح والتحدد على الصعيد الواقعي، وهو الأمر الذي يجعل الاتفاق على تعريف جوانبه، والإجماع حول عناصره مشكلة حقيقية أقرّتها جميع مكوّنات المجتمع المدني على السواء. كما أن الحديث عن الديمقراطية في الوقت الراهن يعد ضربًا من ضروب المراجعة، خاصة في كيفية ممارسته على الساحة السياسية.

          وعندما يحاول المرء أن يقوم بعملية مسح واسعة للخريطة السياسية في بلدان العالم الثالث، فسوف يلاحظ أن جل الأنظمة السائدة تتبنى الديمقراطية شكلًا، وتهملها مضمونًا، ولا يتداول هذا الشعار إلا في المنابر السياسية، أو نجده في بعض الأحيان مرسومًا على الأوراق النقدية دلالة واضحة على أن النظام السائد يتسم بالديمقراطية في التعامل، وهي رؤية استبدادية المنهج، تعسّفية المنطلق.

          وتناست الأنظمة أن الديمقراطية هي عملية ثورية تتطلب تغييرًا على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية، كما هي مشروع مستقبلي يفترض لجيل الشباب أن يخوض هذه المعركة، ويرسم خارطة الطريق نحو مفهوم جديد يتماشى ومتطلبات العصر الحالي. وكانت استفاقة الشباب العربي عبر ممارسة التغيير عبر مواقع التواصل الاجتماعي Facebook وYoutube  كشكل من أشكال الديمقراطية الرقمية، هذه المساحة من الحرية الفكرية وصفها بعض المفكرين بأنها وسيلة عصرية للديمقراطية المعرفية، كما أنها أداة للتعبير عن الرأي في حرية مطلقة، ودون أي قيود. فما هي السبل التي يمكن أن تتم فيها التحوّلات السياسية العربية نحو الديمقراطية في ظل عالم تسوده العولمة من جهة وسيطرة قوة المال من جهة أخرى؟

          غير أن تطبيق الديمقراطية بمفهومها التقليدي خيّب آمال الكثير من الشعوب، وأدركوا أنها ليست الفطرة المطلقة الخالية من السلبيات. ربما سلبياتها أقل من سلبيات النظام الفردي المطلق، إلا أنه لا يمكن إغفالها أو إنكارها، وإلا انقلبت ضدها وأدت إلى فشلها كنظام سياسي واجتماعي إلى أن تصبح الرؤية المستقبلية غير واضحة المعالم.

          وفي السياق نفسه تعتبر الديمقراطية الرقمية شكلاً من أشكال التعامل الحضاري لدى الشعوب المتقدمة ونقلة نوعية في المسار السياسي، وهذا الشكل الجديد يتوقف على مدى صدق الحكومات وصدق تجاوبها مع متطلبات وتطلعات الشعب بتوفير المعطيات الصحيحة والشفافية في طرح المواضيع وإزالة السريّة على جميع الممارسات الخاطئة، وما ترتب عنه من كشف للأخطاء ومواجهة الفساد والحدّ من الانحراف الإداري في المؤسسات وإجراء حوار مع السلطة عبر الأجهزة الرسمية لتفادي الفجوة بين الطرفين، وحين تحصل الثقة نكون قد خطونا خطوة كبيرة نحو الديمقراطية في ثوبها الجديد.

          لكن هناك شكوكا كبيرة تدور حول إذا ما كان مجرد توفير هذه التكنولوجيات لمجتمع العالم الثالث يمكن أن يدفعها إلى التحوّل نحو الديمقراطية الرقمية، وهي التي لم تكد تعرف معنى ومدلولات وأبعاد الحكم الديمقراطي تحت النظم السائدة فيها، وهذا ما خلص إليه د. أحمد أبو زيد في موضوع سابق تداولته مجلة «العربي» «ديسمبر - 2003م» حول «الإنترنت المساحة الأخيرة للديمقراطية الرقمية».

          وإذا كانت الديمقراطية تمنح الأفراد حق التعبير عن الرأي وممارسة السياسة بأسلوب راق, يجب ألا يفوتنا أن حب الوطن واحترام قوانينه يحمينا من الانزلاق نحو صراعات تفوت المصلحة الخاصة قبل العامة وحب النفس قبل الوطن هو مؤشر قوي لدخولنا إلى الديمقراطية من بابها الحقيقي.

شهاب جوادي
قفصة - تونس