الشتات العربي الجديد

الشتات العربي الجديد

«الديسابورا» تعبير لاتيني يعني جماعات الشتات، وظل هذا المصطلح طوال التاريخ مرتبطًا باليهود، لكنّهم الآن، بعد أن استوطنوا في أرض فلسطين، عقب أن طردوا أهلها الحقيقيين، تركوا لنا «الديسابورا» ليبدأ عصر الشتات العربي الذي تمدّد في بقاع الأرض ولا نعرف متى سينتهي. 
نوجين مصطفى لاجئة سورية، ذاقت مرارة الشتات المفجع، كانت في الخامسة عشرة من عمرها حين أدركت أنه لا مفرّ من الهجرة، ففي كل يوم كان وطنها يحترق بسبب براميل البارود التي تلقى عليه من السماء، والغارات الجوية التي تشنّ على البيوت المكتظة بالسكان، والميليشيات المسلحة التابعة لتنظيم الدولة التي تقتحم المدينة وتنكّل بأهلها.

 

كانت الحرب تهدم كل يوم مدنًا بناها السوريون على مدى مئات السنين، تحوّل التاريخ فجأة إلى ركام، وأصبح الشعب العربي السوري الذي كان يمتلك أكبر نسبة من المتعلمين، شعبًا يعاني ظروف الهجرة القسرية في الداخل والخارج.
مأساة نوجين كانت مزدوجة، فهذه الفتاة الكردية الأصل التي تعيش في مدينة حلب، وُلدت وهي مصابة بنوع من الشلل الدماغي أعجزها عن المشي، قضت سنوات طفولتها وهي أسيرة كرسي متحرك، لا تستطيع النزول إلى الشارع أو الذهاب للمدرسة، لأنّ أسرتها تسكن في الدور الخامس في مبنى لا يوجد به مصعد، ولا يُوجد مَن يحملها.
 لم يكن أمام نوجين غير البقاء أمام جهاز التلفزيون طوال أيامها، وبواسطته تعرّفت إلى العالم، لكنّ إرادتها القوية جعلتها تحوّل الشاشة الصغيرة إلى جهاز للتعلّم، تعلمت منه التحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة، وتعلّمت الكثير عن دول العالم وحلمت بالذهاب إليها، لكن الحرب كانت تقترب، ودويّ الانفجارات يحاصرها من كل ناحية، لم تكن تريد أن تكون إعاقتها سببًا في عجز أسرتها عن الرحيل.

نجاة الكرسي المتحرك
كان «تنظيم الدولة» قد دمّر ثلثي المدينة تقريبًا، لم يدع لهم مكانًا صالحًا للعيش، لذا كان لا بدّ أن توافق على المخاطرة والرحيل مع أسرتها عبر البحر إلى تركيا، ومنها إلى أوربا، كان موج البحر يلطم القارب المطاطي الذي يضم عائلتها مع بقية المهاجرين، ولم تكن خائفة من الغرق بقدر خوفها من ضياع مقعدها المتحرك، أو أن يقوم أحدهم في لحظة من اليأس بإلقاء الكرسي في البحر، لكنّ المعجزة حدثت، وتعاون الجميع للحفاظ الكرسي، وحافظوا على أنفسهم أيضًا حتى وصلوا إلى جزيرة صخرية، ومنها نقلهم المهرّبون إلى تركيا مقابل مبالغ باهظة من المال، وهنا تجلّت روح الإيثار فيمن كانوا حول نوجين وشقيقتها، ورغم أنها لم تكن وشقيقتها تملكان مالًا كافيًا، فإنهما لم تشعرا بالعوز أو العجز، هناك دائمًا مَن كان يمدّ لهما يد المساعدة، ويقتسم معهما اللقمة، هذا التعاضد الإنساني هو الذي أوصلهما ومقعدهما إلى تركيا، فقد الناس أرضهم لكنّهم لم يفقدوا إنسانيتهم، وهناك استطاعت بلغتها الإنجليزية الطليقة أن تساعد الجميع في التفاهم مع السلطات، وفجأة اكتسبت الفتاة المقعَدة شهرة واسعة، وأصبحت ذات صيت وأهمية.

رحلة شاقة ونهاية سعيدة
توقفت عائلة نوجين في تركيا وقررت البقاء فيها بعد أن نفد ما لديها من مال، لكنّ نوجين لم تُرد ذلك، كانت تريد مواصلة الطريق إلى ألمانيا التي شاهدتها كثيرًا في التلفزيون، وعلمت أنها تقبل المهاجرين، كانت تبعد عنها 5600 كيلومتر، مسافة مستحيلة بالنسبة إلى فتاة مقعدة، لكنّها أصرّت على مواصلة الرحيل، لم يجرؤ على مرافقتها، إلّا أختها الأكبر منها قليلًا، كان عليهما أن تعبُرا حدود 8 دول بعضها كان مغلقًا، وأن تتحمّلا مشقة الطريق وتحقيقات الشرطة ومخاطر عصابات الطريق، وأن تستخدما كل ما يمكنهما من سيارات وقطارات وأي وسيلة تسير بها نحو الشمال، بقليل من المال وعلى حافّة الإملاق، بجروح وألم ومعاناة استطاعتا الوصول إلى ألمانيا أخيرًا، وأن تتلقفها منظمات الهجرة وتعطيها سكنًا ومكانًا لنوجين في مدرسة للاحتياجات الخاصة.
للمرّة الأولى استطاعت نوجين أن تتحرك في الشارع، وأن تشارك في فصول التعليم، كانت المهاجرة القعيدة قد لفتت أنظار العالم إلى رحلتها الأسطورية وإلى مأساتها ومأساة كل المهاجرين، وأن تخبر الجميع أنهم ليسوا مجرد أرقام، لكنّهم بشر في محنة حقيقية.
وبمساعدة صحفية إنجليزية هي كريستينا لامب، استطاعت نوجين أن تسرد تفاصيل رحلتها الشاقة، وقد ترجم الكتاب إلى 13 لغة حيّة ليكون ملهمًا للجميع واختارتها منظمة هيومن رايتس ووتش واحدة من أكثر السيدات تأثيرًا في بنات جيلها.

بوابات اليأس
ليست كل رحلات الهجرة تصادف هذا النجاح، ولا يوجد أي مؤشر على أن تدفق المهاجرين وتدافع اللاجئين سوف يتوقف،
فـ «الديسابورا» العربية في ازدياد، وبعض دول العالم العربي تدفع بمواطنيها نحو الشتات، والأسباب القهرية لا تنتهي، بحيث أصبحنا كعرب لا نسير عكس اتجاه العالم فقط، ولكن نسير عكس حركة التاريخ نفسها، فبينما تتجمّع الدول لتصبح كيانات أكثر قوة، نسير نحن في طريق التفكك والتباعد، مما عدّد الأزمات الاقتصادية وفتح بوابات اليأس أمام الشباب للهروب من واقعهم إلى حياة أفضل دون حساب للمخاطر التي قد تودي بحياتهم.
 لقد لفت «الديسابورا» أرض العرب لتخرج منهم موجات متلاحقة من المهاجرين الهاربين من حروب وأزمات طاحنة جعلت البقاء في الوطن مغامرة كبيرة، والأمثلة كثيرة أبرزها الحرب الأهلية في لبنان، التي تعدّ بمنزلة صفحة جديدة في الاغتراب اللبناني الذي بدأ في أواخر الحكم العثماني للمنطقة العربية، لينتج في كل الصفحات هجرات في جميع الاتجاهات وصلت إلى خروج اللبنانيين إلى دول أمريكا الجنوبية وقارة أستراليا.
وتسبّبت مغامرات طاغية بغداد إلى احتلال العراق عام 2003م وسقوطه في متواليات من الفشل والإرهاب ساهمت في خلق الشتات العراقي حتى وصل إلى شواطئ أستراليا، لقد تعمّقت «الديسابورا» العربية، وبلغت ذروتها مع الحرب في سورية، لقد كان تعداد الشعب السوري يقارب 22 مليونًا، هاجر نصفهم على الأقل وألقى 11 مليونًا بأنفسهم في البحر، المهرب الذي اعتقدوا أنه وسيلتهم الوحيدة للوصول إلى شواطئ أوربا، منذ عام 2015 انتعش سوق المهرّبين وامتلأ البحر الأبيض بكل أنواع القوارب المحملة باليائسين، وامتلأ القاع بآلاف الغرقى من مختلف الجنسيات العربية وغير العربية.

رحلة الأهوال
أوربا ليست أرض اللبن والعسل، كما يعتقد الذين يركبون أهوال البحر، فقد سجلت كاميرات التصوير بيترا لازلو، نجمة تلفزيون المجر، وهي صحفية وكاتبة وتتمتع بشهرة لا بأس بها في بلدها، وهي تقوم بالاعتداء على بعض المهاجرين السوريين، والأسوأ أنها تعتدي على أطفالهم أيضًا، وقد سبب انتشار الصور فضيحة كبرى لتلك الصحفية، وتعرّضت لازلو للمساءلة وأُرغمت على الاستقالة من عملها، رغم أن ما قامت به لا يُعد أمرًا غير عادي، بل وربما كان أخفّ الإهانات.
 فمنذ أن خرج اللاجئون من أوطانهم وهم فريسة لكل متنمّر، يستغلهم المهرّبون وتجار البشر، لكن المشكلة التي واجهت الجميع هي أن العديد من دول أوربا قد أغلقت أبوابها، وبعثت الحياة في حدودها التي ذابت في اتفاقية «شنغن» التي جعلت من دول الاتحاد الأوربي أرضًا واحدة!
بعض تلك الدول أقامت أسوارًا معدنية مكهربة تمنعهم حتى من لمسها، وأخرى كانت تطاردهم بواسطة الكلاب الجائعة، كل هذا دفع العديد من المهاجرين إلى الطرق الجانبية والأنفاق المهجورة والتعرّض لمخاطر العصابات المنظمة. 
إنها رحلة الأهوال كما يُطلقون عليها، وقد ظهر الوجه العنصري للعديد من الدول الأوربية، ولم تفلح النداءات الإنسانية في خلق استجابة لمشاكلهم، ولم تتقبّلهم إلّا في دول قليلة، مثل ألمانيا التي رأت في المهاجرين، وخصوصًا الشباب منهم، دماءً جديدة تبعث فيهم بالحيوية، وقوةً تضاف إلى قوة العمل وعقولًا جديدة قادرة على الابتكار.
في الختام، لا يبدو أن «الديسابورا» العربية ستتوقف قريبًا، لكن علينا أن نعمل جميعًا من أجل إيقافها، يجب أن تتوقف كل الحروب والمنازعات العبثية، ويجب أن تسود أرضنا روح جديدة تتجاوز كل ما هو ضارّ ومتراكم لتخلق حياة جديدة جاذبة للإبداع والمبدعين، تستوعب الجميع، وترى العالم بمنظور أوسع ■