ما بين الحرام والعيب

ما بين الحرام والعيب

إذا كانت البطلة في رواية (الحرام) قد ارتكبت جريمة أخلاقية لا يمكن اغتفارها، لأنها محرمة في الأرض والسماء، فإن البطلة في رواية (العيب) توصم بهذه الصفة؛ لأنها تقترف النواهي وتتعدى على أعراف المجتمع التي ينبغي أن تتصف بها المرأة. هكذا تربت «سناء» البطلة في رواية (العيب) في ظل أسرة تحترم قيم الشرف والنزاهة، وتخرجت في الجامعة حاملة لواء الشرف والعفة، ثم قادتها الأقدار للعمل مع بعض زميلاتها في إحدى المصالح الحكومية، وهناك في المصلحة (إدارة التراخيص) التي التحقت بها تجد عالمًا آخر على النقيض من عالم القيم التي تربت عليها وزرعها فيها والدها الذي كان لا يزال يتبع نظامًا صارمًا من القيم الأصيلة التي لم يعد لها وجود في عالم سناء التي تفاجأت أن عالم «المصلحة» التي التحقت بها يمثل عالمًا آخر غير عالم القيم التي تربت عليها، فهو عالم كل شيء يباع فيه بالمال.

 

كان على سناء أن تسأل نفسها: هل تسقط في هذا العالم أم تقاوم؟ وبالفعل فإنها تقاوم حتى آخر ما في وسعها، ولكن للأسف فإن هذا العالم كان أقوى من قدرتها على المقاومة، فلا تستطيع سوى الاستسلام لقيم هذا العالم الفاسد، فتقبل الرشوة التي يتقبلها زملاؤها والتي أصبحت عرفًا عاديًّا من أعراف هذه المؤسسة الوظيفية التي تعمل فيها والتي تدخل سناء عالمها وتظل تقاوم شروط هذا العالم الفاسد إلى أن يصيبها الإعياء. ولأن شروط عالم المؤسسة الفاسدة كان أقوى بكثير من قدرتها على المقاومة - كما سبق أن ذكرتُ - تقبل الرشوة من أحد الأثرياء الذي يضفي عليه ثراؤه الفاحش صفات شيطانية قادرة على إغواء كل من يقع في طريقه أو يسقط بين براثنه. ولم يكن «عبادة بك» الذي قبلت منه الرشوة سوى الشيطان الأكبر الذي تعلو قدراته قدرة الشياطين الصغار من أمثال «محمد الجندي» الموظف اللزج كما تصفه سناء الذي نرى صراعه معها على امتداد الرواية، والذي يحاول فيه ترقب اللحظة المناسبة للإغواء والإيقاع بها، وتوريطها في الرشوة حتى تقع بالفعل في شراكه. 
هكذا نرى «سناء» بطلة (العيب) صورة مدينية موازية لصورة «عزيزة» بطلة (الحرام) الريفية، ولكن بينما تقع بطلة (الحرام) في الحرام وهو الفعل الذي يعني الاعتداء على قيمة من القيم الدينية في الريف، فإن بطلة (العيب) تقع في العيب الذي هو قيمة من قيم المدينة التي توازي قيمة الحرام في الريف ولكنه يكتسب صفات مدينية تجعل مرتكبه ليس أقل إثمًا ولكن موازيًا بأكثر من معنى لصورة الحرام الذي يقع في القرية؛ فـ «الحرام» في القرية هو نظير «العيب» في المدينة، وذلك لإضفاء الطابع المديني على كل قيم المدينة سلبًا وإيجابًا. هكذا تتشابه الروايتان في البداية والنهاية، فالبداية مصادفة تلقي بالبطل إلى ساحة الغواية، وتنتهي به إلى فعل الحرام - في رواية الحرام - أو فعل العيب - في رواية العيب - وكلا الفعلين سقوط أخلاقي تقع فيه البطلتان (عزيزة وسناء) في كلتا الروايتين نتيجة ضعف قدرتهما على المقاومة إلى آخر مدى من ناحية، وإلى سطوة المجتمع الذي يفرض عليهما الاستسلام، ويجعل منهما أشباهًا له في الفساد من ناحية موازية.
وكما كان استسلام البطلة في (الحرام) لفعل الحرام نفسه في المشهد الذي أشرتُ إليه وأكدت عليه، فإن استسلام سناء لمغريات العيب وقبولها لفعله كان ينطوي على المبادرات الذاتية والموضوعية التي كانت موجودة في عالم «عزيزة» بطلة (الحرام). صحيح أن شخصية «محمد الجندي» في (العيب) تختلف تمامًا عن شخصية «محمد بن قمرين» نظيره في (الحرام)، لكن النتيجة التي ارتكبها كلاهما واحدة في المعنى والدلالة؛ فالأول أفقد البطلة معنى الشرف والاحترام، أما الثاني فلم يفقد البطلة هذين المعنيين فحسب، وإنما ألقى فيها بذرة طفلٍ غير شرعي هو نبت لفعل من الأفعال المحرمة دينيًّا في مجتمع القرية الذي يتمسك بالقيم الدينية تمسكًا شديدًا. ومن هنا حاولت البطلة «عزيزة» أن تتخلص منه فتقتله دون وعي خشية أن يفضحها صراخه ولتعِش بذنبه ما تبقى لها من العمر القصير، حيث أصيبت بالمرض الشديد (حُمَّى النفاس) الذي أودى بها إلى الموت. ولذلك فإن الحديث عن التوازي بين الحرام والعيب هو واحد من حيث الإشارة إلى فساد مجتمعنا الشرقي الذي يؤدي إلى اغتيال أبنائه مُبرِّرًا هذا الاغتيال بصفات أخلاقية يسميها «العيب» في المدينة، و«الحرام» في القرية، لكن إذا تأملنا كلتا الصفتين وجدنا أنهما وجهان مختلفان لجوهرٍ واحدٍ، هو الكيفية التي تغتال فيها التقاليد الفاسدة للمجتمع الفرد، وتقضي عليه، مدنيًّا بالغواية، وريفيًّا بالموت.
ولذلك فأنا أرى أن رواية (الحرام) هي الدافع لرواية (العيب). ولكن يبدو أن (الحرام) هي الأصل ومن ثم المولد للرواية الثانية (العيب)، وهذا يؤكد أن عالمي الريف والمدينة يتبادلان المكان في العالم الإبداعي ليوسف إدريس؛ لأنه كان يرى دائمًا في أحدهما الوجه الثاني من الآخر، رغم مظاهر الاختلاف الخادعة من حيث الظاهر. فما أكثر ما يبدو في الريف هو الأصل في رواية يوسف إدريس حتى وإن كانت المدينة لا تفارق دائرة الاهتمام الأولى في أغلب الأحيان.

البطل النقيض
أما «سناء» بطلة رواية (العيب) فإنها تلفت الانتباه إلى اسمها أولاً وإن كان الاسم لا يخلو من سخرية تقع في المفارقة بين الدال والمدلول. وفي مقابلها يقع «محمد الجندي»، ذلك النمط النموذجي للموظف الانتهازي الذي يستغل موضعه ووظيفته لتحقيق الربح. ويبدو أن «محمد الجندي» قد فرح بعد أن علم أن المصلحة قد عينت بعض خريجات الجامعة، فقرر نصب شباكه حولهن، لكن التي كانت تغريه أكثر من غيرها من بينهن «سناء»، ومن هنا تبدو سناء في الرواية على أنها البطل النقيض، أو ممثل الخير الذي هو نقيض الشر والانتهازية التي يمثلها زميلها «محمد الجندي» الذي نلاحظ أنه منذ اللحظة الأولى لا يتوقف عن إيقاع «سناء» في شباكه، تارة بكلمات الغزل الفج والسوقي التي اعتادها أمثاله، وأخرى بالأفعال التي لا يمكن أن تطيقها فتاة بريئة مثلها، ثم تأتي المشكلة الأعظم عندما يعرض عليها زملاء القسم الذي تعمل به وعلى رأسهم «محمد الجندي» الذي لم ييأس من محاولاته معها وقرر أن يجر رجلها، قبول الرشوة التي اعتادوا قبولها وتقسيمها فيما بينهم.
وتصاب الفتاة البريئة بما يشبه الجنون، وهو ما اعتبرته ما لا يحتمل، إذ لم تكن تتصور قط أن أحدًا سيعرض عليها ذلك، وينتابها ما يشبه الجنون وتذهب لشكايته، ولكن الشكوى لا تؤدي إلى نتيجة؛ لأن «محمد الجندي» كانت تحميه علاقاته المتشابكة بين الرؤساء الذين يؤدي لهم الخدمات المتعددة، وكانت تحول دونه وبين أية محاسبة. وهكذا يخرج مُنتصرًا في معركته مع «سناء» التي تندب حظها الذي أتى بها إلى هذا المكان، ولكن هذه الفتاة البريئة - من ناحية أخرى - لا تنسى الأزمات الاقتصادية التي تقع فيها أسرتها دومًا. وتظهر هذه الأزمات في أن أخاها الصغير مهدد دائمًا بعدم أداء الامتحان وبالطرد من المدرسة التي يدرس فيها؛ لأنه لا يدفع المصروفات في وقتها، ويصل الأمر بالمدرسة إلى طرده بالفعل، ولا تستطيع أخته الشريفة والموظفة النزيهة أن تفعل له شيئًا، وذلك رغم مرورها على كل زميلاتها وزملائها، ومحاولة إيجاد من يمد لها يد العون.
 هكذا يبدأ العالم الصلب لسناء في التهاوي، إذ تمثل حادثة طرد أخيها من المدرسة ألمًا شديدًا لها، أعني ألمًا ينطوي على نوع من الرمزية الكاشفة التي تُضَّيق المجال وأكثر على الأخت التي تشعر بالضعف، وبأنها في حاجة إلى دفع مصاريف أخيها حتى لو استسلمت وقبلت الرشوة. وهنا يظهر الأثر الأول لسقوط البطل التراچيدي - أعني «سناء» - التي سرعان ما تقع في الفخ وتصبح أكثر مرونة واستعدادًا للسقوط في فخاخ أعداء من يمثلون «العيب» في الرواية. وتشتد عبارات «محمد الجندي» في غزله الذي - كأنه دون أن يدري - يظهر شماتته فيها. وتبدو «سناء» هشة بالغة الضعف، خصوصًا بعد أن تعلمت درسًا قاسيًا (وكان ذلك قبل أن يقوم عبدالناصر بتقرير مجانية التعليم في كل المدارس والمراحل). وهكذا في النهاية يتغلب ضعف «سناء» على قوتها، وتنجح محاولات «محمد الجندي» الطويلة المضنية وأساليبه الثعبانية الملتوية التي تزين الانحراف لها، وتضفي الجمال على السقوط الأخلاقي، وتبرره وتفلسفه وتطلق عليه مسميات حانية ومترفة. وهذا ليس ببعيد عنه: «وهو الذي قضى أكثر من ثلاثين عامًا يعيث في الدنيا فسادًا ويؤذي نفسه ولا يستريح حتى يؤذي الآخرين». وبعد صراع ضخم يعتمل في نفس «سناء» تسقط في براثن الجندي، براثن العيب، ومن ثم توافق على قبول الرشوة كما يفعل زملاؤه وزملاؤها، ويتكشف السقوط عن خلفية اجتماعية فاسدة تتمثل في واقع اجتماعي مريض، تختنق فيه الطبقة الوسطى الصغيرة. 

الشيطان الأكبر
وسرعان ما نكتشف أن «محمد الجندي» ما هو إلا شيطان صغير، وأن الشيطان الأكبر هو «عبادة بك» الذي يزور المصلحة بين الحين والآخر ويعمل الجميع حسابًا له؛ لثرائه أولاً، ولسخائه ثانيًا، ولقدراته على أن يغدق في العطاء ثالثًا، ودليل ذلك أنه عندما تفشل جميع محاولات الجندي في إسقاط سناء يلوذ به كما يلوذ الشيطان الأصغر بالشيطان الأكبر، فيتوجه «عبادة بك» إلى «سناء» مقدمًا لها ما تعجز عن رفضه في أزمتها المالية، وهو رزمة منتفخة من الأوراق المالية التي تخايل عينيها، والتي توقف ملكة الحكم في عقلها وتشله، فتتقبل الرزمة غير قادرة على النطق، وتأتي النهاية بالغة الدلالة على وصول العيب إلى ذروته، فبعد أن تتقبل «سناء» هدية عبادة بك يأتيها محمد الجندي «الشيطان الأصغر» ليقبض ما دفع ثمنه «الشيطان الأكبر». وها هي بالفعل تتقبل عرضه، بل تضيف إليه ما يدهش القارئ وما هو في الحق إلا سخرية من الموقف كله، ودلالة على قدرة البرجوازية الصغيرة على السقوط بل المبالغة في السقوط إذا ما توفرت لها الظروف، وهكذا نقرأ الحوار التالي بين «سناء» و«محمد الجندي»:
- «ولا يهمك... بس قول في أي كازينو عايز...
- إيه رأيك في... والله بيتهيألي أحسن من التاني ده...
- يا أخي فلقتني... كازينو الحمام... ح تلاقيني بكره الساعة ستة هناك.
نطقت الجملة وسكتت هنيهة، في أثنائها اقشعر جسدها لدى صورته حين مرت بخيالها وهو يهدر هدير الكلب ووجدت نفسها تقول:
- واللا إيه رأيك؟ ما بلاش الكازينوهات لحسن حد يشوفنا». 
والفقرة الحوارية ناضحة بالسخرية من الكاتب الذي يكتب للأبطال الذين يكتب عنهم، فالكاتب كما كان يرى الفقر الشديد سببًا في السقوط في الحرام، يرى كذلك أن الفقر نفسه سبب للعيب الذي يحدث بين أبناء الطبقة البرجوازية الصغيرة. وهو يرى في حالة «سناء» نموذجًا من نماذج هذا السقوط، كما يرى فيها رواية تُقص لا على سبيل الإمتاع، وإنما على سبيل السخرية من الطبقة نفسها ومن المجتمع الذي وضع هذه الطبقة في موضعها الحرج الذي يدفعها إلى السقوط الدائم. وما «الجندي» و«سناء» إلا نموذجان من نماذج لعبة السقوط أو العيب التي تنتهي إليها كل قصص العلاقات العاطفية بين أبناء الطبقة البرجوازية الصغيرة إناثًا وذكورًا. فالعيب هنا ليس من صنع «سناء» و«الجندي»، وإنما من صنع الشريحة الاجتماعية التي ينتميان إليها في وضعهما الطبقي، ولذلك بعد أن نقرأ القصة، نعرف «الحتمية» التي كانت مفروضة عليهما منذ البداية، و«القدرية» التي كانت تدفع كليهما إلى أن يسهم في ارتكاب «العيب» وفي حدوثه على السواء ■