صنعة القصيدة السياسية

صنعة القصيدة السياسية

ظهر الشعر العربي الحديث متزامنًا مع أبرز حدث سياسي عرفه التاريخ العربي المعاصر، وهو نكبة فلسطين، ثم بعدها بأربع سنوات انتفاضة الضباط الأحرار ضد الحكم الملكي في مصر، لتتحول إلى جمهورية، وما تلا هذا التحول السياسي من إلهام لدى الشعوب العربية، ووقوع ثورات وانقلابات على أنظمة ملكية أو جمهورية في ليبيا والعراق وسورية والجزائر واليمن. وقد شكّلت قضية فلسطين وزعامة عبدالناصر إلهامًا سياسيًا وشعريًا منقطع النظير، بغضّ النظر عن الجدل حول نظامه السياسي؛ أكان ثوريًا شعبيًا أم دكتاتوريًا، وهل نعتبر حركة الضباط الأحرار ثورة أم انقلابًا، فالمسألة لا تتعلق بهذا البحث. الأهم هو مدى إلهام قضية فلسطين ونظام حكم عبدالناصر للشعراء ومتلقي الشعر من نقّاد ومثقفين، وبالخصوص طلبة الجامعات والعمال.

 

  أفرزت هذه الأحداث، من الخمسينيات حتى الثمانينيات، شعرًا سياسيًا بارزًا هجا الحاكم العربي المستبد والشعوب العربية المتخلّفة، وظل مستمرًا إلى يومنا هذا، لكن مع خفوت صوته لفائدة تجارب وأصوات مختلفة.
وسأحاول بحث كيفية صنعة هذه القصيدة عند شاعرين هما نزار قباني في قصيدته «بلقيس»، ومظفّر النواب في قصيدته «القدس عروس عروبتكم»، مع إشارات تتعلق بقصيدةٍ ظاهرةٍ في هذا الشعر وفي شعرنا الحديث، هي «مديح الظل العالي» لمحمود درويش.
من مطولة «بلقيس» لنزار قباني، اخترت هذا الجزء الوارد في بدايتها تمثيلًا: 

شكرًا لكم...
شكرًا لكم...
فحبيبتي قُتلت... وصار بوسعكم 
أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة 
وقصيدتي اغتيلت...
وهل من أمـةٍ في الأرض...
- إلا نحن - تغتال القصيدة؟ 
بلقيس...
كانت أجمل الملكات في تاريخ بابلْ 
بلقيسُ...
كانت أطول النخلات في أرض العراقْ 
كانت إذا تمشي...
ترافقها طواويسٌ...
وتتبعها أيائلْ...
بلقيس... يا وجعي...
ويا وجع القصيدةِ حين تلمسها الأنامل 
هل يا ترى...
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟ 
يا نينوى الخضراء...
يا غجريتي الشقراء...
يا أمواج دجلةَ...
تلبس في الربيع بساقها 
أحلى الخلاخل...
قتلوك يا بلقيس...
أية أمةٍ عربيةٍ...
تلك التي 
تغتال أصوات البلابل؟ 
أين السموأل؟ 
والمهلهل؟ 
والغطاريف الأوائل؟ 
فقبائلٌ أكلت قبائل...
وثعالبٌ قتـلت ثعالب...
وعناكبٌ قتلت عناكب...
قسمًا بعينيك اللتين إليهما...
تأوي ملايين الكواكب...
سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب 
فهل البطولة كذبةٌ عربيةٌ؟ 
أم مثلنا التاريخ كاذب؟ 
بلقيس 
لا تتغيبي عنّي 
فإن الشمس بعدك 
لا تضيء على السواحل...
سأقول في التحقيق:
إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل 
وأقول في التحقيق:
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول...
وأقول:
إن حكاية الإشعاع، أسخف نكتةٍ قيلت...
فنحن قبيلةٌ بين القبائل 
هذا هو التاريخ... يا بلقيس...
كيف يفرّق الإنسان...
ما بين الحدائق والمزابلْ؟
 
لعبة الصنعة
تقوم صنعة القصيدة على حشد أدوات الغنائية المنبرية من صوت أوحد هو صوت الشاعر الغاضب الهَجَّاء الذي ينزل بالتقريع على أمة بكاملها حاكمها ومحكومها لاستمالة النفسية العربية المهزومة التي تميل في فورات الغضب والانفعال إلى التصفيق لمن يكشف عورتها، نفسية عربية يعزف نزار على وترها الأثير، وينتزع منها موقفًا مؤيدًا لمحنته. وفي ذلك يسعى إلى أسطرة الفقيدة المغتالة، فهي نخل العراق وطواويسه، وهي بابل ونينوى، وهي الأمة العربية، هي الشهيدة. هذا الغضب والهجاء يجد منفذه للمتلقي العربي الذي يحب جلد ذاته بسوط الشاعر المفجوع وصوته. ونزار يمعن في تقريريته، لكنه لا يترك القصيدة كلها تسقط في العُري التقريري، بل ينتشلها بين فينة وأخرى بانزياحات وتشبيهات تُجَمِّلُ الفقيدة الشهيدة (يا أمواج دجلة تلبس في الربيع بساقها أحلى الخلاخل)، ورموز مكشوفة تفضح ولا تُكَنِّي (السموأل والمهلهل ونينوى وبابل...).   
التناوب بين التقرير والشتم الجارح من جهة وبين الومضات التصويرية والرمزية هو لعبة الصنعة وتكتيكها الذي ينتزع التصفيق من مستمع يكون غالبًا في حشدٍ مهيَّأ نفسيًا لتقبُّل هذا الشكل التعبيري. وبما أن القصيدة منبرية يُتوقع أن تُقرأ جهرًا، ولو بالنسبة لقارئ منفرد، فالتأثيث الوزني يتكئ على بحر منبري بامتياز هو الكامل، لصفائه وانتظام تلاحُق سَبَبَيْهِ ووتده. وبقوافٍ متلاحقة في أسطر قصيرة متقاربة جدًا، مثل المقطع الآتي الذي لا يتعدى تسعة أسطر، ومع ذلك تحضر فيه ثماني قواف وثلاثة توازيات وثلاثة أساليب خطابية تحريضية، هي الاستفهام والنداء والقسم.
  أين السموأل؟ 
والمهلهل؟ 
والغطاريف الأوائل؟ 
فقبائلٌ أكلت قبائل...
وثعالبٌ قتـلت ثعالب...
وعناكبٌ قتلت عناكب...
قسمًا بعينيك اللتين إليهما...
تأوي ملايين الكواكب...
سأقول، يا قمري، عن العرب العجائب
القصيدة غنائية هجائية قصدية، تتلون بنفثات فنية تصويرية ورمزية قليلة، وتصرخ بلغة جارحة وإيقاع منبري ببحره وقافيته وبأساليب الخطاب الانفعالية. قصيدة الإلقاء واللقاء المباشر مع جمهور متوسط الثقافة الشعرية تهزّه آنية اللحظة ومسرحة العرض الشعري. وهذا الحكم ليس تقليلًا من أستاذية نزار وتجديده الكبير في لغة الشعر وريادته. ذلك أن نزار يدافع صراحة عن منبريّته ويرفض القطيعة مع جمهور الشعر، ويمثل لذلك بسقوط الشاعر منتحرًا من الطابق السابع. نزار وفيّ لطريقته في قصائده السياسية والعاطفية. توابله الشعرية محددة في الانزياح والرمز الواضحين، وحضور العروض والقافية والخطابية.

هتافيّة جارحة
القصيدة السياسية «القدس عروس عروبتكم» عند الشاعر العراقي مظفر النواب تتقاطع مع قصيدة بلقيس في صنعتها وهدفها؛ قصيدة جماهيرية تحريضية قليلة الاحتفاء بالمتخيل وشعرية الجملة.
القصيدة في بدايتها صكّ اتهام «مَن باع فلسطين وأثرى بالله» يستوي في ذلك الحكام المنبطحون والثوريون والمثقفون المزيفون. 
يستغل الشاعر الطابع الذاتي الغنائي للقصيدة العربية، ليصير القاضي الذي يوزع الاتهامات عازفًا كنزار على وتر نفسية العربي المهزومة التي لا ترى في الحاكم إلا مستبدًا وتنظر بعين الريبة للمثقف والثوري، ولا ملاذ لها إلا اتهام الجميع وتبرئة نفسها من أية مسؤولية، وكأن لا مسؤولية لصاحبها في صنع الجلاد. 
  القصيدة شرارة في أي محفل شعري جماهيري من طلاب الجامعة، والعمال المضطهدين، وجموع الأحزاب والتنظيمات المعارضة. يصنعها مظفر بهتافيّة جارحة وألفاظ نابية، متعمدًا إشعال القصيدة إمعانًا في التهييج.
 إن صنعة القصيدة تراهن على التجريح والتحريض الخطابي بالنداء والاستفهام والقسَم، وبلغة تقريرية لا يعطيها شعريتها إلّا انتظامها ضمن الوزن (الخبب) والقافية. فعبارة: «لن يبقى عربي واحدْ. إن بقيت حالتنا هذي الحالة بين حكومات الكسبهْ». تقريرية نثرية لا تنهيها إلا كلمة «الكسبة» التي وردت قافية، بل إن التكرار اللفظي في «حالتنا هذي الحالة» لم يوظّف إلا لإقامة الوزن. وعبارة: «لست خجولًا حين أصارحكم بحقيقتكم، إن حظيرة خنزير أطهر من أطهركم». مثل سابقتها لا يربطها بالشعر إلّا الوزن وشبه التقفية في: أصارحكم وحقيقتكم وأطهركم. 
 والقصيدة يدرك كاتبها أنها قصيدة المناسبة واللحظة أن عمرها الشعري رهين بعصره المتخلف، وأن جمهوره سيكون من الغاضبين المنفعلين، وأن القصيدة ستنجح في هذه المحافل وتنتزع التصفيق، لأنها متنفس من القهر. أما منسوب شعريتها فمحدود بالأوزان والقوافي والتحريض واللغة الجارحة.
غير أن هذا الحكم لا يعني بتاتًا أن القصيدة ضعيفة، أو أن صاحبها قليل الزاد من الشعر، أو أن أي مبتدئ يستطيع كتابة ما يشبهها. هذه صنعة لا يستطيعها إلا أصحابها من أمثال مظفر النواب، الشاعر المتمرد الذي جرّب أن يُحكم بالإعدام وجرّب السجن والهرب منه وجرّب التخفي. شاعر تمرّس بالبيانات والتنظيم الحزبي وتصفية الحسابات، القصيدة صاغتها تجربة حياتية صادقة مع نفسها ومع فنها ومقصدية واعية برسالة الشعر التحريضية، سواء اتفقنا معها أو لم نتفق.
 
«مديح الظل العالي»
القصيدة السياسية المنبرية، كما رأينا، ذات نَفَس حماسي تحريضي هجائي تقصد المباشرة وتتوسل بالوقفات العروضية القصيرة كي تحشد القوافي في أضيق المساحات، لأنها الوقفات التي تنتظر استجابة المتلقي بالتصفيق وأخذ النَفَس. قصيدة يلغي فيها الشاعر صوت الآخر ويَتَسَيَّدُ المشهد. والقصيدتان اللتان تناولتهما اكتسبتا شهرة واسعة، لكنّ ثمّة قصيدة سياسية منبرية شهيرة وأشهر منهما كانت لها خلطة مختلفة هي قصيدة «مديح الظل العالي» لمحمود درويش، وهي من أشهر مطوّلات الشعر العربي الحديث وأكثر القصائد ذيوعًا وتسجيلًا على شرائط الكاسيت، آنذاك، افتتانًا بها وبصوت درويش الاستثنائي.
اجتياح إسرائيل للبنان، وخروج المقاومة اللبنانية من بيروت بعد الحصار والضغط والتسوية حدثٌ لا يقل خطورة وأثرًا عن النكبة والنكسة، وإذا كان الشاعر اللبناني خليل حاوي قد احتج على الاجتياح بالانتحار، فإن درويش احتج بمطولته «مديح الظل العالي»، ويحلو للبعض نعتها بأول ملحمة في الشعر العربي، بينما لا تعدو أن تكون قصيدة غنائية طويلة يهيمن عليها الصوت الأوحد للشاعر.
«مديح الظل العالي» مزيج بين التأمل في الحال والمآل، وبين الاحتجاج والتحريض، تبدأ بمنسوب شعري مجازي رمزي مرتفع، ونظرة وجودية للقضية تستقرئ حاضرها وأفقها:
بحر لأيلول الجديد 
خريفنا يدنو من الأبواب 
بحر للنشيد المر 
بحر لمنتصف النهار 
بحر لرايات الحمام 
لظلنا، لسلاحنا الفردي
بحر للزمان المستعار
ليديك، كم من موجة سرقت يديك 
من الإشارة وانتظاري  
لكنها تنفلت من هدوئها التأملي وترفع إيقاعها الاحتجاجي التحريضي النثري، وتصرخ معلنة:
الله أكبر 
هذه راياتنا، فاقرأ 
باسم الفدائي الذي خلقا
من «جزمة» أفقا 
باسم الفدائي الذي يرحل
من وقتكم... لندائه الأول
الأول... الأول 
سندمّر الهيكل... سندمر الهيكل 

القصيدة تنوس بين عمق الرؤية وصفائها، ومباشرة الخطاب ومنبريته. الشاعر يكتب قصيدته السياسية بريشة الشاعر وبندقية الفدائي معادلة الشعر والسياسة سيحققها ويحلّ شيفرتها درويش في إبداعاته اللاحقة، بدءًا بـ «أحد عشر كوكبًا». وهو ما سأسميه نضج القصيدة العربية التفعيلية الحديثة ■