حُزنُ الغريب

حُزنُ الغريب

كان سليم البنية الجسمية، بهيّ الطلعة، أبيض البشرة، ليس بالطويل ولا بالقصير، لم يكن ذكيًا، وأيضًا لم يكن غبيًا بليدًا، كانت تصرفاته تجعل البعض يتهكّم عليه، لكونها تخالف المألوف لا أكثر، ولكن أهم من ذلك كله رقّة مشاعره، ورهافة حسّه، وتجاوزه عن إساءة الآخرين له، رغم يقينه بسوء مقصـــدهم وظنهم.
إذا خطرت في باله فكرة ما واقتنع بها، نفّذها دون أي تفكير أو جهد يُذكر، علمًا بأن أفكاره لا تتجاوز مظهره، أو تحديه لبعض قيم البيئة الاجتماعية التي حوله، على سبيل المثال - وأنا أتكلم هنا في فترة سبعينيات القرن الماضي، وفي منطقة بدوية محافظة جدًا، وبين أسرة وأصدقاء حذرين ومتهكمين على كل شيء يخالف ما ألِفوه - كان يرتدي الملابس الإفرنجية، في وقت لا يمكن الظهور أو الجلوس دون «غُترة» وعقال.
كان يفاجئ الجميع بحلقه شاربه ولحيته، وبذلك يصبح حديث منطقته كافة، والتي تهوى نقل الأحداث بصورة سريعة ورهيبة، وكأنهم بكلامهم عنه يرجمونه رجمًا، أو ليست هناك مشكلات حياتية غير موضوعه، والذي لا ضرر منه على أحد.
في الدراسة لم يكن مجتهدًا كثيرًا، ولا أعرف هل هذه قدراته أو أنّ هناك ما يشغله في حياته عنها، رغم أن أحلامه كانت بسيطة جدًا، فهي محصورة في العمل والزواج باقتناع والعيش بسلام، لذلك كله بالكاد أنهى المرحلة المتوسطة، ثم ترك المدرسة  ليعمل بوزارة الصحة كاتبًا في أحد المستوصفات، وقد أصرّ على أن يرتدي اللباس الإفرنجي، ويظهر أمام الملأ بشــعره المصفّف بشكل جـــيد، وكــــان أيضًا مجال تهكُّم من بعض المراجعين الذين يعرفون أسرته ويعرفون أنه ابن قبيلة، لكنّه لا يأبه لهم ويقابل كل ذلك بصبر وأناة، بل كان يمازحهم ويتقبّل كل ما يصدر عنهم، وفي المقابل نال حب واستلطاف الأطباء والهيئة التمريضية له، من الرجال والنساء غير الكويتيين بالطبع.
كنت ألتقيه من حين لآخر، ومع رفضي لبعض سلوكياته، فإنني كنت أخفي عنه إعجابي بإصراره على فعل ما يؤمن وتطبيق ما يفكر به، وأكثر ما كان يشدّني إليه هو رفضه لما يُملى عليه دون غضب أو توتّر أو صراخ، فكم من مرّة تعرّض أمامي للسخرية من مظهره، ومع ذلك كان يردُّ ردًا رقيقًا عاقلًا: لكل شخص قناعاته، كما أن كلًا منّا مسؤول عن ذاته، وهو بذلك يقدّم لنا نموذجًا يُقتدى في احترام رأي الآخر، حتى لو كان رأيه سلبيًا تجاهه، في وقت كاد الكثير منّا لا يعرف عن حقيقة مقصد احترام الرأي الآخر وماهيته شيئًا، ولا يقيم لحقوق الإنسان ولا للخصوصية الذاتية وزنًا، بل إنّنا نمارس كل ما يخالف ذلك، من مصادرة الحرية وانتهاك الخصوصية.
عندما سألته ذات يوم عن المواقف التي يتعرّض لها من الآخرين، وأعني بذلك تطفّلهم عليه وسخريتهم منه، ردّ بكل بساطة: «إنني أقوم بعمل لا يؤذي أحدًا، فإن كان ما أقوم به حسنًا فهو لي، وإن كان سيئًا فهو علَيّ، وأنا كما تعرف لا أغتاب ولا أستهزئ بأحد، فقط أريد أن يتركني الآخرون وشأني، ويشهد الله أنه لولا صلة الرحم وما لها من أجر عند الله لانقطعت عنهم جميعًا، كما أنني لم أفعل شيئًا يضرّ بشرفي أو بسمعتي».
 كان يتكلم بطريقة هادئة ومؤثرة، تنمّ عن شعوره الحزين وحنقه وضيقه واستغرابه تصرُّفاتهم.
عندما أسمع ذلك منه لا يزيده ذلك عندي إلّا احترامًا وتقديرًا، لأنني لم أسمعه في يوم من الأيام يشتم أحدًا أو يتطاول عليه، كان يعيش بنفسه ولنفسه، ويفعل ما يقتنع به؛ لذلك كنت آنس بوجوده، وأجد به أحيانًا قوة عن ضعفنا وعجزنا عن التعبير عن ذاتنا في بيئة قاسية، بيئة تحاصر أمانينا وأفكارنا بسياج مُحكم، رغم علمنا بأنها مجرد قشور باهتة، وسلوكيات وأفكار محنطة فُرضت علينا بحكم الزمن والواقع؛ لذلك كنّا دائمًا نشعر بالحصار حتى ولو كان مجرد هاجس في نفوسنا، أو كأننا نحمل معنا عيونًا تراقبنا لتحدّ حتى من شعورنا الإنساني وإحساسنا بالحياة.

غيرة طفولية
في أحد أيام عيد الأضحى المبارك، ظهر فجأة بعد أن غاب عدة شهور عنّا، جاء ليبارك لنا بالعيد، وهو يرتدي بدلة كُحلية اللون بتقليم رمادي خفيف، وربطة عنق أنيقة، طلّ علينا وكأنه بطل من أبطال الأفلام الأجنبية في تلك الفترة، فكنت أسأل نفسي متعجبًا: أين تعلّم أسرار هذه الأناقة؟ وكيف؟ لم نستغرب منه مظهره، فقد اعتدنا منه ذلك، ولكن ما أثار حفيظة البعض أن حديثه كان بالعربية المحلية وبين كلمة وأخرى ينطق كلمات باللغة الإنجليزية الجيدة، وحينها أدركت أن تهكّمهم عليه لم يكن سوى غيرة طفولية ساذجة، حيث لم يكن بمقدورهم التعبير عن أنفسهم ورغباتهم مثلما كان يفعل هو.
عندما جلس بالقرب منّي سألته عن سبب استخدام المصطلحات الإنجليزية في حديثه، فقال:
-  حاليًا أنا أتعلّم اللغة الإنجليزية بصورة مكثفة، رغبة منّي في قراءة المزيد من الكتب الأجنبية، وأتعلّم أيضًا اللغة الفرنسية، لأنها لغة الثقافة والإتيكيت، كما أنني أفكر بالعمل في شركة خاصة.
-  سألته: لماذا تفكر في ذلك وأنت تعمل في وزارة الصحة القريبة من منزلك وبراتب جيد؟
-  قال: أريد أن أحقق ذاتي وأشعر بقيمتي في عمل أقتنع به، ونصيحتي لك عندما تُنهي الجامعة، أن تعمل في المجال الذي يُشعرك بالرضا أيًا كان هذا العمل.
لاحقًا، وفي أول سنة لي في التدريس، وكان ذلك عام 1986م تذكّرته، حينها كانت طموحاتي كبيرة، ولم أكن أفكّر في التدريس، ففكرة إكمال تعليمي كانت تراودني، وكم زاد تقديري له حينها؛ حيث أدركت حقًا كيف أنه انتصر لذاته ومشاعره وحياته.
وبالفعل حقق ما كان يصبو إليه، فما هي إلّا شهور قليلة حتى توظف في شركة خاصة، يعمل بزيّه الإفرنجي بكل جد واجتهاد في مجال الإدارة والعلاقات العامة، وقد استفادت منه الشركة بمعرفته بمناطق الكويت وتركيبتها الاجتماعية، عدا بعض العلاقات هنا وهناك، أما هو فيشعر بسعادة غامرة بعيدًا عن الغمز واللمز والمضايقات اليومية، يكفي حالة الانشراح والرضا التي اجتاحت حياته، وجعلته كأنه يخوض غمار حرب ضروس، أو يقتحم مخاطر أخرى، لأنّ دافعيته كانت عالية جدًا وروحه حماسية، وبشاشته وآماله تصل عنان السماء.
مع الأيام، ومن خلال الشركة تعرَّف إلى فتاة لبنانية مسيحية، كانت سببًا لحدوث تغيّرات جديدة في حياته؛ حيث أدخلت على حديثه اللهجة اللبنانية، وأصبح لا يملّ الحديث عنها، دائم الذكر لها، وصار هائمًا بها، وامتد تواصله مع أسرتها، بالإضافة إلى أنها جعلته يعشق الثقافة اللبنانية بشكل عام من مأكل وذوق وفن وألوان، أي أنّه أصبح لبناني الهوى والمزاج والمشاعر.
فجأة وفي يوم من الأيام وجدته يعرف الكثير عن الطقوس المسيحية في الأعياد والمناسبات والصيام، ويحضر ويحتفل معهم بأعياد الميلاد كذلك أصبح كثير النقد لأسماء البدو، وذلك لصعوبتها - كما يزعُم - في اللفظ والمعنى، وكان يعجب بأسماء طائفة ليليان (صديقته) مثل جورج وطوني وإلياس وجولييت وكاترينا ومرتا.
 العجيب أنه عندما يسمع الأذان يذهب ليتوضأ ويصلي كما نصلي، ويصوم رمضان، بل إنه كان ينوي أن يحج بيت الله الحرام، وأتمنى أن يكون قد أدى فريضة الحج.
أصبح هو وليليان شيئًا واحدًا في المزاج والفكر، بل هي من تحدّد ذوقه في الملبس والمأكل، كما أن محادثتهما كانت تتم في الغالب باللغة الإنجليزية، والغريب أنه كان يتكلم عن لبنان وعن مناطقه والضَّيعة والجنوب والشمال وكأنه عاش سنوات طويلة هناك، علمًا بأن قدميه لم تطأ أرض لبنان قَطّ، بل وحسب علمي أنه لم يغادر الكويت نهائيًا. لكنّ قدرته على حفظ الأسماء والأشياء مكّنته من التقاط كل المعلومات وحفظها، لا سيما أنه أصبح مقربًا جدًا من عائلة صديقته.
كنت أستغرب كثيرًا من حاله ومن فكره، وأتساءل: ماذا يريد تحديدًا؟ وكيف يشعر بذاته؟ هل هو ذلك الكويتي البدوي المسلم؟ أم أنه خليط من المسيحية والعربية واللبنانية والإفرنجية؟ وأنا أدرك وأعي صعوبة المعادلة، فالهويات وتشكيلها ليست بهذه السهولة، بل إنها تأتي نتيجة تداخل ثقافات وسلوكيات قد يصل إلى حد الصراع، وكم قرأت هذا الكلام في كتابات الكثير من المفكرين والأدباء، ومنهم - على سبيل المثال - لا الحصر إدوارد سعيد وأمين معلوف وغيرهما.
ومع علمي بأنه إنسان بسيط جدًا ومتواضع إلى أبعد الحدود، إلا أنني عندما أجلس مع نفسي أحاول سبر أغواره ومعرفة هل هو مقتنع بما يقول؟ أم أنه مؤمن بمبدأ خالِف تُعرَف؟ أم أن له غاية أخرى أجهلها؟ هل هو صراع هوية أم إثبات وجود؟ هل هو رد على منتقديه الذين كان يقول إنه يعرفهم تمامًا ويتفهم تهكمهم المُرّ عليه وسخريتهم منه، لكنه لا يأبه لهم؟
عجيب أمر هذا الإنسان! فإنه لا يحمل مشاريع فكرية أو ثقافية، فقط يريد أن يعيش كما يفكر وكما يحب، لا كما يريد الآخرون، ويرفض رفضًا قاطعًا أن تُفرض عليه فكرة لا يؤمن بها أو يُلزم برأي لا يقتنع به.
  تمرُّ به أيام يحدثك عن أمور لا تبدو واقعية بالنسبة لنا في ذلك الزمان والمكان، كعدم التمسك ببعض القيم والملابس وطقوس الأفراح والأتراح والعلاقات الاجتماعية، والتي يشعر بأنها نوع من النفاق الاجتماعي والتزلُّف، فيكفي أن مجتمعنا يردد مقالة: «الدنيا إمّا رجاء أو خوف»، حيث كان يعيب هذا المثل والمنطق الذي حصر علاقة الإنسان بالإنسان وفق هذه الصورة.
 كما كان يضايقه أيضًا تتبُّع الناس بعضهم لبعض، والبحث عن الهفوات والزلّات، ويتعجب من أن الإنسان عندما يقع في مشكلة أو موقف محرج، فإنّ ذلك يلتصق به طوال حياته، بل يمتد لأحفاده، وأخذ يستعرض معي الألقاب التي أطلقت على بعض الأسر قسرًا، بل إن بعضها به من البذاءة الكثير، ومع ذلك فالناس متمسكون بها، يرددونها ويصرّون على نشرها وتأكيدها، وكأنهم يمسكون سكينًا يقطعون بها لحوم الآخرين.

الإسلام الصحيح
عندما سألته عن ليليان صديقته، وهل سيتزوجها، لم يجب بنعم أو لا، فقط قال: نحن في طور التفاهم والتقرب ومناقشة العديد من الموضوعات. وفاجأني بقوله إنّه يحدّثها عن الإسلام الصحيح - بفهمه طبعًا - ويحاول البحث عن موضوعات متقاربة، لكنّ الأهم بالنسبة له أن يكون قريبًا منها، بل إنه يضع صورتها في سيارته بكل فخر واعتزاز، كما أنّ له معها ومع أسرتها كل أسبوع سهرة عائلية؛ سواء في منزلهم أو في أي مكان آخر.
في يوم من الأيام جاءني حزينًا يكسو محيّاه الألم، وسحنته باهتة وعيونه غائرة، ومظهره لم يكن كما عهدته مرتبًا وأنيقًا، كذلك لحيته، عندها راعني منظره فسألته عن ذلك، فقال باختصار شديد: ماتت ليليان، قالها بصوت متقطع وحشرجة واضحة ودمعة انحدرت على خدّه، ولأول مرة أراه متألمًا بهذا الشكل، ولأول مرة أرى دموعه، كانت حالته تدعو إلى الشفقة، لدرجة أنه احتضنني وكأنه يبحث عمّن يشكو له ويتكلم معه ويتألم أمامه.
 ورغم مرور سنين على هذا الموقف، فإنني ما زلت أتذكره وكأنه حدث اليوم، وأشعر بحرارة جسده وسخونة دموعه، ففي اللحظة التي احتضنني فيها فتح بركان حزنه وعلا أنينه ونحيبه، فشعرت وكأنني أمام بقايا إنسان محطّم، فلا عنفوان ولا رزانة ولا أيّ مظهر من مظاهر السكون التي كان يتمتع بها، بل إنني أمام طفل فقد والدته.
بعد أن هدأ واستعاد بعضًا من سكونه، قال: ذهبت لترى جدتها التي كانت تحتضر، وتنظر إليها نظرة وداع قبل أن تغادر العالم الفاني، وفجأة وهي تسير في إحدى طرقات بيروت حدث انفجار قوي أصاب الكثيرين، فكانت إحدى الضحايا، وهذا كله بسبب الحرب الأهلية العبثية، ذهبت فقط لتودّع جدتها ووعدتني بالرجوع، لكنها ماتت وبقيت الجدة.
مرّت لحظات صمت لم أستطع أن أستوعب الموقف، إلى أن قلت إنّها سنّة الحياة وهذا قدَرُها وأجلها، والآن فكّر بنفسك، فهذا المصير كلنا سنواجهه، ولا تجزع مما كتب الله لك، وواصلت بمثل هذه الكلمات تعزيته ومواساته، في الوقت الذي لا أرى إلا عيونه وهي تذرف الدموع مع صمته الرهيب.
تركني ومضى دون أن ينطق بكلمة واحدة، واستمر على هذه الحالة فترة من الزمن، ولم يقطع صلته بأســرتها يشاركهم أحزانهم وذكراها، ومع كل ذلك فإنه لم يغيّر نمط حياته الذي اعتـــاده مــن ملبس وتصفيف شعر، وطريقة حديث، وعدم تقبُّل قيم بيئته، ومعارضته لكل من يحاول أن يغيّر من فكره أو طريقة معيشته.
 التقيته مرات قليلة بعدها في مواقف متباعدة، وكنت في كل مرة أبحث في عينيه عن ذلك الحماس الذي عرف به والدافعية التي كانت لا تفارقه، إلا أنّي لم أجدهما، على الرغم من نشاطه وحركته، وأنا أعلم تمامًا أن قراءتي لا تخطئ.
وبسبب تخرُّجي في الجامعة وانشغالي بأمور كثيرة، لم أعد أراه إلا في مرات قليلة جدًا، وآخر حوار دار بيني وبينه كان حول قصته التي أخبرته أنها تستحق أن يُكتب عنها، حينها تبسَّم وقال: لستُ شخصًا مهمًا، ولا يوجد في حياتي شيء يستحق أن يُذكر أو يُكتب عنه، ثم تبسَّم وقال: لماذا لا تكتب أنت قصتك؟

حفل زفاف
بعد هذا الحوار بفترة وصلتني دعوة لحضور حفل زفافه، وقد تعجبت من المكان الذي أقيم فيه حفل الزواج؛ حيث تم في ساحة ترابية وفي بيت شَعْر كعادة أهل منطقته، في ذلك الزمان، وهو الذي كان يمقت منظر بيوت الشَّعر والاحتفالات التي تتم بها، والطريقة التي تقدّم بها الولائم فيها، ناهيك بالأكل والعَرضة ورقصة السيوف الهمجية - على حدّ تعبيره - ومنظر الأهل والأصدقاء والجيران وهم يتحركون في كل الاتجاهات. وعندما ذهبت إلى حفل زفافه وجدته إنسانًا آخر تمامًا، يرتدي الزيّ الشعبي، حيث «الدشداشة والغُترة والعقال والبشت»، كذلك كانت طريقة تحيته بدوية لا تتناسب مع ألفاظه وفكره السابق «يا الله حَيّه»، «الله يبارك فيك»، «الفال لعيالك»، «تو ما نور العرس»، «هذي والله الساعة المباركة»، حتى لفت نظري شربه للقهوة العربية بالطريقة البدوية، حيث هزّ الفنجان عند الانتهاء وغيره من الطقوس، هذه القهوة التي كان لا يحبّها، ودائمًا ما كان يفضل عليها القهوة التركية.
عندما جلست بقربه همست: «وش هالتغيير؟»، ضحك وقال: «عين خير يا سعود»، واستمر في الترحيب والسلام على المهنئين، أعدتُ الكَرّة عليه في التساؤل ذاته، قال: سيأتي يوم وأخبرك سبب هذا التغيّر، قالها، فأحسست أن هناك شيئًا ما حدث في حياته، عيونه تشي بذلك، وتصنّعه بالكلام والترحيب والضحك يشعرني بأنّ هناك سرًّا يخفيه هذا الغريب في كل شيء.
تركت حفل الزفاف وبذهني أسئلة كثيرة ومحيّرة، ما سبب هذا الانقلاب؟ هل هو ثورة على نفسه أم استسلام لواقعه وبيئته؟ أم هو أثر الصدمة التي تلقاها بسبب موت صديقته ليليان، لم أستطع أن أفهم ما به، لذلك حرصت على أن أقابله في فرصة أخرى لأفهم سرّ تحوُّله وتغيُّره، ومع ذلك لم أستطع أن التقيه، لسفري أو انشغالاتنا في الحياة، رغم أن موضوعه كان يهمني كثيرًا، ولا أعرف سببًا لذلك، هل هو تطفُّل منّي أم ماذا؟
بعد سنوات سمعت أنه يرقد في المستشفى إثر إصابته بمرض عضال، فما كان منّي إلّا أن زرته لأجد إخوته وولدًا صغيرًا مع أخته، وبعد السلام والسؤال قال: هذا ابني حمدان وابنتي وضحة، لحظتها تذكّرت الأسماء التي كان يحبها؛ جورج وجولييت وغيرها، وهذا ما حرّك في نفسي التساؤل القديم ذاته: ماذا حلّ به؟ لكنّ الظرف والوقت غير مناسبين لفتح هذه الموضوعات، ثم غادرت المشفى، وأنا أردد الدعاء له بالشفاء العاجل.
بعد فترة، وأنا عائد من سفر علمت بموته، بعد زيارتي له بأسبوعين، فحزنت حزنًا شديدًا لهذا الخبر؛ لأنني لم أكن قربه في هذا الوقت العصيب، ولم أشارك في تشييعه ودفنه، كما أن معرفة سبب التغيير الذي طرأ على حياته فجأة ما زالت تراودني بين الحين والآخر، وتشغل حيزًا كبيرًا من تفكيري.
 وبوفاته طويت صفحة أسراره، لكنّ هذا الغريب في كل شيء ترك لي ظرفًا مختومًا بإحكام لدى أحد أشقائه، مكتوبًا عليه «لا يفتحه إلّا سعود الحربي»، تلهفت لفتحه ومعرفة ما به، كانت ورقة واحدة كُتبَ بها سطرٌ واحد فقط هو «اكتُب عنّي إن شئت» ■

 

د. سعود الحربي