الشاعر د. محمد علي شمس الدين: الشاعر يسكن بأعماقه طفلٌ ينمو

الشاعر د. محمد علي شمس الدين: الشاعر يسكن بأعماقه طفلٌ ينمو

  شاعرُنا يعيشُ بالحرية، ويتشبث بالتراث العربي، حتى النخاع؛ فالحرية تعني له الحياة ببساطة، الحياة التي تعرف عليها، في بكارتها الأولى، في ريف الجنوب اللبناني؛ ففي هذه البيئة الخصبة، الثرية بالإيحاءات، والمفتوحة على السماء، كان له أن يطلق العنان لتأملاته، وأسئلته، ويتوحد مع الطبيعة، بسحرها، وغموضها. ومن خلال الطبيعة، ومكتبة جدِّه العامرة بكتب التراث؛ تفجر بداخله أول ينابيع الشعر. نشأته في بيئة مشبَّعة بروح التدّين، والتصوف، فجده كان شيخًا، ومقرئًا للأوراد الدينية؛ ساعدت على تشبعه بالروح الصوفية الشفافة في شعره، والذي يمثل مزيجًا مدهشًا من بكارة التجربة، ومغامرة التجريب، وشفافية المعاني الصوفية.

 

 بدأ شاعرنا مشواره مع الشعر منذ منتصف السبعينيات، وأصدر مجموعته الشعرية الأولى «قصائد مهربة إلى حبيبتي آسيا»، ثم توالت دواوينه الشعرية، ومنها «الشوكة البنفسجية»، «أما آنَ للرقص أن ينتهي»، «رياحٌ حجرية»، «الطواف»، «حلقات العزلة»، «غرباء في مكانهم»، «شيرازيات»، «الغيوم التي في الضواحي». وأصدر في الشارقة عام 2015 مختاراته الشعرية، بعنوان «سطوحٌ غادرت ساكنيها»، وبالإضافة لدواوينه الشعرية، قدم للأطفال مجموعة بديعة من الأشعار، والقصص، والأغاني، وهو يؤكد أن الشاعر بداخله طفلٌ ينمو. 
 ● في البداية كيف أثرت عليك نشأتك في الجنوب اللبناني، وما هي المنابع التي كونت وجدانك الشعري؟ 
- ولدت في قرية بيت ياحون بجنوب لبنان، وهي قرية جبلية مرتفعة، مفتوحة على السماء، وعلى أودية متعددة. وهذه الطبيعة البيضاء؛ كونت بعناصرها الطفل الأول - الذي كنتُهُ - نشأت في بيئة رعوية، يتآخى فيها الإنسان مع الحيوان. وكان في بيت جدي أشجارٌ، وأغنام، وتنور، وأهم ما كان يميزه العمقُ الديني؛ فإذا جمعتَ هذه العناصر؛ لتشّكلت منها كيمياء الطفل الأول؛ حيث كان الصوت الجميل، والحزين لجدي الشيخ، يرسم وجداني، ويطبعُهُ بحزنٍ غامض، وشوقٍ إلى أناسٍ رحلوا، ولا أدري إلى أين، وهل يعودون، أم لا. وأضيف لهذه العناصر، أذان الفجر العميق، والكتب الصفراء، التي كنت أجدها في مكتبة قديمة، ومعظمها عن الشعراء العرب الأوائل؛ وعلــى رأسـهـم المتنبي، والمـعري، والشريف الرضي. قرأت أيضًا النثر العربي القديم، للجاحظ، والتوحيدي، ونهج البلاغة، للإمام علي بن أبي طالب. وحين كبرت قليلًا؛ جذبتني الفلسفة الوجودية، من خلال كتاب «الغريب» لألبير كامي؛ وقد قرأتُهُ، حتى صِرتُ «هذا الغريب»، الذي تحدث عنه «كامي» في كتابه. وهكذا، فمع الحقول، والتراب، وأناشيد أهل القرية، وميل معظم الأمور بالقرية إلى سحر الغموض؛ تكون وجداني المبكر.
●  من هم أبرز الشعراء الذين أثروا في وجدانك؟     
-  كثيرون في الحقيقة. من القدماء أستطيع أن أذكر لك «أبو العلاء المعري، والمتنبي، والطائيين»، كما تأثرت بقراءة تراث ضخم، من النثر العربي، والتاريخ، بالإضافة إلى سير المتصوفة من الشعراء. وكل ذلك ساهم في تشكيل وجداني الشعري، وقبل كل ذلك، القرآن الكريم، بكل جمالياته البلاغية، والإيقاعية، وزخمه الثقافي. أما الشعراء المحدثون الذين أثروا في وجداني، فيصعب حصرهم، شرقًا، وغربًا، وفي طليعتهم جبران خليل جبران، ومن شعراء الحداثة العربية، صلاح عبدالصبور، وعبدالوهاب البياتي، وأدونيس، والماغوط، والسياب. كما أنني تأثرت بالكثير من الشعراء الفرنسيين - وأنا أقرأ لهم بالفرنسية - ويضاف لهم رسامون، وموسيقيون، وغيرهم. تأثرت بإبداعات كل هؤلاء العظماء، ولكن في النهاية أكتب نصي أنا، الذي يشبهني.
● بالرغم من غلبة شعر التفعيلة على كتاباتك، إلا أنك كتبت أيضًا نصوصًا نثرية. أي العناصر التي تركز عليها أكثر في نصك: اللغة، أم الإيقاع، أم المشهدية؟    
- كل هذه العناصر مجتمعة. تهمني الإيقاعات جدًا. وهي إيقاعات متنوعة، ورحبة؛ تمتد من البحور الخليلية، إلى تشظيها في اتجاه التفعيلة، أو تشظي التفعيلة ذاتها. وأنا أجتهد، وأجرب كثيرًا في هذا الإطار، وأبحر بين عدة بحور شعرية، في نصٍ واحد. ثم - إذا اقتضت التجربة - أكتب نصًا نثريًا. يمكنك القول إنني أكتب القصيدة المركبة. أنا سيد قصيدتي. أحتكم إلى ذائقتي الخاصة، وما يخدم قصيدتي، ومناخها النفسي، والتاريخي. 
●  هل كتبت القصيدة العمودية أيضًا؟      
- بالطبع. كتبتها، ولا زلت أكتبها، عندما تكون هي الشكل المناسب لتجربتي. لكنني أجدد فيها، وأفجر نصي العمودي، بما يخرجه من جموده الكلاسيكي. وأعتقد أن الشكل العمودي مازال يحمل الكثير من الطاقات الإبداعية، والابتكارية، لمن يستطيع تقديمه بروح حداثية. الشعر أكبر من كل الأشكال، ويتسع لكل الأشكال.
 
توظيف الشعراء للتراث
● ما هو مفهومك للتراث، وهل ترى أن الشعراء المعاصرين أجادوا توظيفه في شعرهم؟  
- هناك نظرتان للتراث. هناك من ينظرون له على أنه قبر، يجب طمره. أما النظرة الأخرى له - والتي أنحاز لها - هي أن التراث، في جوهره، يشبه إلى حد كبير الطائر الذي يحلق عبر الأزمنة، ويتحول إلى صور أخرى. وهذه النظرة بالذات، تختلف عن النظرة إلى الحداثة، وما بعدها في الغرب؛ ففي الغرب هناك الكثير من الشعراء، والرسامين، والمُنَّظرين، في مطلع الحداثة؛ نظروا إلى ما قبلها على أنه لا لزوم له، وهاجموا الماضي بشراسة، وأرادوا الاستيلاء على السلطة بالعنف، وسفك الدماء، متبعين نظرية «قتل الأب»، ثم جاءت فجأة نظريات «ما بعد الحداثة» على يد «جاك دريدا»، و«فوكو»؛ فأشعلا الماضي إشعالًا عظيمًا، وأعادا إحياءه، وأكدا أنه لا يموت، بل يتحول، كطائر «الفينيق»، والجديد يولد من تحولات ما قبله. وبالتالي فكلُ حاضرٍ، سيصبح تراثًا ماضيًا بعد حين. أما بالنسبة لتوظيف الشعراء العرب للتراث؛ فقد نجح عدد منهم في ذلك؛ أذكر منهم يوسف الصايغ، وأمل دنقل، وأدونيس، والبياتي. وأستطيع القول أنني وظفت الكثير من العناصر التراثية في شعري.
 ● عملت كمدير للتفتيش، والمراقبة، بالصندوق الوطني اللبناني للضمان الاجتماعي، فهل مثّلت الوظيفة قيدًا عليك كمبدع، أم ماذا؟       
- أنا حائزٌ على إجازة في الحقوق؛ وذلك قبل دراستي للأدب العربي، وحصولي على الدكتوراه في التاريخ. وقد أهلتني دراستي للقانون، لتولي منصبي بصندوق الضمان الاجتماعي. وأثناء ممارستي لمهام منصبي؛ كانت شخصيتي منقسمة إلى نصفين، أحدهما ينهض للعمل باكرًا، وحين يدخل إلى مكتبه، يترك خلفه في المدى شخصية الشاعر الحالم، الخيالي؛ ليكون في المكتب شخصًا يقظًا، حازمًا، يدقق في الأمور القانونية، والحسابية، لتحقيق العدل، وهو يتعاطى مع شؤون الناس اليومية. وفي أثناء ذلك كنت أستفيد من تجارب هؤلاء الناس، خاصة أنني كنت أشرف على قسم متعلق بمصالح العمال، وعلاقاتهم مع أرباب العمل. كان قلب الشاعر حاضرًا بالطبع، أثناء ممارستي لعملي؛ فأنحاز للفقراء. لكن العقل، كان للمدير القانوني. وقد استفدت من تجارب هؤلاء المواطنين البسطاء، الذين صادفوني خلال عملي؛ في اتسام شعري بنبض إنساني ما، وانحياز إلى أحلام البسطاء، وأوجاعهم. وكنت بمجرد خروجي من مكتبي؛ أعود لجوهري الشعري، وأعيش حياتي كشاعر، ينحاز للخيال، والمجاز، أكثر من الواقع. 
 ● هل الوظيفة إذن ضرورية للمبدع، لتأمين لقمة عيشه؟    
- بالطبع. فأنا ساعدتني وظيفتي على تأمين حياتي، خاصة في المراحل الأولى؛ قبل أن أشتهر كشاعر، ويبدأ إنتاجي الأدبي في إدرار عائد جيد عليَّ - خاصة الجوائز الأدبية التي حصلت عليها - بسبب كوني شاعرًا، وليس موظفًا.
       
منجذبٌ للإيقاع القرآني
● يبدو في شعرك، تأثرك برموز التاريخ العربي، والإسلامي، وبالروح الصوفية.. هل لهذا علاقة بنشأتك الدينية؟       
- بلا شك. لأنني نشأت في حضنٍ ديني، إلى حد ما، ثم أنني - من صغري - منجذبٌ للإيقاع القرآني، ثم أن تكويني الثقافي، بمجمله؛ أكسبني، وأكسب أسلوبي، هذه السمات التي أشرت إليها، بالإضافة إلى أن هذا كله، أكسبني التأمل، والتفكر في الحياة، والموت، ولا سيما في الموت؛ لأنه الوجه الغامض، المقابل للحياة. وقد جعلني هذا أعيش في عالم «الميتافيزيقا»، وأعتقد أن «الميتا فيزيقا» من الجذور الأساسية للشعر.
● كتبتَ قصصًا للأطفال. فماذا كان دافعك في كتابتها؟ هل لأن الشاعر يسكن بأعماقه طفل؟  
- صحيح. الشاعر يسكن بأعماقه طفلٌ ينمو، بالإضافة إلى أن عالم الأطفال جذبني، لأكتشف نفسي، من ناحية، ولأكتشف عالم الأطفال، المرهف، الزاخر بالإيحاءات. الطفل في الحقيقة هو مكتشف كبير في الحياة. ومخطئ من يظن أن الأطفال لديهم أسئلة تقل عمقًا عن أسئلة الكبار، ثم إنهم قادرون على الاستيعاب، وعلى طرح أسئلة خطيرة. الحقيقة أن الكتابة للطفل، تستلزم أولًا معرفة طبيعته، ودراية كبيرة بعلم نفس الأطفال، وتربيتهم، ومعجمهم الخاص. والكتابة للأطفال بهذا المفهوم، هي كتابة شديدة الأهمية، والصعوبة في الوقت نفسه، ولذا نجد ندرة في عدد كتاب الأطفال في الوطن العربي، وكاتب الأطفال الحقيقي، لابد أن يكون لديه شغف بالكتابة لهم؛ وأعتقد أنني عندما كتبت 12 قصة ملونة للأطفال، كان عندي هذا الشغف، بالإضافة لما كتبته لهم من مجموعات شعرية، إحداها صدرت عن منظمة (اليونيسيف) بعنوان «غنوا، غنوا»؛ وهي قصائد تربوية، مصحوبة بكاسيت غنائي، من تلحين الملحن الكبير «كفاح فاخوري»، وهذه المجموعة مقررة في المناهج اللبنانية للتلاميذ الصغار. 

الغموض في الشعر
 ● يغرق العديد من الشعراء في الغموض، والإلغاز.. هل لا بد أن يكون الشعر غامضًا، لكى نقول أنه عميق؟ 
- بالنسبة للغموض، أنا شخصيًا شعري به غموض؛ لكن الغموض ليس في اللغة. بمعنى أن القارئ لن يسعفه اللجوء إلى المعاجم لفك غموض اللغة، أو البنية الشعرية، أو المعاني. وكانت المعاجم تصلح في الماضي، لفهم القصائد التقليدية. أما فهم القصائد الفلسفية، وذات البعد الصوفي؛ فلها قاموسها الخاص، الذي ينطوي على الحيرة، والوجد. وفي الفترة الحالية بالذات من كتابتي، الغموض مستمد من غموض الوجود ذاته، من حبة القمح الصغيرة في الأرض، إلى الأقدار، والمصائر، وصولًا إلى الأسئلة الكبرى، عن الحياة، والموت، والمصادفة. حين يكون الشعر محكومًا بمثل هذه الأسئلة الميتافيزيقية، ولا يكتفي بالوصف السطحي؛ فإنه يكون عميقًا، وساحرًا في غموضه. لكن - وبالرغم من ذلك - فإنه لا بد من احتواء النص على شفرات لفهمه؛ فالغرض ليس هو الإلغاز، بل طرح الأسئلة الشفافة. 
● ختامًا، كيف ترى أهمية الصحافة الثقافية، في ظل التهميش الذي تعانيه عربيًا؟  
- الحقيقة أن الصحافة الثقافية في العالم كله تقريبًا؛ تراجعت عما كانت عليه في سبعينيات، وثمانينيات القرن الماضي. وذلك لأسباب متعددة، منها منافسة وسائل الإعلام الإلكترونية، وتراجع الوعي النقدي للمثقف، وارتباط اهتمامات القاعدة الشعبية الكبرى بالرياضة، والفن. في حين أن هناك بعض المجلات الثقافية لا زالت صامدة في وجه هذه التحديات. الحقيقة أنه لا يمكن التخلي عن الصحافة الثقافية؛ فهي مرآة للحالة الثقافية، والإبداعية. وحاضنة مهمة للإبداع، والفكر، وهي فن، وإبداع موازٍ، ومتطور أيضًا ■