الشعر النسائي العربي في كندا

الشعر النسائي العربي في كندا

صدر عن دور النشر الكندية الكثير من المجموعات الشعرية النسائية العربية، بالعربية والإنجليزية والفرنسية لشاعرات عربيات يقمن في كندا، وذلك خلال منتصف القرن العشرين. وظهر الزجل (الشعر العامي) في تجاربهن قبل الشعر، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وإن لم يتيسّر له النشر؛ إذ تم تداول الكثير منه بين النساء في لقاءاتهن، وأغلبهن مسيحيات من بلاد الشام - جبل لبنان، هاجرن، إبان الحكم العثماني وتفشّي الاضطهاد الديني وتدهور صناعة الحرير. نذكر منهن أسما شحلاوي، هاجرت سنة 1882 وتوفيت في مونتريال 1927، وأني مدلج، هاجرت سنة 1885 وتوفيت في كندا 1947. ومنهن من ولدن بكندا، من قبيل أسما حداد (1909 - 1999)، وهؤلاء تناقلن بعض القصائد الزجلية، التي يهيمن عليها حنينهن إلى بلاد الشام.

 

 في المقابل، لا نجد إصدارات عربية في هذا الخصوص، إلا بعض ما تم تداوله وحفظته ذاكرة الجيل الثالث عن جداتهن، في مثل ما كانت تحفظ بعضًا منه الحفيدة ليديا صيقلي (1915 - 2012).
 وقد بدأ الاهتمام أخيرًا بالكاتبات الكنديات من أصل عربي من طرف باحثات أكاديميات، نذكر من بينهن إيزابيت ذهب، التي جمعت في هذا الباب أنطولوجيا مختصرة.
ظهر جنس الشعر الكندي من أصل عربي متأخرًا بالنسبة إلى الكندي من أصل أوربي، تقول في هذا الصدد الباحثة الأكاديمية من أبناء الغزاة نانسي هيوستن: «هل سألنا السكان الأصليين إذا كانوا متفقين مع مبادئنا، قبل أن نغتصب أراضيهم، لتزهر عليها ثقافتنا نحن بالفرنسية والإنجليزية»؟ 
تجدر الإشارة إلى أن اشتغالي في هذا المقال المقتضب على بعض القطع الشعرية لشاعرات كنديات من أصل عربي، ليس معناه أنني أتفق مع أفكارهن أو أختلف مع تصوراتهن أو أثمن حجم إصداراتهن، بل لأنني أؤمن بالبصمة التي ميّزت شعرهن المنفتح على المكتسبات الإنسانية وعلى التطلعات المستقبلية نحو السلام.

آن ماري ألانزو
 هي كندية من أصل مصري، ولدت في الإسكندرية عام 1951، وتوفيت في مونتريال عام 2005.
 كانت هجرتها اضطرارية عام 1963، وهي شاعرة وباحثة أكاديمية تكتب باللغة الفرنسية. رحلت من ميناء الإسكندرية إلى ميناء هاليفاكس: «اسمع سلطان... ثلوج في كل مكان، من حولنا كثير من الثلوج العظيمة الميتة... إلى هاليفاكس أربعون يومًا الإسكندرية، بيروت، طرابلس... القدس... بيت لحم... نابولي... روما... مرسيليا... جبل طارق... المحيط الأطلسي...».
«... تقولين إذا كنت مضطرة للبقاء طويلًا في هذا المستشفى، فإنني أحب أن أرى الإسكندرية».
  يذكر أن د. فريدة النقاش لم تدرج اسم آن ماري ضمن شاعرات الإسكندرية، فهل معناه أن الكتابة باللغة الفرنسية وبحروف لاتينية، تفقد الشاعرة الانتماء إلى مدينتها؟ يبقى السؤال مفتوحًا، مع أن هذه الشاعرة يسكن جسدها في مونتريال وقلبها بالإسكندرية.

منى لطيف غطاس
 كندية لبنانية الجذور ومصرية الهوى، ولدت بالقاهرة 1946، وهاجرت سنة 1966، تحت ظروف سياسية صعبة؛ إذ كانت هجرتها اضطرارية، وهي باحثة أكاديمية، تكتب باللغة الفرنسية.
تحكي في قصيدتها الرائعة «مرثية مصر لأم الصمت»، في ديوانها «جمال العالم الحزين» عن موت جدتها في مصر. وتشكّل القصيدة لوحتين: الاضطراب والاطمئنان، بما هي لوحة للجدة الميتة التي ترقد مطمئنة تحت تراب مصر، ولوحة الحفيدة الحية التي تهبط مضطربة داخل ثلوج كندا:
«الرمل ينام على آثار مصر... عنك أريد أن أتكلم في الصمت... سأوصي لك بكل هذا، للنساء الحلي والذهب والياقوت، وللرجال رموز وهمية معلّقة على الجدران».
تشير الشاعرة، في كثير من المقاطع الشعرية، إلى أن الجدة نجت من الموت بالبقاء في تراب مصر، فتصبح الجدة حيّة في الكون قائمة فيه مدى التاريخ لا تزول، تنقلها الشاعرة من الغياب ومستلزماته العدمية إلى الحضور ومستلزماته الكونية، الماثلة في البقاء الترابي. لذا فإن الجدة حاضرة في حياة الطيور التي تغذت من جسدها الساكن في تراب مصر.
رحلت الجدة إلى عالم الصمت وهي تودّع رمال مصر الذهبية، وتركت الحفيدة تغوص في أعماق الذات الأنثوية لتفصح عن صوت أنثوي جديد، تلغي صمت قرون مضت من حياة كل نساء العالم، وبهذا تكون رحلة الجدة رحلة جسدية، ورحلة الشاعرة رحلة رمزية، إن لم تستطع أن تودعها في مصر، فإنها ستتكلم عنها في كندا.

رلى الجردي
 كندية من أصل لبناني، هاجرت إلى كندا سنة 2004، روائية وشاعرة وباحثة أكاديمية، تكتب باللغة العربية.
تقوم المقاطع الشعرية في قصيدتها «ناطحة كشجرة الكرز»، من ديوانها الشعري «كليلى أو كالمدن الخمس»، على التعارض الحاصل بين غائب / حاضر، ظاهر/ باطن، كون/ عدم، وتغدو الكتابة الشعرية هنا عبارة عن فرار من العدم إلى الكون، بمثل ما تغدو للعدم ألفاظ تدل عليه في القصيدة الغائبة: - لا جسد - لا إخراج - لا ذوق - توعد - جلد - وشاية... إلخ. أما ألفاظ الكون، فهي المتناثرة في القصيدة إلا ما كان منها ذو معنى سلبي، لذلك تقوم في القصيدة مقابلة تخترقها بين الكوني والعدمي: يبدو الكوني في: التحلق - الجسد - الكرزة - المذاق - الرؤية... إلخ، أما العدمي، فهو: التوعد - الوشاية - الجلد.
من الحرام إلى الحلال: حرية الجسد الذي يرمز له التحلق، وحرية الذوق وحرية الغناء وحرية الحركة في المكان «جذع شجرة»، وحرية المشاهدة «لوحات بيكاسو». كلها حريات كانت حرامًا فصارت حلالًا. هنا تتحرر الحرية من التحريم، وتصبح هي موضوع الحرمان المفارق، وإذا كان العدم يتوسط الحرمان ليظهر في صور مختلفة، فإن الكون يتوسط الحرية.
تقدم لنا الشاعرة في القصيدة تسلسلًا من الوسائط الكونية: الكسل المدهش، الدخول بين العيون المتشابكة بلا تردد، انغلاق الجلد على الجلد... إلخ. يشكّل كل ذلك أحوالًا ومظاهر للحرية الوجودية، التي تستقبل الشاعرة وتخلّصها من إحساس العدم، وترفعها إلى الإحساس بالكون وبلذّة الكون، وتجعلها تتطابق مع حقيقتها - الكائنية - أي الكينونية.

سوزان سامي جميل
 كندية من أصل عراقي، شاعرة وناقدة وقاصة ومترجمة، تكتب باللغتين العربية والإنجليزية، هاجرت إلى كندا سنة 1999.
ونورد، هنا، مقطوعة شعرية مقتطفة من ديوانها «بيزار»:
  أنت الواحد الذي هو أنا
يقولون إني أحبك    
لا!، بل أنا أحبّ نفسي 
بي حاجة للفرح 
لن أبوح بها
حين الشوق يشتعل احمرارا
يصير رفاقي: طيفك والشعر والقمر
تبدو هذه المقطوعة الشعرية عبارة عن لمعة صوفية من إيحاء «روحه روحي وروحي روحه» (الحلاج).
 أنت = أنا
أنت + أنا = واحد 
وهنا، يستحسن متابعة رسم الحروف، دون قراءة الألفاظ في دلالتها، مع البحث عن الأبعاد الثاوية خلف الفكرة المرسلة، لمسك الخيط الناظم الذي يجمع الحروف، وكشف جمالية الإبداع المقدس في لمعته الصوفية، للوصول إلى المضمون المؤسس، ورصد حالة الشاعرة النفسية والوجدانية المشكلة في علاقتها بـ «أنت، أنا»، وانتقالها من المعنى الصريح «أنت» إلى المضمر «أنا»، بغاية القبض على الخيط الرقيق الزئبقي الذي يكاد لا يظهر، وإذا ظهر ينفلت بسرعة، ونحن نقرأ القطع الشعرية بلمعة صوفية  «الحلاج» - روحه روحي، لرؤية الصورة الشعرية، ولخلق النص الشعري من جديد.
ولا يحصل ذلك إلّا مع تدريب الذائقة الأدبية على السرعة التي تناسب المزاج «الفيسبوكي» في الميل إلى الاختصار والإيجاز الذي يناسب أدب ما بعد الحداثة عند الشاعرة سوزان، التي تلعب بمضامين مشفّرة يتم توظيفها داخل اللفظ المعجمي المختار - أنت أنا. والشاعرة هنا تكتب انطلاقا من حصيلة ثقافة كونية واسعة، وتجيد تركيب التمفصلات بين الألفاظ المنظمة للبناء في كونية الواحد: أنا + أنت.
تبدأ بالبوح المضمر «واحد» لتفضي بنا إلى الصريح «القمر»، وتعني به الرجل الذي يحبّ الدلال أكثر من المرأة، والقمر هنا يرمز إلى الوحدة الكونية والدعوة إلى السلام ■