الأدب الروائي الصيني إطلالة عن قُرب

الأدب الروائي الصيني إطلالة عن قُرب

«أعمال تمزج بين الهلوسة الواقعية والحكايات الشعبية والتاريخ والمعاصرة»... بهذه العبارة لخّصت لجنة نوبل للآداب رؤيتها لروايات غوان موييه، وهي تمنحه الجائزة الأدبية الكبرى عام 2012 عن روايته «الذُّرة الحمراء الرفيعة»، التي ترصد الكثير من التفاصيل اليومية للمجتمع الزراعي الصيني أثناء الاحتلال الياباني للصين.
وبالاقتراب أكثر مما ينتجه حكّاؤو بلاد التنين، نجد أننا بصدد السياحة في عالمٍ لا نهائي الصور والابتكارات والموضوعات والاتجاهات، إلّا أننا نمسك بعاملين مشتركين يومضان بداخل أغلب الأعمال الروائية الصينية المعاصرة، هذان العاملان هما الصدى الكلاسيكي، ومأزق الحياة المعاصرة.

 

يتمثّل العامل الأول في حضور الأعمال الكلاسيكية الكبيرة عبر الاستشهادات أو الإشارات، أو حتى الاقتباسات التي تصل أحيانًا حدّ التناص في استخدام الألفاظ والشخصيات، وفي هذا العامل تحديدًا تحضر بقوة: التحف الأربع، وهذا المصطلح يُشار به هنا إلى أهم الأعمال الكلاسيكية الصينية المتمثلة في أربعة أعمال هي:
«رجال المستنقعات» للكاتب شي ناي آن، والتي رصدت الحياة في عهد أسرة سونغ، حيث تحكي سيرة ثلّة من المتمردين عسكروا عند قمة جبل ليانغ، وتصعلكوا كما فعل الصعاليك العرب تمامًا؛ إذ أسسوا جيشًا لمقاومة الظلم، ومساعدة المحتاجين.
والتحفة الثانية «الرحلة إلى الغرب» للكاتب وو تشنغ آن، وفيها يصف رحلة حج دراماتيكية من الصين إلى الهند قام بها الكاهن آنغ برفقة طلابه، وطلابه هؤلاء ليسوا سوى قردٍ وخنزير، حتى أن هذه الرواية قد ترجمت تحت عناوين عديدة أشهرها «الملك القرد».
وتأتي ثالثةً رائعة «حلم الغرفة الحمراء» لساو تشين، التي تعد معزوفة متفردة من حيث كونها فعلًا موسوعيًا بالغ الوفرة في تتبّعه لتفاصيل الحياة وفي كثرة شخصياته أيضًا، وتناوله الفريد والعميق للمرأة من حيث عالم المشاعر الخاص بها، وتطلعاتها للحب والتقدير، ورغم أن الكاتب رحل قبل إتمامه الرواية، فإنها تعد تراثًا روائيًا عظيمًا.
التحفة الرابعة «رومانسية الممالك الثلاث» التي كتبها لو تسونج، وترصد، بأسلوب حكائي مفرط في التفاصيل، نهاية حكم سلالة الهان الشهيرة، حيث تتناول بقالب درامي رومانسي حياة الأرستقراطيين والأتباع، وهذه الرواية تحديدًا يعتبرها الصينيون المعادل الموضوعي الصيني لتراث شكسبير.
أما فيما يتعلق بالعامل الثاني المتمثّل في مأزق الحياة المعاصرة فيمكنك ملاحظة أن أغلب الأعمال الروائية هنا تحرص على إظهار شيء من المأزق الحقيقي الذي يعيشه الكائن الإنساني في حقبتنا الحالية «حقبة شرائح السيليكون»، فتظهر بجلاء أو على استحياء إيحاءات أن الحياة المعاصرة تخفي خلف الصخب الظاهري، واقعًا هشًا إلى درجة مرعبة، وقد أثبت عام 2020 وما بعده صدق هذه النبوءة الرواياتية؛ إذ رأينا كم أن كلّ هذا الصخب واهن بما يكفي ليتمكّن فيروس صغير من اعتقال البشرية جمعاء.

روايات الداخل والمنفى 
وإذا أردنا تناول الرواية الصينية بمستوى أعمق قليلًا من المستوى العام، فإنّ ثمة تقسيمًا لا يمكننا تجاوزه، هذا التقسيم لم أجد له أي ذكر أو إشارة - على الأقل في المراجع التي لجأت إليها - إلا أنني أجازف بخلق هذا التقسيم الذي أستطيع إثباته إن لزم الأمر من خلال الروايات التي اطّلعت عليها بطريقة منهجية، ورغم محدودية هذه الروايات، فإن هذا التقسيم يكاد يكون ظاهرًا بما يكفي، ويتمثل هذا التقسيم في:
- روايات أنتجها كُتّاب المنفى، وهذا النوع من الأعمال تكاد تتلاشى أمامه كل الثوابت، إذ لا تابوهات، ولا أفواه مكمّمة، بل هناك أعمال تضع القارئ أمام بنك من الأسئلة التي تُحاكِم فيه العقل، وتضعه أمام أخيلة وحتى حقائق، لم يكن ليصل إليها لو لم يمرّ بتجربة قراءة مثل هذه الأعمال. 
ويمكننا وضع أعمال غوان موييه ووانغ شياو يو على رأس خالقي هذا النوع من الأعمال، وإذا كنا قد عرفنا غوان من خلال جائزة نوبل، فإنّ وانغ شياو، المتوفى شابًّا عام 2017، لا يزال أكثر الكُتّاب الصينيين تأثيرًا في أوساط الشباب والطلاب حتى اللحظة، وقد علّق أحد القراء الصينيين على منشور كُتب أثناء رثاء وانغ، بعبارة جزلة تستحق تضمينها هنا، إذ كتب:
«إنه خارق للعادة بالفعل! فقد مزج الواقعية بالفانتازيا، والحب بالثورة، والفكاهة بالنقد الساخر، والجنس بالعمل السياسي، والتاريخ بالمعاصرة».
وينظر الجيل الحالي إلى هذا القسم من الإنتاج الروائي بشيء من التقدير، ويرى في كُتّابه نماذج تستحق الاحترام، فيكتب أحدهم تقديمًا لرواية، ويُضمِّن التقديم هذا النص:
«إن هذا النوع من الكُتّاب يشبهنا نحن العامة، لكنّنا لا نشبههم، يشبهوننا لأنهم صعاليك مثلنا، ولا نشبههم لأننا لا نستطيع فلسفة الحياة عبر أعمال عظيمة كما يفعلون».
والقسم الآخر يتمثّل في:
-  روايات أنتجها كُتّاب الداخل، وفي هذا النوع من الأعمال تصل العناية باللفظ والأسلوب حدًا مرتفعًا، ليجد فيها القارئ - ربما - تعويضًا ولو نسبيًا عن انخفاض سقف الحرية المتاح لكتّابها، فتجد الكاتب هنا يبني الرواية بدقّة نسّاج، وبأصابع عازف، ويطارد التفاصيل ويلجأ إلى الاستعارات والكنايات المفتوحة التأويل، حتى يهرب عبر أحد هذه المخارج إذا اضطر إلى ذلك.
وفي القِسمين يمكنك ملاحظة متلازمة «القص والقنص»، التي تعتبر عبارة نقدية مستهلكة هنا، لكنّها تلخِّص فعلًا السرد القصصي اللذيذ حدّ شعورك بنشوة حبكاته ودقّة تفاصيله، واقتناصه للحظة المناسبة تمامًا للتصريح أو التلميح أو الإسهاب أو الانعطاف.

أساليب ثورية
وكأحد أهم الأساليب الثورية، تعمل الرواية على كنس الكثير من المفاهيم التي يثور عليها الكاتب، لنقرأ هذا المقطع الذي ضمّنه يانغ رونغ ضمن رائعته «رمز الذئب» التي تعدّ عملًا ينتقد بحدّة وذكاء ما أقدمت عليه السلطات الصينية منذ الثورة الثقافية وحتى اللحظة، ففي هذا النص يمكننا ملاحظة كمّ التساؤلات التي يطرحها يانغ على لسان الحكيم العجوز بلغي: 
«صمت بلغي لوهلة، لكنه لم يعد قادرًا على أن يسيطر على غضبه، ينبغي لك ألّا تفعل ذلك حتى وإن صدر لك الأمر من الفيلق».
يرتفع صوته أكثر ليتساءل:
«ما الذي سيستخدمه الرعاة لصنع المواد الجلدية إذا قتلتم جميع حيوانات المرموط؟ من الذي سيكون مسؤولًا إذا انقطع سير عنان حصان شخص ما؛ مما يؤدي إلى فزع الحصان وجرح راكبه؟ 
أنتم تخربون عملية الإنتاج ولا تصلحونها كما تدّعون». هكذا يختبئ الكاتب خلف شخصياته، لينتقد وضعًا قائمًا، ويعلن عن رأي مخالف لما تراه السلطة.
وهنا يمكننا قراءة مقطع من رواية حب الجبل العاري للكاتبة وانغ آن لي، على لسان إحدى شخصيات الرواية «فتاة تبيع الفواكه المجففة».
«ما بهم الأباطرة أيضًا؟ أليسوا بشرًا مثلنا؟ 
ما الفرق بيننا وبينهم؟ سيموتون كما نموت، الامبراطور يمرض كما نمرض نحن أيضًا، الإمبراطور يضعف أمام المرأة كما يفعل الفقير وأكثر، ألم تتلاعب محظية بسيطة بإمبراطور أسرة تانغ حتى كاد يفقد دولته؟ 
جميعنا متشابهون، وأكثر من ذلك يمكنني أن أفشي لكم سرًا: 
إنني أحتقر الأرستقراطيين بالوراثة؛ لأنني أشعر أنهم مجرد أشخاص عاديين عديمي المسؤولية، تمامًا مثل الديك الذي تعلّم الصياح للتوّ، فيما ريش ذيله لم يكتمل بعد.
أنظر باحترام وحب لأولئك الرجال الكبار اللذين عاشوا عمرًا، وعلى وجوههم التجاعيد، لأنهم قد مرّوا بالكثير من المتاعب، وتحمّلوا المعاناة، هذا هو الشيء الذي يشبه الرجال، إني أراهم في زيٍ أنيقٍ جدًا».
في هذا المقطع من كلام فتاة الرواية، يمكننا ملاحظة كمّ الرسائل التي أرادت الروائية أن توصلها للقارئ ومن ورائه المجتمع.
 
أفلمة الرواية الصينية 
اقترابنا من الرواية الصينية جعلنا نستنتج أمرًا آخر، هذا الأمر يتمثّل في أن الترجمة قد خذلت الرواية الصينية، وقد يتمثّل السبب الرئيسي لهذا الخذلان في صعوبة اللغة الصينية بشكل عام، وصعوبة اللغة الصينية الأدبية خصوصًا، إلّا أن ثمّة منفذًا باتت الرواية الصينية تتنفس عَبْره وتطلّ منه على العالم، تمثّل هذا المنفذ في مشروع أفلمة الروايات الصينية، إذ وفّرت الثورة السينمائية الحالية في الصين الكثير من متطلبات إحياء الروايات عبر أفلمتها، وهنا تجدر الإشارة إلى أن قرية صغيرة تدعى هنغديان، يمكننا أن نعتبرها «هوليوود الشرق»؛ لغزارة إنتاجها فيما يتعلّق بتحويل الكثير من الروايات إلى أفلام.
وبالقليل من الجهد، يمكننا ملاحظة كيف أن السينما الصينية، إضافة إلى غزارة إنتاجها، قد تحولت إلى صائدة جوائز على المستوى العالمي خلال العقد الأخير، وهذا يدل على أن ثمّة احترافية مواكبة للغزارة الإنتاجية أيضًا.
لقد كشفت لنا إطلالتنا هذه على الرواية الصينية أيضًا كم أنّ أدبنا العربي بحاجة إلى الاتجاه شرقًا، هذا الاحتياج المُلِحّ لا يمكن للجهود الفردية أن تقوم به، لكن يلزمه جهوداً مؤسسية تؤمن بأن الاقتراب أكثر من الأدب الصيني سيسهم في ثراء أدبنا العربي، ويوفّر مساحة أكثر ثراءً للإنسان العربي ككل ■