التحول بين كافكا وتشيخوف قراءة في مجموعة «مأساة غريغوريو» القصصية

التحول بين كافكا وتشيخوف قراءة في مجموعة «مأساة غريغوريو» القصصية

صدر عن دار سليكي أخوين مجموعة قصصية مترجمة للكاتب المغربي محمد بوزيدان، وقد ضمت أعمالًا قصصية لكتاب كبار من ثقافات مختلفة، نذكر منهم: فرانز كافكا من تشيكوسلوفاكيا، وغابرييل جارسيا ماركيز من كولومبيا، وآنا ماريا ماتوتي من إسبانيا، وأوسكار وايلد، وخوليو رامون ريبيرو من البيرو، وخورخي بورخيس من الأرجنتين، وأنطوان تشيخوف من روسيا، وخوان رولفو من المكسيك، وخوليو كورتاثار من الأرجنتين.
وقبل إبداء ملاحظات حول هذا العمل الترجمي، لا بدّ من وقفة قصيرة عند تاريخ الترجمة العربية ومساراتها الكبرى. فقد مرّت هذه الترجمة بمرحلتين أساسيتين. تبدأ الأولى مع خالد بن يزيد بن معاوية، ومن بعده ابن المقفع، لكنّها ستتخذ طابعًا مؤسساتيًا بعد تأسيس بيت الحكمة في زمن الخليفة المأمون، الذي اهتم أساسًا بترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية، إمّا عبر اللغة السريانية، أو مباشرة من اليونانية.

 

إن كان المجال لا يسمح بالحديث عن السياقات والدوافع التي عجلت بتأسيس هذه المؤسسة الترجمية، إلّا أن الأساسي في تاريخ الترجمة العربية، هو أن نجاحها كان مرتبطًا بمشروع ثقافي عام دافعت عنه أعلى سلطة سياسية في البلد، هي مؤسسة الخلافة.
وسوف تفقد هذه الشعلة لمعانها مباشرة بعد موت المأمون، وستدخل مرحلة الاحتضار، خاصة في عصر الانحطاط. لكنّها ستعرف انتعاشة قوية في بداية عصر النهضة العربية الحديثة، حيث بدأ عدد من النقَلَة والمترجمين في نقل كتب الطب والهندسة والعلوم العسكرية، وكان لمدرسة الألسن التي يديرها الشيخ رفاعة الطهطاوي الدور الحاسم في هذه النهضة.
وقد انتبه الطهطاوي، في مرحلة لاحقة، إلى أهمية ترجمة العلوم الاجتماعية والإنسانية والإبداعات الأدبية، فغامر بترجمة الدستور الفرنسي إلى «العربية»، وهو ما كان سببًا في توتّر علاقاته مع السلطة السياسية، ونفيه إلى السودان، حيث ترجم هناك أول رواية إلى العربية هي «مغامرات تيلماك».
في الفترة نفسها تقريبًا، سيقوم عدد من المترجمين في الشام، وخاصة من المسيحيين العرب، بترجمة عدد من الأعمال الأدبية الغربية، نذكر منهم مارون النقاش، الذي ترجم بعض الأعمال المسرحية الغربية إلى «العربية»، وأنطوان الجميل، الذي ترجم عددًا من الآثار الأدبية الأوربية ونشرها في مجلة الزهور التي كان يديرها، وصديق شيبوب الذي ترجم ولخّص عددًا من الأعمال الأدبية الأوربية، ونشرها في جريدة البصير والرسالة.

جيل جديد من المترجمين
أما في مصر، فقد عكف العقاد على التعريف بفلاسفة الغرب وأدبائه، في «ساعات بين الكتب»، كما ترجم عددًا من الأعمال المسرحية والروائية الفرنسية، ومنها: «في سبيل التاج» لفرانسوا كوبييه، و«ماجدولين» لشاتوبريان، و«الشاعر» لإدموند روستان، و«بول وفرجيني» لبرناندين دي سان بيير.
وقد كان المنفلوطي يتصرّف في أجناس النصوص ومضامينها، لكنّه ترجمها بلغة تحترم خصائص العربية التعبيرية وأساليبها البيانية.
بعد الحرب الثانية سيظهر جيل جديد من المترجمين يتخصصون في نقل الآداب الغربية وترجمتها، كما سينوّعون من فضاءاته الجغرافية، نذكر على سبيل المثال صالح علماني، الذي تخصص في ترجمة الأدب الإسباني، خاصة أدب أمريكا الجنوبية، وسامي الدروبي الذي تخصص في ترجمة الأدب الروسي، ومنير البعلبكي في الأدب الفرنسي، وأحمد الصمعي، الذي تخصص في ترجمة الأدب الإيطالي، خاصة أعمال أمبيرتو إيكو.
كما ستنتشر عملية الترجمة لتشمل فضاءات أخرى خاصة الأعمال الأدبية لدول أوربا الشرقية والصين واليابان وبعض الدول الإفريقية. لقد قدّمت الترجمة خدمات جليلة إلى اللغة العربية، إذ ساهمت في إغناء اللغة العربية بمفردات جديدة ومصطلحات علمية وفلسفية وثقافية، ومبادئ اجتماعية وسياسية واقتصادية، كما أغنتها ببعض أساليب اللغات المترجم عنها، ومناهج تعبيرها، وطرق استدلالها.
كما اقتبست كثيرًا من أخيلتها وصورها وحكمها وأمثالها وعباراتها المسكوكة، وعرّفت القارئ العربي بثقافات وعادات وهويات الكثير من الشعوب الأخرى، وفتحته على آفاق إنسانية أرحب، وأطلعته على الكثير من تقنيات الكتابة الأدبية، سواء في مجال الشعر أو في السرد أو غيرهما.
لكنها مع ذلك، لم تخلُ من بعض المساوئ، إذ كثيرًا ما تخون الترجمات النصوص الأصلية، إما خيانة اختيارية، أو خيانة اضطرارية، راجعة إلى اختلاف الأنساق، ورؤية كل لغة للعالم، وتقطيعه بحسب مقاسها الخاص. كما تعجز أحيانًا في نقل ظلال النص ومعانيه الحافة، وروح ثقافته، بل تؤدي أحيانًا إلى إرهاق بُنى العربية، وخصائصها الصرفية والتركيبية، وطرقها في القول، وإفقادها جزالتها اللفظية، ومتانتها التركيبية، وخصائصها الأسلوبية، نتيجة الاعتماد على الترجمة الحرفية.

مميزات «مأساة غريغوريو»
بعد هذا التمهيد، ننتقل إلى الحديث عن مميزات مجموعة مأساة غريغوريو القصصية، حيث يمكن تحديدها فيما يلي:
أ- إن أغلب النصوص المترجمة في هذا العمل، قد سبق ترجمتها إلى العربية، حيث ترجم نص فرانز كافكا Die Verwandlung عددٌ كبير من المترجمين تحت عناوين مختلفة، فترجمه إبراهيم وطفي
بـ «الانمساخ»، وترجمة مبارك وساط بـ «التحول»، وترجمه منير البعلبكي بـ «المسخ».
ومع ذلك، فإن هذا الأمر لا يطعن البتّة في قيمة هذه الترجمة، بل إن التعدد في الترجمات مطلوب، كما يقول الفيلسوف طه عبدالرحمان، لأنّ كل ترجمة هي استنهاض لإمكانات النص الدلالية والتداولية والتأويلية والجمالية.
ب- يلاحظ في هذا العمل، أن كل النصوص مترجمة مباشرة من اللغة الإسبانية، مع أنّ هناك نصوصًا كُتبت بلغات أخرى، كنصوص فرانز كافكا التي كتبت بالألمانية، ونصوص أنطوان تشيخوف التي كتبت باللغة الروسية، ونصوص أوسكار وايلد التي كتبها باللغة الإنجليزية.
وقد يضعنا هذا الأمر في موقف شبيه بموقف شاعر أفلاطون الذي يجد نفسه بعيدًا عن الأصل بدرجات، مادام يحاكي عالم الواقع الذي هو نسخة باهتة من عالم المثل. لكن ما يشفع لمترجم هذه النصوص، هو جودة الترجمة الإسبانية، وصيتها العالمي في مجالها.
ج- من الملاحظات المهمة في المجموعة هو تنويع اختياراتها للنصوص المترجمة، حيث تتوزع بين المدرسة الروسية المعروفة بعمقها في التحليل النفسي، والاهتمام بالواقع البسيط، كما نجد في أعمال غوغول ودوستيوفسكي وتولستوي.
والمدرسة الألمانية المعروفة بنزوعها الفلسفي الوجودي العبثي، والمدرسة الأمريكية الجنوبية الموسومة بواقعيّتها السحرية، التي قامت ضدًا على النزعات العقلية الأوربية، واهتمت بكل ما هو سحري وغرائبي وعجائبي، وأدمجت الخطاب الشعبي والثقافات الشعبية الأمريكية الجنوبية مع إغراقها في التفاصيل، وتخلّصها من مفهوم البطل، ومزاوجتها بين الحلم والسحر والتخييل والأسطورة والعوالم الخارقة... كما نجد في أعمال غابرييل ماركيز وماريو يوسا وباولو كويلو وإيزابيلا اللندي وبورخيس.

التحول بين كافكا وتشيخوف
سنقف في هذه المقالة عند نصيين أساسين في المجموعة، هما نص «مأساة غريغوريو» لكافكا، ونص «الرهان» لتشيخوف، لاعتبارات مختلفة.
وقد جاء اهتمامنا بقصة كافكا لأسباب منها:
أ- أنها أول قصة تصادفنا في المجموعة، إضافة إلى أنها أطول القصص، وتشغل حوالي نصف الكتاب.
ب- أهمية هذا العمل من الناحية الفنية والأدبية.
 أما اهتمامنا بقصة تشيخوف المعنونة
بـ «الرهان» فللاعتبارات الآتية:
أ- آخر قصة في المجموعة المترجمة.
ب- تحمل في بنائها السردي تحولًا موضوعيًا، لكنّه تحوّل مخالف لتحول شخصية غريغوريو. إنه تحوّل نحو الإنسانية في أصلها النبيل وهي تحتفي بالأدب والمعرفة والقراءة.

مأساة غريغوريو أو المسخ الإنساني
لقد وصلتنا أغلب أعمال كافكا عن طريق صديقه ماكس برود، الذي نشر أعماله بعد وفاته. أمّا بقية الأعمال فقد كان كافكا يحرقها بعد الانتهاء منها، كما يذكر ذلك في «رسالة إلى الوالد».
 لكنّ الخيط الناظم الذي يجمع أعمال كافكا، هو انتمائها إلى ما يسمى بـ «الأدب العبثي». وهذا واضح في رواية المحاكمة والقلعة وقصة التحول، إذ تصور كل هذه الأعمال الحياة عبارة عن رحلة نحو العدم والمجهول واللامعنى والعبث.
والمسخ رواية تعبّر عن قلق الإنسان الدائم، وشعوره بالاغتراب عن ذاته أولًا، وعن أسرته والعالم ثانيًا. إنه الكاتب الذي سلّم نفسه، على حد تعبير أحد المتخصصين في أدب كافكا، لكل القوى القادرة على تدمير الإنسان، من دون أية محاولة لإيقافها أو إعاقة طريقها بالوعي. فالذات الإنسانية في نصوصه محتقرة، وغير ذات معنى، ولم ترتقِ إلى مرحلة الإنسانية. ولكي تصل إلى هذه المرحلة يجب أن تخوض رحلة مخيفة، ليس من أجل استعادة وعيها، بل للدخول في مزيد من الكوابيس والفظائع.
لكن خصوصية «المسخ» لا تكمن في رؤيتها الفلسفية، التي يمكن أن يختلف معها الكثيرون، وإنما تكمن أساسًا في خصائصها الفنية والجمالية.

وحدة الحدث
ما تنبغي الإشارة إليه هو أن كافكا أعاد في «مأساة غريوغريو» إرباك الوضع الذي كانت القصة القصيرة قد استقرت عليه في أوربا، وشيدت أسوارها المنيعة، وهو ما جعل النقاد يختلفون في تصنيف جنسها، بين فئة تدرجها ضمن جنس الرواية، وفئة أخرى تدرجها ضمن جنس القصة القصيرة.
لقد حافظت القصة على وحدة الحدث (حدث المسخ) والزمان (بضعة أشهر) والمكان (بيت عائلة سامسا - غرفة غريغوريو) ومحدودية الشخصيات (غريغوريو - الأب - الأم - الأخت - الخادمتان - الرجال الثلاثة - المدير)، لكنّ دفقها السردي طويل نسبيًا، وهو يرجع أساسًا إلى الحوارات الداخلية (المونولوج) التي تقيمها الشخصية المركزية في القصة، وإلى المقاطع الوصفية الكثيرة والدقيقة أحيانًا، وإلى السرد الرجعي الذي يستحضر حياة غريغوريو المهنية، والعلاقات الاجتماعية: هكذا اشتغل بحماس كبير حتى استطاع أن يرتقي في عمله بسرعة كبيرة من مستخدم بسيط إلى مندوب تجاري كثير السفر يجني المال الوفير.
تقوم الحبكة في الرواية على عنصر المفاجأة، وتحطم الخطاطة السردية التقليدية، حيث يحقق النص ولادته من دون مقدمات، فيدخل بنا إلى عالم المسخ بلا سرد افتتاحي تمهيدي: «استفاق غريغوريو سامسا من حلم مزعج، وجد نفسه فوق فراشه وقد تحوّل إلى حشرة ضخمة» (ص 11).
كما تقوم على السرعة في الدخول بنا إلى عالم المسخ والخوف، فالسارد استطاع أن ينقلنا بسرعة خارقة إلى عالم الانمساخ والألفة به. فبعد صفحات قليلة يتأقلم غريغوريو، ومعه القارئ، مع وضع التحول: غريغوريو يشعر بالحريّة، لديه ليل بكامله لن يزعجه فيه أحد، بدأ يفكر في تنظيم حياته من جديد.

مقاطع وصفية
تتخلل السرد مقاطع وصفية تحتفي بجمالية القبح، إذ يصف السارد مظاهر التحول وبشاعة الحشرة بصورة دقيقة وجميلة: «كان مستلقيًا على ظهره الصلب الذي يشبه صدَفَة سلحفاة، عندما رفع رأسه قليلًا، رأى بطنه المنتفخ مقسومًا إلى أجزاء مقوسة، وقد استقر فوقه الغطاء الذي كاد ينزلق إلى الأرض، أرجله الكثيرة والصغيرة مقارنة مع حجمه، كانت تتحرك بشكل تلقائي تحت أنظاره».
وفي مقطع وصفي آخر يرسم معالم الحشرة: «كان يحتاج إلى ذراعه ويده ليتمكن من الحركة، لكن عوضًا عنهما كانت له أرجل كثيرة تتحرك دون توقف، ولا يستطيع التحكم فيها، إذا أراد ثني إحداهما فلن تكون إلّا الأولى التي تمددت حتى يستند عليها للحركة، لكنّ الأرجل الباقية ستتحرك بحريّة وبعنف مخلّفة آمالًا كبيرة».
تتميز قصة غريغوريو بتعقيل اللامعقول، إذ استطاع السارد أن يدخلنا إلى عالم الغرابة بسلاسة، وأن يقلب تصوّراتنا للأشياء بعض أفعال خطابية سردية قليلة يجد القارئ نفسه وقد استأنس بعالم غريغوريو الجديد ورفع غطاء الغرابة عن واقعه.
إلى جانب هذه الخصائص الفنية يحضر في القصة مجموعة من الأبعاد النفسية التي تتميّز بالخوف والحسرة واليأس والاستسلام للحياة وعبثها. فغريغوريو نموذج للحياة الداخلية المتقلبة والمستسلمة الخانعة التي واجهت واقعها الجديد بتمرّد باهت، واستسلام عميق للحياة، كما تتميّز بمجموعة من الأبعاد الاجتماعية التي تصف العلاقات الإنسانية المغشوشة والسطحية التي يمثّلها موقف الأب الذي سرعان من بدأ يحمل الحقد لابنه، بعد أن فقد الأمل في الاستمرار في مساعدته على دفع ديونه: «... أخذ بيده اليمنى عصا المدير التي تركها فوق الكرسي مع القبعة والمعطف، وباليسرى أمسك جريدة وشرع في تهديد غريغوريو، راكلًا الأرض برجله محدثًا ضجيجًا هائلًا أرغم غريغوريو على التراجع إلى غرفته». وكذا موقف الأخت التي بلغ بها الأمر إلى التصريح برغبتها في التخلص منه: «لذلك أقول إنه يجب أن نتخلّص منه، لقد تعاملنا معه إنسانيًا كي نحتضنه ونهتم به، لا يمكن لأحد أن يعاتبنا بعد ذلك».

نقد صارخ
كما يحمل النص في طيّاته نقدًا صارخًا للحياة المادية القاسية، واستعباد العالم للإنسان، في ظل نظام رأسمالي متوحش. فغريغوريو يعمل لسداد ديون أبيه عند المدير، الذي يتنكّر لكل مجهوداته. «حسنًا، لم أفقد الأمل، بعد أن كان لديّ المال الكافي لأداء ديون والدي لدى صاحب العمل، سأتأخر خمس أو ست سنوات، لكنّي سأحقق ذلك بكل تأكيد».
هكذا تأكل الرأسمالية المتوحشة الإنسان وتحوّله إلى آلة دائخة في دوامة القروض والديون، بل تتنكر لكل فضيلة. ففور تأخر غريغوريو عن العمل، سيحدث تغيّر في موقف المدير: «أتحدث معك باسم أبويك وباسم رئيسك في العمل، أطلب منك فورًا تفسيرًا واضحًا، أنا مندهش! أنا مندهش! كنت دائمًا أقول بأنك رجل منضبط وجديّ، وفجأة أصبحت تصرفاتك غير طبيعية».
وإلى جانب ذلك يحمل النص أفكارًا فلسفية تحتفي بالعدمية والعبثية منهجًا ورؤية، فلا شيء يخضع للمنطق والعقل. فاليوم أنا إنسان، وغدًا أصير حشرة. واليوم أنا موظف وغدًا أصير عاطلًا. اليوم إنسان بكامل كرامتك، وغدًا حشرة تُضرب بالمكانس.
بالإضافة إلى تصوّر فلسفي خاص يرى أن من يعيش خارج النظام يجد نفسه وحيدًا، إنها فلسفة بنيوية لا تؤمن إلا بالأنساق والبنيات. فكل شيء خارج النسق يسحب إلى الهامش والظل. مما يؤشر لتصوّر مغاير لفلسفة كافكا العبثية، يجعلنا نتساءل معه حول موقف فرانز كافكا الفلسفي، أكان إيمانًا بالعبثية أم تحذيرًا منها؟ لهذا، ومع هذا الجو العبثي، لم يخرج رهان قصة «مأساة غريغوريو» عن فلسفة الحداثة وموقفها القائم على القطيعة مع الماضي والعيش في المستقبل، وهو ما صرحت به شخصية الأب مخاطبًا زوجته وابنته: «هيا انسيا الماضي للأبد، واهتما بما هو آتٍ... استلقوا على كراسيهم بشكل مريح وأخذوا يتجاذبون أطراف الحديث حول توقّعاتهم المستقبلية».

نحو مزيد من الإنسانية
يعد أنطوان تشيخوف من أعلام القصة الحديثة، وأحد روّادها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إلى جانب الفرنسي جي دو موباسان. وقد كان يمتح قصصه من مَعين الحياة اليومية، خصوصًا في روسيا القيصرية، مقتبسًا مادته الحكائية من حياة الفلاحين والعمال والحرفيين والأطفال، دون أن يقدّم أحكامًا قيّمة حولها، كما كان يسعى إلى تصوير الانحطاط الروحي في المجتمع الروسي بهذه الفترة، وقد كان أسلوبه يعتمد على التكثيف والرمزية، والتخفف من الحبكة التقليدية الصارمة، إضافة إلى اعتماده على أسلوب المفارقة والتحول، كما هي الحال في قصة «الرهان» التي ضمّنها محمد بوزيدان في هذه المجموعة القصصية المترجمة، لكنّه تحوّل - كما سيظهر من خلال التحليل - مخالفٌ لتحول كافكا، إنه تحوّل نحو الإنسانية الحقيقية في احتفائها بالقراءة والأدب والفكر.
تقوم بنية القصة على سرد رجعي يستذكر من خلاله أحد شخوص القصة «الصراف العجوز» اللامسية التي جمعت عددًا من شخصيات المجتمع الذكية والمثقفة، حيث دار الحوار حول موضوعات مختلفة، منها موضوع الإعدام.
وقد اختلف الحاضرون بين مؤيد لهذه العقوبة وبين معارض لها. سيقدم أحد الحاضرين، وهو محام شاب، رأيه، ويؤكد أفضلية السجن المؤبد على الإعدام، تقديسًا منه للروح البشرية، لكنّ الصراف سيتحداه ويراهنه بمليونين، على أن يبقى في السجن خمس سنوات، سيقبل الشاب التحدي ويزيد في مدة العقوبة لتصل إلى خمس عشرة سنة، تبدأ من اليوم الرابع عشر من نوفمبر 1970، وتنتهي في الساعة واليوم نفسهما من سنة 1985. قرر الصراف أن يضع الشاب في كوخ تابع لمنزل الصراف، على أن يُصرف من الخروج ولقاء الناس وتلقّي الجرائد والرسائل، مقابل السماح له بآلة موسيقية وقراءة الكتب، وكتابة الرسائل، وطلب النبيذ والتدخين.

مراحل من المعاناة
في السجن سيمرُّ الشاب بمراحل من المعاناة والتقلّبات والتحولات. ففي السنة الأولى سيعاني الملل والوحدة، رغم انصرافه إلى كتابة قصاصاته والعزف على البيانو وقراءة الكتب الأدبية والروايات الرومانسية وقصص الخيال العلمي والجريمة والكوميديا.
وفي السنة الثانية سيقبل على قراءة الكتب القديمة واحتساء النبيذ والانهماك في الكتابة. وفي نصف السنة السادسة سيقبل على تعلُّم اللغات والفلسفة والتاريخ. وسيقضي السنة العاشرة كلها في قراءة وتأمُّل الكتاب المقدس.
 أما السنوات الثلاث التالية فسينفقها في قراءة كتب اللاهوت وتاريخ الأديان، بينما سيقضي السنتين الأخيرتين في دراسة العلوم الطبيعية ومؤلفات بيرون وشكسبير، وكتب الكيمياء والطب وقراءة الروايات والفلسفة واللاهوت. مع اقتراب نهاية الموعد، سيحسّ الصراف بالندم على الرهان، خاصة بعد تدهور وضعه المادي، فيقرر قتل الشاب. سيتسلل إلى غرفته خُفية، وقبل أن يخنقه بالوسادة وهو نائم، سيقرأ ورقة وضعها الشاب فوق الطاولة. وهي ورقة تلخّص حالة التحول التي عرفها، حيث سيرفض المال ويقرر الخروج خمس ساعات قبل موعد الاتفاق، لأنّ السنوات التي أنفقها في قراءة وصحبة الكتب ستغيّر نظرته كليًا إلى الحياة.
يقول الشاب في الرسالة: «خلال خمسة عشر عامًا درست بتأنّ الحياة الدنيوية، صحيح أنّني لم أكن أرى بشرًا ولا أرضًا، لكنّني من خلال الكتب شربت النبيذ المعتّق وغنيّت الأغاني، وفي الغابات اصطدت الأيول والخنازير البريّة، وأحببت النساء الجميلات والخفيفات مثل السحاب، اللائي أبدعتهن مخيلة الشعراء، كنّ يزرنني ليلًا ويهمسن في أذني قصصًا عجائبية تتركني ثملًا.

أشياء بائسة
في كتبك تسلقت قمم جبال البروز والجبل الأبيض، ومن هناك رأيت الشمس تشرق في الصباح كما رأيتها في الغروب وهي تصبّ ذهبها الأرجواني فوق السماء والمحيط والجبل، رأيت أيضًا الغابات الخضراء والمروج والوديان والبحيرات والمدائن، سمعت غناء الحوريات وصوت ناي الراعي، لمست أجنحة الشياطين التي تنزل من السماء لتحدثني عن الربّ، من خلال كتبك ارتميت في أعناق سحيقة نحو المعجزات، أحرقت مدنًا واعتنقت أديانًا جديدة وسيطرت على إمبراطوريات كاملة.
منحتني كتبك الحكمة، وبفضلها استطعت أن أحفظ الفكر الإنساني المتراكم عبر قرون طويلة داخل جمجمتي، أعلم أني أذكى منكم جميعًا.
أحتقر كتبك وجميع ملذات العالم والحكمة أيضًا أحتقرها، كل هذه الأشياء بائسة زائلة، شبحية ومضللة كالجنيّة الخرقاء. لا يهم إن كانت تجلب الفخر والجمال، إن كان الموت سيمحوها جميعًا من على وجه الأرض مع الفئران. إن أحفادك والتاريخ وخلود عباقرتك سيتجمدون مع الكرة الأرضية، لقد أصابكم الجنون، لذا فإنّكم تسلكون الطريق الخطأ، تفضّلون الكذب على الحقيقة والقبح على الجمال. ستشعرون بمفاجأة عظيمة إذا اقتضت الظروف أن تثمر أشجار التفاح والـ «أورانج» بدل الفواكه ضفادع وسحليات، أو إذا فاح الورد برائحة حصان عفن، وسأفاجأ بكم إذا فضّلتم الأرض على السماء، إني لا أستطيع فهمكم.
سيحسّ الصراف بازدراء لنفسه في تلك اللحظة، ويقضي ليله بين أحاسيس متضاربة ودموع منهمرة إلى أن يأتيه الحراس ليخبروه بأن السجين قد فرّ.

تحولات حقيقية
هكذا تخترق بنية الرسالة هذا النص القصصي الممتع والغني، لتعلن عن التحولات الحقيقية التي تحدثها القراءة والإدمان على الكتب في نظرة الإنسان إلى الكون والحياة. إن الحياة الحقيقية هي الحياة الذهنية التي تجعل العقل يتهادى في عالم الأفكار التي تشرق فيه كضوء الشمس، ويجعل الخيال يطوف بين أحضان الطبيعة وفي عالَم الجنيات، ويتجوّل بين وديان التاريخ والمستقبل، ويتسلّى بجمال نساء الروايات والقصص والحكايات.
وما يلاحظ أيضًا، موقف السارد من الدين، حيث يجعله مركز العالم ومحوره، فكل قراءات الشاب ستدور في فلك الكتاب المقدس، وهو ما جعله يقضي سنة كاملة في قراءة هذا الكتاب والتأمل فيه. لقد قام النص على بناء مُحكم (بداية - تحوّل - عقدة - حلّ - نهاية) تتخلله أوصاف جميلة ودقيقة، خاصة ذلك الوصف الذي قدّمه السارد للشاب بعد مرور السنوات الخمس عشرة، إضافة إلى حوارات دالّة ومقتضبة، واختراق الرسالة لهذه البنية الخطية، وهي رسالة تفصح عن حجم التحول الذي عرفه الشاب. 
مع الرمزية العالية التي جعلت من نص «الرهان» رسالة إلى العالم التي يمكن تلخيصها في جملة واحدة: «لا سعادة حقيقية إلّا في القراءة والكتابة، وما عدا ذلك فهو مجرّد وهم ورهان خاسر» ■