«كل الشهور يوليو» تاريخ الثورة في ثوب رواية

«كل الشهور يوليو» تاريخ الثورة في ثوب رواية

تنتهي رواية «كل الشهور يوليو» للروائي والإعلامي المصري المتميز إبراهيم عيسى بإسدال الستار على قصة حب من طرف واحد، حمله أحد الضباط الأحرار - وهو الصاغ صلاح سالم - للأميرة فايزة (شقيقة الملك فاروق)، والتي ساعدها صلاح سالم على الخروج من مصر بمجوهراتها الملكية، والذهاب إلى اسطنبول للحاق بزوجها محمد علي رؤوف، صاحب الجنسية التركية، الذي لم يكن حاملاً الجنسية المصرية، وذلك قبل إعلان الجمهورية المصرية بأيام قلائل، ليسدل الستار على نهاية الملكية في مصر، وزوال عصر الأسرة العلوية التي قام ضدها انقلاب الضباط (ثم الحركة، ثم الحركة المباركة، ثم ثورة 23 يوليو 1952)، التي استمرت في حكمها منذ أن اعتلى عرش مصر الوالي الألباني محمد علي عام 1805 وحتى إعلان تحويل مصر إلى جمهورية عام 1953، أي حوالي قرن ونصف القرن.

 

تبدأ الرواية ليلة قيام الحركة أو الثورة في شوارع القاهرة الليلية، بمشهد البكباشي يوسف صديق وهو يطارد سيارة قائده اللواء عبدالرحمن مكي، فيبهت اللواء مكي وهو يرى أشباح ضباطه يوجهون إليه مدافعهم.

مفهوم الوطن
وهكذا نرى شخصيات تاريخية حقيقية وأحداثًا مفصلية في تاريخ مصر المعاصر تحملها رواية إبراهيم عيسى، الذي يؤكد أن «كل شخصيات هذه الرواية حقيقية، وجميع أحداثها تستند إلى عشرات المراجع والمصادر، من مذكرات، ويوميات ووثائق ودراسات وشهادات مسجَّلة، وسجلات رسمية، وكتب ودوريات»، وأعتقد أنه كان من الصعب أن يعمد الروائي إلى ذكر هذه المراجع والمصادر في نهاية روايته، فهو لم يقدم لنا بحثًا تاريخيًا مشفوعًا بمصادره ومراجعه، ولكنه يقدم لنا عملاً روائيًا دسمًا صبّ كل فصوله الستة والثلاثين في 660 صفحة، وكساه لحمًا ودمًا وحكايات وأسرارًا ومواقف وكلمات وانفعالات وتضحيات وحوارات حول الوطن ومفهومه عند كل من ينطق تلك الكلمة الخفيفة على اللسان العميقة المعنى والمقام، فمفهوم الوطن عند اللواء محمد نجيب يختلف عنه عند الملك فاروق، بل يختلف مفهوم الوطن نفسه عند كل ضابط من الضباط الأحرار الذين قاموا بالانقلاب أو الثورة، بل يختلف المعنى عند المواطن نفسه من وقت لآخر.
وعلى الرغم من أن البعض قد يعتقد أن رواية عن ثورة 23 يوليو ستكون رواية جافة أو رواية سياسية عسكرية صعبة، إلا أن أسلوب إبراهيم عيسى وجرأته، وتوظيف الأحداث بطريقة فنية عن طريق استخدام تقنيات روائية متقدمة ومتطورة، مثل المونولوج وتيار الوعي، والرجوع إلى الوراء (فلاش باك) والتقدم إلى الأمام، واستبطان الشخصية أو الدخول في أعماقها ليجعلها تعبر عن الموقف والحدث من وجهة نظرها، إلى جانب الحوار السريع، والوصف المدهش، واللغة المتدفقة، والتضمين واستخدام التناص، وتوظيف المعلومات الثرية، والنكت والأغاني والحكم والطرائف، والتعمق في دراسة تاريخ مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والنفسي والمعماري، بل وتاريخ المنطقة ككل، كل هذا أسهم في خروج الرواية من عالم السياسة والتحركات العسكرية المنضبطة والاجتماعات المتوالية والمتتالية ودخان السجائر في الغرف المغلقة، لتحلق في آفاق المشاعر الإنسانية الرحبة، من حب وكره وغضب وخوف وفرح وتعاسة... إلخ، وعلى سبيل المثال يصف لنا الروائي مشاعر الملك فاروق وهو يغادر مصر والإسكندرية على يخت المحروسة. 
كلنا عرفنا أن الملك غادر مصر على يخت المحروسة في 26 يوليو 1952 متوجهًا إلى منفاه في كابري بإيطاليا، ولكن التغلغل في أعماق نفسية الملك خلال تلك اللحظات الصعبة، وماذا قال لنفسه، وماذا قالت له نفسه، وهو يغادر بلده وقصوره وتاجه وشعبه وحكومته ووزراءه وأملاكه، هو ما استطاع إبراهيم عيسى أن يجسده ويشخصه أمام عيوننا بمشهدية عالية، وكأنه وكأننا نجلس إلى الملك فاروق في تلك اللحظات الرهيبة، ونسمع ما يدور من مونولوج يغوص في أعماق النفس البشرية. كما يصف لنا الكاتب شعور علي ماهر باشا، الذي طالب مجموعة الضباط الأحرار بإعادة تعيينه رئيسًا للحكومة، فور نجاح الانقلاب (الذي كانت نسبة نجاحه لا تزيد على 20 في المئة)، فيستجيب لهم الملك فورًا. إن علي ماهر لم يأمن لهم، وهم لم يأمنوا له، كما لم يأمنوا الأحزاب، وعلى رأسها حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس، الذي كان يعد منافسًا للملك ولهم، بسبب شعبيته الكبيرة، والتي جاءت من خلال سعد زغلول من قبل، ولكن استطاع الساحر مصطفى النحاس أن يكسب قلوب الجماهير بعد وفاة سعد زغلول، فكان يُطلق على الوفد حزب الأمة، وعلى مصطفى النحاس زعيم الأمة، لذا كان لا بد من التخلص من هذا الزعيم المنافس، وكان لا بد من التخلص من الإنجليز أيضًا، عن طريق التقرب من الأمريكان، والاستعداد لحل مشكلة السودان، بالموافقة على إجراء استفتاء على الاستقلال (وهو ما سيحدث بعد ذلك ويستقل السودان عن مصر في مطلع يناير عام 1956).

دور باهت
في المقابل يصف الروائي مشاعر الفرحة والغبطة والسرور التي تعلو وجه اللواء محمد نجيب (الذي منحه الملك فاروق رتبة الفريق بعد نجاح الحركة، كي يأمن مكر الضباط الأحرار الذين مكروا له وطردوه) على الرغم من الدور الباهت الذي شارك به محمد نجيب في أحداث الانقلاب (كان في بيته ينتظر البشارة عن طريق التليفون)، ولأنه كان الأكبر سنًا والأعلى رتبة، فقد تقلّد منصب رئيس أركان الجيش، ثم رئيس مجلس قيادة الثورة، ثم رئيس الحكومة، بعد أن رأى الضباط إبعاد علي ماهر بعد ذلك، وكأن اختيارهم الأول له، كان مجرد قنطرة عبور فقط.
ومن يتعمق في قراءة صفحات الرواية (أو صفحات تاريخ الثورة عمومًا) سيجد أن من كان يحرك أحداثها سواء في العلن أو في الخفاء (وإن كان في الخفاء أكثر من العلن)، هو البكباشي (المقدم) جمال عبدالناصر. فهو الذي يفكر ويخطط ويسهر ويكتب ويوقّع (ثم يوقع محمد نجيب بعده) ويضرب من شاء فيمن شاء إذا أراد، ويداهن، ويهاجم ويرخي الحبل في الوقت الذي يريد ومع من يريد، ويشده أو يلفه على رقبة من يريد عندما يريد، يؤيده في كل خطوة بالنظرة والابتسامة وأحيانًا بالكلمة صديق عمره عبدالحكيم عامر. وتكشف الرواية عن علاقة خاصة جدا بين الصديقين ناصر وعامر، لدرجة أنه كان الضابط الوحيد الذي يناديه بـ«جيمي»، وستظل العلاقة هكذا حتى هزيمة 1967 وهذا خارج زمن الرواية والأحداث، فالرواية توقفت عن البوح، وتوقف الراوي أو إبراهيم عيسى عن الكلام قبيل إعلان الجمهورية.
كان جمال عبدالناصر - رغم خفائه عن العامة والدوائر السياسية، وصمته الأكثر من كلامه - متغلغلاً في كل شيء قبل اندلاع أحداث الحركة، فقد كان عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، وكان يعرف الشيوعيين وتنظيم «حدتو»، وعلى صلة بالسفارتين الإنجليزية والأمريكية، وعلى صلة بضباط آخرين غير ضباط فرقته. ولكنه كان صامتًا في معظم الأحيان، وقد استطاع الروائي أن يتغلغل في نفسية وشعور ولا شعور عبدالناصر وعبدالحكيم أكثر مما رأيناه في أعمال أخرى عنه وعن الثورة، مثل «ناصر 56» لمحفوظ عبدالرحمن، أو «أيام السادات» لأحمد بهجت، أو مسلسل «صديق العمر»، قصة ممدوح الليثي، سيناريو وحوار محمد ناير، وغيرها من الأعمال التي جسّدت شخصية جمال عبدالناصر سواء كانت روائية أو درامية.
ولعل الموقف الذي جسده إبراهيم عيسى في لقاء عبدالناصر مع القيادي الوفدي إبراهيم طلعت في الإسكندرية يشي بكيفية تفكير عبدالناصر وكيفية تصرفاته، وهو الموقف الذي يكشف بجلاء أمام القارئ تغلغل تلك الشخصية فيما وراء الأحداث وأمامها، وأنه هو الذي كان يملك زمام كل شيء، والآخرون مجرد صور أو قطع شطرنج يحركها عبدالناصر بذكاء ومهارة واقتدار، وهذا ما سيفسر بعد ذلك، انقضاض عبدالناصر على محمد نجيب نفسه وإبعاده والانفراد بالحكم، بعد أن كان هو الوحيد الذي ينادي بالديمقراطية، 
وعندما طالب الضباط الأحرار بتطبيق الدكتاتورية، أعلن عبدالناصر رفضه وغضب وانسحب من اجتماعهم، فأرسلوا له عبدالحكيم عامر، وتمت تسوية الأمور فيما بينهم، ليتألق عبدالناصر أكثر، وأنا أعتقد – كقارئ – أن ما فعله جمال عبدالناصر كان مجرد مناورة ليكسب تأييدًا أكبر على مائدة الاجتماعات. وما حدث مع القيادي الوفدي إبراهيم طلعت في الإسكندرية كان يشي بذلك، حيث زاره عبدالناصر، وكان وقت غداء، فعزمه الرجل على صواني الرقاق والبط، وأخذا يتبادلان الحديث حول حل الأحزاب، وكيف أن عبدالناصر قاوم هذا القرار وقال لمضيفه: «أنت لا تتخيل إلى أي حد اعترضت في موضوع حل الأحزاب، لكن فشلت ولم أقدر على عمل حاجة»، فيحملق إبراهيم في وجهه، ثم يخص عينيه بحملقة أعمق وأطول وأغرب ثم همس متمتمًا متلعثمًا:
«لكن الأحزاب لم تحل» (ص624)، وكأنها قنبلة اختبار يفجرها عبدالناصر في بيت مضيفه، ليعرف كيف يفكر هذا القيادي من حزب الوفد في حال وصله خبر حل الأحزاب. ويخبره عبد الناصر - بكل أسف - أن القرار صدر بإجماع الموجودين تقريبًا. وبعد يومين أو ثلاثة سوف يعلنه محمد نجيب. وهكذا يعول عبدالناصر على محمد نجيب كلما أراد أن ينفي عن نفسه أي شك أو تهمة، فينفجر فيه إبراهيم طلعت الذي أدرك أن جمال عبدالناصر هو الذي وراء القرار قائلًا: «والله حرام! حرام عليك»، شخط عبدالناصر بنبرة مستنكرة ونظرة مؤنبة: إيه هو اللي حرام؟ فرد طلعت ببعض التخوف والتحوط وبمسحة من التأدب: «اللي بتعملوه في البلد!.. اللي بتعمله أنت!»، وأكمل: «أنت مسؤول، مسؤول أمام الله وأمام التاريخ، أنت رئيس الحركة، أنت قائد الحركة، أنت كل حاجة، فلا تبرر الخطيئة وتجيب شماعة تعلقها عليها، لا سليمان حافظ (كان وزيرًا للداخلية)، ولا السنهورري (الفقيه الدستوري) ولا زملاؤك، كنت تقدر تقول لأ، ولأ لما تقولها أنت يعني لأ، والكل ساعتها سيقول لأ». هذه هي شخصية جمال عبدالناصر، كما وردت على لسان إبراهيم طلعت، فهو الكل في الكل، أو الكل في واحد، ومحمد نجيب كان مجرد خيال ظل، وألعوبة في يد جمال عبدالناصر. ولم يسلم طلعت من مكائد جمال عبدالناصر بعد العزومة، وبعد «صينية الرقاق وضكر البط»، فيتم اعتقاله، ويسأله الضابط المكلف باعتقاله: «ما الحكاية؟ ألم يكن جمال عبدالناصر يتناول عندكم الغداء من كم يوم؟ كيف يعتقلك؟ فيكتم إبراهيم طلعت غيظه المتفجر، وفيما يشبه الكوميديا السوداء يقول: لازم لم يعجبه البط!».
حفلت الرواية بأسماء الكثيرين من المشاهير في الحياة السياسية والأدبية والفنية والقانونية، مثل فؤاد سراج الدين (الذي اعتقل هو الآخر)، ومثل إحسان عبدالقدوس (صديق الضباط الأحرار، وسيعتقله أيضًا عبدالناصر عام 1954)، ومثل أم كلثوم وكان عبدالناصر مغرمًا بها وبأغانيها وشخصيتها، وقد ذهبتْ إلى مبنى الإذاعة في شارع الشريفين لتحطم أسطوانات أغانيها للملك فاروق، بعد أن أذاعوا بالخطأ أغنية لها عن الملك بعد قيام الثورة، فضلاً عن عبدالرحمن السندي (رئيس التنظيم السري المسلح بجماعة الإخوان المسلمين وزاره عبدالناصر غير مرة)، وحسن الهضييي (مرشد جماعة الإخوان المسلمين الذي زار مبنى قيادة القوات المسلحة مع السندي)، وغيرهم من الشخصيات المؤثرة في المجتمع المصري في تلك الفترة.

سخونة الأحداث
وبالإضافة إلى أحداث جرت في شوارع القاهرة وثكناتها العسكرية، كانت هناك أحداث موازية في الإسكندرية التي احتلت المرتبة التالية للقاهرة في تلك الأحداث، تبدأ من الفصل الثاني، حيث «تهب نسمات بحر الإسكندرية بموجه يتلاطم مع صخور الكورنيش الجرانيتية، حيث تمارس الدنيا لعبتها اليومية المفضلة بين البحر والصخر»، فلا يخفف رطب الهواء من نار جمر مرتضى المراغي (وزير الداخلية)، ولا يبدد دخان غضبه، لنرى كيفية توظيف الطبيعة في الرواية، وسخونة الأحداث التي تعادل سخونة شهر يوليو سواء في القاهرة، أو الأخف سخونة في الإسكندرية.
ونظرًا لطبيعة أحداث الرواية وشخوصها الرسميين من عسكريين وسياسيين وملك وحاشية معظمها من الرجال، فإن المرأة لم يكن لها وجود كبير في خضم الأحداث الكبرى، ومع ذلك فهي موجودة، وتظهر بصورتها الطبيعية، فنجد الملكة ناريمان على سبيل المثال وهي التي رحلت مع الملك إلى منفاه مع وليدها الملك الرضيع أحمد فؤاد (بعد أن تنازل فاروق عن العرش لابنه)، كما سنجد ذكرًا سريعًا للملكة فريدة التي تحدث عنها فاروق، باعتبارها خائنة والتي قام بطلاقها عام 1948، رغم أن هناك مصادر أخرى تقول عكس ذلك (مثل كتب د. لوتس عبدالكريم عن الملكة فريدة)، كما سنجد ذكرًا للأميرات من أخوات الملك (فايزة وفوزية وفايقة وفتحية)، ولكن الدور الأكبر كان للأميرة فايزة التي هربت من مصر عن طريق ضابط الثورة الصاغ صلاح سالم، وذكرًا لبنات الملك من الملكة فريدة، بالإضافة إلى الحديث عن أم الملك فاروق نازلي وسمعتها السيئة التي أفاضت الرواية في ذكرها. وسنجد ذكرًا طيبًا لأم كلثوم، وذكرًا لبعض زوجات الباشاوات، ولتحية عبدالناصر زوجة جمال عبدالناصر، ولكن كلهن لم يكنّ صاحبات قرار مؤثر في أحداث الثورة، لذا لم يمنحهن إبراهيم عيسى أدوارًا كبيرة، عدا الأميرة فايزة التي نجحت في الإيقاع بصلاح سالم، وخرجت من مصر.

عنوان مراوغ
أخيرًا أتوقف عند العنوان المراوغ «كل الشهور يوليو» والذي أراه عنوانًا جذابًا ومحيرًا ومدهشًا وجديدًا، وأفهمه أو أفسره على أن كل الشهور التالية لحركة الضباط الأحرار، هي شهور ساخنة بأحداثها وانقلاباتها وتقلباتها وثوريتها، فكانت معظم القرارات الثورية التي يعلنها جمال عبدالناصر تعلن أثناء خطاباته في ذكرى ثورة يوليو، سواء في القاهرة أو في الإسكندرية، ومنها على سبيل المثال قرار تأميم قناة السويس الذي أعلنه في الإسكندرية يوم 26 يوليو عام 1956 وهكذا تكون «كل الشهور يوليو» ■