مضيق هرمز وحساسيات خليجية - كويتية

مضيق هرمز وحساسيات خليجية - كويتية

لم تتمتع «دبلوماسية المضائق» في علم السياسة الدولية بالحرص الجماعي على وضع قواعد واضحة وملزمة، لتأمين سلامة المضائق وضمان حرية مرور شاحنات البضائع من سفن الدول الصناعية تجاه مختلف بقاع العالم، إلا بعد اتساع حجم التجارة العالمية بين الدول الصناعية ومستعمراتها في آسيا وإفريقيا وجنوب إفريقيا، واشتداد المنافسة في الحصول على المزيد من المستعمرات، والحفاظ على زخم مصالح أوربا فيها، مع طغيان السباق للنفوذ والتفوق في تسيد البحار والتحكم في الممرات المائية التي تربط بين مختلف مواقع الجغرافيا في عالم اليوم. 

 

انتشرت مع انفجار الثورة الفرنسية في 1789 مشاعر الحس الوطني، وزادت حدته، وتعمقت عروق تلك المشاعر في وجدان الشعوب الأوربية، التي كانت تتشكل من كيانات متفرقة، وكانتونات بسلطات محلية تتوارث، تديرها عائلات مرتبطة بالكنيسة، تتعامل مع تقاليد تميز هذه الكيانات عن بعضها. 
كانت بريطانيا أسبق من غيرها في الوقوف على أهمية الترابط البحري بين مناطق العالم، فهي جزيرة تحيط بها المياه، قامت بثورة صناعية منذ بداية القرن الثامن عشر، وكانت بحاجة إلى مواد خام للتصنيع، وإلى أسواق للتصدير وإلى مراسٍ بحرية يسهل تطويعها لخدمة السفن العابرة.
وإذا كانت بريطانيا سباقة في التآلف مع البحر، فإن حكومات أوربية أخرى لابد أن تتابع المسلك البريطاني وترصد حصيلته.
ولم تكن فرنسا غافلة عن حجم الفوائد التي تمكنت بريطانيا من كسبها، فتبنت نهج التوجه نحو الخارج، بينما كانت روسيا القيصرية تتلمس التطور التكنولوجي الذي تشهده كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فاهتم القياصرة بالتخطيط الصناعي بدلًا من المجتمع الزراعي البطيء الذي تعيشه روسيا الواسعة بأعراقها المختلفة ولغاتها المتباينة وثقافاتها المتعارضة. كان القياصرة يعتبرون أنفسهم حكامًا ممثلين للآلهة على أرضها، يحكمون بوحي منها، وينظرون إلى الوجود الإسلامي العثماني في «القسطنطينية» باحتلال المسلمين لعاصمة الديانة «الأرثوذكسية» المسيحية، التي تمكن الخليفة العثماني محمد الفاتح عام 1452 من السيطرة عليها، وحمل القياصرة العزم على استرداد تلك العاصمة وتحريرها مع إعادتها إلى ما كانت عليه. 
ومع هزيمة نابليون في «واترلو» عـام 1814 ودخول قيصر روسيا «ألكسندر» باريس، وما شاهده فيها من تقدم ورخاء نسبي وتبدلات في الصناعة والزراعة بإدخال التكنولوجيا، تفتحت أعين القياصرة على ضرورات الاقتباس، مع اكتشاف أهمية بناء أسطول بحري وحاجة روسيا إلى موانئ بحرية دافئة بدلًا من مياهها المتجمدة دائمًا، والحقيقة أن القياصرة ظلوا أوفياء لأحلام ألكسندر بالتوسع البحري والتصنيع التكنولوجي، وترافقت الاتساعات الروسية البحرية مع اهتمام قيصري رسمي بالوصول إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط واتجاه الأعين إلى مضيق «الدردنيل»، الذي يتحكم في انطلاق الملاحة من البحر الأسود إلى المتوسط ومنهما إلى المحيطات، كما شعرت روسيا بأن أحلامها في استعادة القسطنطينية لن تتحقق طالما الأسطول البحري البريطاني ظل متسيدًا البحار، ويتحكم في توازن القوى ويفسد نوايا القياصرة، ومن هذا الواقع المر بدأ التفكير بين القوى البحرية الكبرى على تنظيم الملاحة في الممرات المائية التي تشكل أجزاء من سيادة الدول. 

معاهدة لندن وتحديات روسيا 
في 13 مارس من عام 1871، وقعت كل من روسيا والدولة العثمانية معاهدة لندن حول وضع البحر الأسود بعد مفاوضات استمرت 57 يومًا، شاركت فيها بريطانيا، فرنسا، الامبراطورية النمساوية، ألمانيا، وإيطاليا... ووافقت المعاهدة على الاعتراف بحق روسيا في وجود أسطول وميناء لصنع السفن في البحر الأسود، لكنها أبقت على حظر مرور السفن الحربية الروسية عبر المضائق، مع أنها أكدت حق مرور السفن الحربية في المضائق لخصوم روسيا. 
لم يقتنع قياصرة روسيا بقيود الاتفاقية فكان السكوت تأجيلًا وليس استسلامًا نهائيًا، ومن المناسب أن أشير إلى أن آخر القياصرة «نيقولا الثاني» الذي حكم روسيا من 1894 إلى 1917، سعى جديًا لبناء مجد شخصي باحتلال المضائق من السلطات العثمانية  - The Bosphorus and the Dardanelles لكنه نال هزيمة كبرى من خلال مواجهته مع الجيش الألماني في عام 1915، وسقوط النظام الذي أسسته عائلة «رومانوف» في عام 1613.
كان حاكم مصر محمد علي باشا ومن تبعه من أبنائه يتابعون مداولات مؤتمر لندن حول مضيق البوسفور، ووقف على دور الأسطول البحري البريطاني في التحكم بخريطة المحيطات والممرات، ولهذا اعترضوا على اقتراح فرنسا شق قناة السويس خوفًا من قبضة لندن على الممرات المائية العالمية، لكن الخديوي إسماعيل وافق على ذلك فيما بعد. 
 لم تنتظر مصر طويلًا، فقد أحكمت بريطانيا قبضتها على مصر عام 1882 للتحكم في قناة السويس، وكذلك احتلت مالطا بعد طرد فرنسا منها، وضمت مضيق جبل طارق في إسبانيا للتحكم في مداخل المتوسط من جهة المحيط الأطلسي، وحاصرت روسيا داخل أراضيها معارضة وصولها إلى المياه الدافئة، كما احتلت عدن عند مدخل البحر الأحمر لتأمين سلامة قناة السويس، وظلت الهيمنة البريطانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، التي كان النصر فيها للشراكة الحربية البريطانية - الأمريكية.
ومن يقرأ اتفاقية «القسطنطينية» عام 1888 حول ترتيبات قناة السويس يقف على حجم نفوذ الدور العالمي في مصير السويس الذي أعطى مصر سيادة شكلية على الممر. 
لكن الأمر الأشد في احتكار القوة ورسم خريطة التواصل البحري جاء في معاهدة باريس لعام 1856، التي وقعت بعد ثلاث سنوات من حرب القرم، واشتركت فيها فرنسا، بريطانيا، الدولة العثمانية، مملكة سردينيا، روسيا، والنمسا، وبروسيا (قبل توحيد ألمانيا)، وتم ذلك بعد قبول روسيا شروط السلام لإنهاء تلك الحرب، حيث أصبح البحر الأسود وفق الاتفاقية، أرضًا حيادية، مغلقًا أمام مرور جميع السفن ومنع بناء التحصينات فيه أو تواجد أسلحة على شواطئه، وتحول البحر الأسود إلى بحر مفتوح للتجارة العالمية، كما منعت السفن الحربية الروسية من التواجد داخله بعد أن تحكم أسطولها قبل ذلك في حركة التجارة بين سواحله بعد أن انتصر على الأسطول العثماني، كما أجبر الحلفاء روسيا على تخليها عن حماية الأقلية المسيحية المتواجدة في أراضي الدولة العثمانية، مع إعلان البحر الأسود منطقة منزوعة السلاح.
هنا نتأمل مدى طغيان بريطانيا وانفرادها بالسيطرة على البحار وعلى الممرات والمواقع المطلة عليها، كل ذلك تأمينًا للوصول إلى الهند، الماسة النادرة في التاج البريطاني، ونقارن هذا الطغيان القاطع والحاسم بتجربتها بعد مرور حوالي سبعين سنة مع تأميم قناة السويس، فلم تكن الفجيعة فقط في فقدان الملوكية السائدة على البحار وإنما في ضياع الحيلة وفقدان التوازن بالاندفاع اللاعقلاني نحو اللجوء إلى القوة العسكرية، رغم أنها خرجت من الحرب العالمية الثانية 1945 منهكة ولم تكن قادرة على الصمود، لولا الدعم المندفع من قبل الولايات المتحدة التي أعلنت ألمانيا الحرب عليها عام 1942، مع سوء إدارتها خلال حملة السويس عام 1956 بمشاركة إسرائيل وفرنسا، ثم انسحابها أمام الضغط الأمريكي المدعوم بالموقف الصلب والمساندة العالمية، ووقوف بريطانيا خلال مداولات مجلس الأمن حول حرب السويس على حجم الاستخفاف بها والتهجم على شهيتها الاستعمارية وأحلامها بالعودة إلى أبهة السيطرة بعد أن تلاشت منها آليات تلك القوة. 
ومع الثمانينيات من القرن الماضي، انفجرت مشاعر الحس الوطني الصاعد باستقلال دول إفريقيا وآسيا، مع انحسار هيبة الأسطول البريطاني واستقلال دول صارت تتحكم بالممرات المائية في مناطق العبور الاستراتيجية، ولم يبق من الماضي سوى جبل طارق، وبروز الاتحاد السوفييتي كعملاق شريك مع الولايات المتحدة في الثنائية القطبية، مع تأكيد حق الاتحاد السوفييتي في حرية المرور عبر البحر الأسود إلى الأبيض، وإلى بقاع العالم، ثم جاء تأميم قناة السويس وخروج النفوذ الأجنبي منها، ومع تداخل المصالح العالمية أصبح للممرات المائية وللمضائق مرجعية قانونية وضعت قواعد ومراسم التعامل مع هذه الممرات، وفق حق الجميع في الاستفادة منها في ممارسة حرية المرور البريء.
ومع خلو العالم من الحروب تنطلق هذه القواعد من القانون الدولي، ومن حكم الهيئات الدولية التي تولدت من الحرب العالمية الثانية، وأبرزها هيئة الأمم المتحدة، وما تملكه من سلطة ردع ضد أي عدوان يهدد الأمن والسلم العالميين. 

بريطانيا والخليج 
لم تأت بريطانيا إلى الخليج بحثًا عن نفط ولا عن أراض استراتيجية واعدة زراعيًا أو صناعيًا أو للحصول على مواد خام معروفة، وإنما أتت لحماية البواخر التي تعبر مياه الخليج، حاملة ما تريده بريطانيا إلى الهند، أشهر الماركات في موضة المستعمرات البريطانية، والعمل على إبعاد تجمعات القراصنة عن هذه البواخر. 
عرفت سواحل الخليج، خاصة الجزء العربي منها بتواجد هذه التجمعات التي تمارس نهب البواخر، سواء بواخر إيرانية أو غيرها، فلم يكن ساحل الخليج، خاصة المنطقة الممتدة من الكويت إلى سواحل دبي ورأس الخيمة، يملك مصادر معيشية للسكان المتواجدين، من هذا الواقع الذي يشبه روايات الإثارة، تواجدت بريطانيا، ليست لحماية مضيق هرمز أو تأمين سلامته، أو صون هوية سكانه، وإنما لوقف القرصنة على بواخرها. 
ولم تشكل حرية المرور في المضائق مادة في الملف البريطاني الخليجي، كما أن الدولة العثمانية الموجودة في العراق لم تهتم ببحر الخليج، لأنها ببساطة لم يكن لها أسطول له قيمة، كما أن إيران تملك سواحل خارج الخليج ممثلة على موانئ بحر العرب. 
كما نجحت بريطانيا في عقد اتفاقيات حماية مع جميع حكام الخليج، هدفها منع الآخرين سواء إيران، أو الدولة العثمانية أو أي طرف ثالث من القدرة على تخريب علاقات التفاهم والانسجام بين بريطانيا وسلاطين أو أمراء سواحل الخليج العربية، وكان آخرها مع الكويت عام 1899، لصد أطماع الدولة العثمانية من ممارسة نفوذ معاد في المنطقة. 
كانت الكويت تعيش على التجارة بينها وبين العراق العثماني، وإيران، وسواحل الجنوب العربي، والهند قبل التقسيم، التي كانت أهم مصدر للتجارة، لاسيما في الأخشاب والمواد الغذائية، والملابس، كما كانت إيران والعراق مصدرًا للفواكه ولمواد البناء وبعض الصناعات البسيطة، كما كان الأسطول البحري الكويتي التجاري الذي يعبر المحيط شرقًا من الهند إلى الغرب على سواحل كينيا وزنجبار ودار السلام، ينقل نوعًا خاصًا من الأخشاب المناسبة لمساكن الكويتيين.
وهكذا كانت الأحوال خلال الفترة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، مع سقوط الدولة العثمانية وإعلان استقلال العراق عام 1920، وإعلان توحيد المملكة عام 1932، وتمتع إمارات الخليج العربية بالاستقلال الداخلي، حيث بدأت فرق البحث الأوربية لاستكشاف المناطق التي يمكن أن تتوافر فيها آبار الطاقة التي انفجرت في الأراضي الإيرانية المحاذية للبصرة، وتحكمت فيها شركة النفط البريطانية وتوسمت خيرًا في الأراضي العربية المجاورة داخل العراق، وفي سواحل الخليج في البحرين والدمام وصحراء الكويت.
كانت العلاقات بين الملك عبدالعزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية 1932 - 1955، وأمير الكويت الشيخ أحمد الجابر 1921-1950، تتميز بالصداقة والمودة، حيث لجأ الملك عبدالعزيز إلى الكويت عام 1892، بعد أن احتل خصمه بن رشيد مدينة الرياض، وظل في الكويت حوالي عشر سنوات.
توطدت العلاقة بين الطرفين، الأمر الذي جعل خبير الطاقة النيوزلندي هولمز Holmes يوسط سلطان نجد عبدالعزيز بن سعود في بداية العشرينيات من القرن الماضي، ليسمح لشركة الخليج الأمريكية، Gulf Oil Company التي يمثلها هذا الخبير، بإجراء المسح في الكويت، بعد أن نجح في كسب ثقة بن سعود، كما نجح في بناء علاقات مع حاكم البحرين الشيخ عيسى آل خليفة.
والمهم أن كياسة سمو أمير الكويت آنذاك الشيخ أحمد الجابر، أوحت له باقتراح عمل مشترك بين الشركة الأمريكية التي تعمل في السعودية وبين الشركة البريطانية، وتخرج من الشراكة شركة تسمى شركة نفط الكويت، وهذا ما تحقق ونجحت الاكتشافات وصدرت الكويت أول شحنة نفط عام 1946 بعد أن تجمدت عمليات التنقيب خلال الحرب العالمية الثانية. 
هذا الواقع الذي لم يأت في حسابات سكان المنطقة ولا في توقعات حكامها، بدل جغرافية الخليج تمامًا، وأخذها من سواحل قرصنة، إلى كنوز الطاقة، ليس في ثرواتها وإنما في حسابات الاستراتيجية الدولية، وحساب أمن الأسرة العالمية، وسكينتها وإدامة استقرارها، فالنفط سلعة نادرة، وبسبب ندرتها أعطت من يملكها ثروة وقوة، وانتقلت هذه المنطقة الجرداء والحارة بلا نبات، والمشمسة بلا أمطار، والحارقة بلا غيوم، والفقيرة في الماء وفي الشجر والمحرومة من محتويات الغذاء، والمقطوعة من الزيارات إلا للضرورات، والمهملة في حسابات السياسة والمجهولة لأفواج السياح المتوافدين، إلى مدن فيها حياة رغد وارتياح، فالخليج لا يغري لا للعيش ولا للزيارة ولا للاستثمار وربما ولا للاستعمار، سوى كونه الممر في الطريق البحري للهند. 
ومع التطور تلاشى الأسطول الكويتي البحري الشراعي، وجاءت مكانه البواخر الحديثة تحمل نفطًا للمتعطشين الصناعيين في أوربا وأمريكا وإلى شرق آسيا، وبواخر أخرى تحمل مواد بناء وغذاء وأثاث وآليات صناعية وحشد من المختصين في تطوير صناعة النفط، وفي تشييد المدن الحديثة، ودخل الخليج في بركان التطور السريع الذي أسدل الستار على حقبة انتهت بكل ما فيها من مرح وبساطة، وتقبل الخليج هذه النقلة الدراماتيكية التي تلاحقت مثل الأمواج ببراعة وتفاهم حول حيثيات الحياة الجديدة وتحولت الإمارات إلى دول في الستينيات والسبعينيات. 
كانت السفن وناقلات النفط تخرج من الخليج محملة وتعود إما فارغة أو تحمل مواد تجارة وضرورات معيشية وصناعة، بدون أزمات، فلم يحدث شيء ما يدفع أبناء المنطقة وحكامها إلى التفكير في بدائل تغنيهم عن مضيق هرمز، لكن هذا الارتياح أطاحت به ثورات عنيفة غير متوقعة في كل من العراق وإيران. في العراق تدخل الجيش العراقي ليقضي على النظام الملكي بكل ما فيه نظامًا وملكًا ووليا للعهد ونساء وأطفال، في مذبحة غير مألوفة في واقع المنطقة. 
وكانت بداية المشاكل مع الحكم العراقي الراديكالي غير المؤهل للحكم، فاستعاض عن العجز بالشعارات وصار العراق الجديد مؤزمًا مع جواره ومع شعبه في استمرار التآمر المتبادل بين الأحزاب بمشاركة ضباط مسيسين أيديولوجيًا. 
وفي إيران بدأت الاهتزازات في الأربعينيات والخمسينيات بإيحاءات من رجال الدين المناوئين لمساعي الشاه نحو الاغتراب القيمي، الاجتماعي والسياسي، منتشيًا بالحياة الأوربية وتقاليدها وقواعد الترابط في مجتمعاتها، واشتعلت عام 1953 ثورة يسارية وطنية أبعدت الشاه لفترة قصيرة وأممت النفط. 
وهنا بدأ المستهلكون للنفط يشعرون ببداية المخاطر التي قد تضر بمصالحهم وبخططهم المستقبلية، ولأول مرة تفرض الدول الغربية حصارًا على تصدير النفط الإيراني عام  1953 وذلك لإفشال الثورة بالمحاصرة مع عمليات تحت الأرض لإسقاط الثورة التي لم تستمر طويلًا رغم شكواها إلى مجلس الأمن الدولي حول الحصار، ولم تأت تلك المحاولة بالنتيجة المأمولة... وعاد الشاه إلى إيران مذعورًا، رأى علاج هذا الذعر في بناء جيش قوي يحمي النظام وصادراته من النفط. ورغم ذلك قامت عام 1979 ثورة شعبية كاسحة ليست من تدخل الجيش، وإنما من جموع الشعب الغاضب. 
وفي العراق تمكن حزب البعث العلماني القومي، من التحكم في مصير العراق بالترغيب والترهيب، وبفضل سياسة التخويف والذعر، تسيد شؤون العراق بمفرده دون شركاء في الحكم، وتبنى أسلوب الغلاظة في التعبير والخشونة في التصرف داخليًا ومع الجوار، سورية، وإيران، والكويت، وإلى حد ما مع المملكة العربية السعودية، كما توترت العلاقات مع إيران لحتمية المواجهة بين نظام إسلامي يتبع إيحاءات دينية في تطلعاته، بحثًا عن نفوذ وبناء دعم شعبي له داخل المجتمعات الخليجية، ونظام قومي عروبي، متطلعًا بخطاب حاد يرسم له موقع القائد العروبي الذي يحمي عروبة الخليج ويصد ممارسات إيران فيها ويتولى المأمورية التاريخية في صون عروبة الخليج. 
بدأت المشاحنات بانفجارات تصاعدت إلى خطة تآمر لقتل وزير خارجية العراق آنذاك نجا منها بمعجزة، كان ذلك في سبتمبر 1980، ومنها اندفع العراق نحو الأراضي الإيرانية معلنًا المواجهة لتطويق المحاولات الإيرانية لإسقاط نظامه في العراق. 
كنت في الأمم المتحدة كمندوب للكويت، وتابعت ردة فعل الوفود والدول الأعضاء، واستغربت تواضع المتابعة داخل الأمم المتحدة لمسار الحرب، التي تمثلت في اجتماع عقده مجلس الأمن، صادق فيه على قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار، بعد أن فشل في إدخال الدعوة للانسحاب، ورفض العراق ذلك القرار، وعارضته إيران بقوة، لأنها تريد دعوة الانسحاب ولجنة تحقيق لتحديد مسؤولية اندلاع الحرب. 
وبعد ذلك استمر الصمت وغياب الاهتمام، فلم تكن سجلات النظامين براقة في الأداء وفي التناغم مع قواعد السلوك المطلوب في المنظمة. 
ظل العراق في السنتين (1981-1982) للحرب واثقًا من قدرته على إضعاف النظام الإيراني تمهيدًا لإسقاطه عبر ثورة جماعية أو عبر الإنهاك، فلم يتجه لضرب المنشآت النفطية الإيرانية في الخليج، ولم يصعد من توغله داخل الأراضي الإيرانية، لكن الإيرانيين أظهروا صبرًا وتحملًا معبرًا عن العزم على إخراج القوات العراقية من أراضي إيران وتحقق ذلك في عام 1984، ومن ذلك التطور دخلت المواجهة إلى حرب شاملة، على كافة الجبهات، برًا وبحرًا وجوًا، بما فيها صواريخ على المدن، وضرب مصادر الدخل ومنابع تصدير النفط، وتلتها موجات الغارات الجوية على موانئ إيران وعلى كل موقع سخّرته إيران للحرب، لكن الأخطر تمكن إيران من احتلال منطقة الفاو العراقية وجزيرة مجنون في عام 1986، واقتراب قوتها من الحدود الكويتية. وفي هذه المحصلة كان لابد من تقوية الجبهة العراقية لتواجه الزحف الإيراني، بدعم خليجي شامل وفي كل المجالات، مع تصعيد عراقي لضرب المصافي الإيرانية وحرمان إيران من تصدير النفط بالتعرض للبواخر الإيرانية. 
ومن هذا الواقع تبنت إيران سياسة حرمان الجميع من التصدير، لاسيما النفط، ولأن الكويت، أكثر التصاقًا بالنظام العراقي جغرافيًا، وأيضًا بسبب حرصها على سلامة النظام الإقليمي بالحدود المعروفة منذ الحرب العالمية الأولى، فقد بدأت إيران برنامج ضرب حاملات النفط الكويتية للإضرار بالكويت. 

حرب الناقلات 
في قمة مجلس التعاون في نوفمبر 1986، اتخذ قادة دول مجلس التعاون قرارًا بتسجيل ناقلات النفط باسم دولة توفر لها الحماية، وتنفيذًا لهذا القرار بدأت الكويت، عبر المرحوم الشيخ صباح الأحمد الجابر، نائب رئيس الوزراء، وزير الخارجية، الاتصالات مع الدول الكبرى لتوفير الحماية، وتم الاتصال بالولايات المتحدة الأمريكية لنقل نفط الكويت على ناقلات أمريكية للاستئجار، أو تسجيل ناقلات كويتية كناقلات أمريكية، ووصل وفد أمريكي إلى الكويت لبحث التفاصيل، كما ذهب وفد من شركة نفط الكويت إلى موسكو في ديسمبر 1986، وهناك تم الاتفاق على أن تؤجر الكويت ناقلات نفط روسية لمدة سنة، وتحقق ذلك بتأجير ثلاث ناقلات روسية هي (مارشال تشويكوف، مارشال باجرمان، ومارشال مايكوب).
في شهر مايو وجه الرئيس الأمريكي ريجان خطابًا إلى الشعب الأمريكي أشار فيه إلى أنه لن يسمح لخطوط الملاحة في الخليج بالوقوع تحت سيطرة موسكو ولن يسمح بعرقلة حرية الملاحة، وأن التواجد الأمريكي في الخليج يساهم في إنهاء الحرب العراقية - الإيرانية، هذه الكلمات تعبر عن موقف أمريكي مدعومًا بالرأي العام العالمي في الحفاظ على حرية الملاحة في الخليج وفي مضيق هرمز، وهو ترجمة لسياسة الأمم المتحدة المنسجمة مع القانون الدولي، ومع ضرورات إزالة العقبات التي تعترض مسار حرية التجارة بين الدول. 
جاء الأدميرال بوين دكستر Poin Dexter مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى الكويت، واجتمع معه الشيخ صباح الأحمد، النائب الأول وزير الخارجية، وشرح له حساسيات الكويت بأنها لا ترغب ولا تؤيد وجود قوات مسلحة أمريكية على أراضيها، وكل ما تريده هو تفهم الولايات المتحدة لحاجة الكويت للدفاع عن أراضيها بنفسها بالتعاون مع جيرانها في دول مجلس التعاون، ويرد المبعوث الأمريكي قائلًا «أود أن أؤكد لكم أن الولايات المتحدة لا ترغب بإنشاء قواعد أمريكية، سواء في الكويت أو غيرها من دول الخليج، ويجب أن يكون هذا الموقف واضحًا لديكم».
وقد حددت الكويت بأن المياه الإقليمية الكويتية شأن كويتي تحميه الإمكانات الكويتية، أما المياه الدولية فهي شأن عالمي تعالجه الأسرة العالمية، وفق قواعد القانون الدولي.
في 19 مايو 1987، أعلنت واشنطن بأنها توصلت إلى اتفاق مع الكويت لتسجيل 11 ناقلة نفط كويتية باسم الولايات المتحدة، وقال السفير ميرفي مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، إن الاتفاقية الكويتية - الأمريكية لتحويل أعلام السفن الكويتية تحت علم الولايات المتحدة، سيحد من نفوذ موسكو، وأن الهدف هو الردع وليس التحريض. 
هذه رواية الحماية الأمريكية التي بدأت في أول يوليو 1987، كما بدأت الاتصالات مع الصين وبريطانيا وفرنسا، للاتفاق على ترتيبات مماثلة لأن الهدف الكويتي هو تأمين دعم جماعي دولي لحرية الملاحة في الخليج وفي المضائق المائية أينما تكون. 
اعتذرت الصين لأنها زودت إيران بالصواريخ، واعتذرت فرنسا لأنها لا تستطيع أن تحمي إذا لم يكن الطاقم كله فرنسيًا، وأعتقد أن ذلك حجة لأنها مرتبطة باتفاقيات مع العراق، أما بريطانيا فقد وافقت على تسجيل ناقلتين كويتيتين. كما شاركت الدول الصناعية في تأمين حرية الملاحة، وطالبت بالاشتراك في تطهير الخليج من الألغام عبر كاسحات ألغام، كما شاركت في تمشيط البحر من الألغام في موقف واضح لترسيخ مبدأ حرية المرور في المضائق البحرية. 
تعرضت 136 ناقلة نفط كويتية لاعتداءات إيرانية خلال الفترة من 1984-1987، 84 منها متجهة من أو إلى الكويت، واعتدى العراق على 168 سفينة، وكانت إيران تضرب عشوائيًا داخل المياه الإقليمية، وخارجها، أما العراق فقد حدد مناطق محظورة في المياه الإقليمية الإيرانية وأعطى لنفسه حرية الضرب فيها. 
لم تكتف الأسرة العالمية بما حققته الولايات المتحدة في حماية البواخر الكويتية، وإنما شجعت تلك الخطوة الأمريكية عددًا كبيرًا من الدول للتواجد العسكري في منطقة الخليج من أجل الحفاظ على سلامة حرية الملاحة، وقد لعب هذا التواجد الكثيف دورًا في الضغط على إيران التي وجدت نفسها معزولة تمامًا أمام الوقفة العالمية الرافضة لتصرفاتها والتي تحرص على حرية الملاحة في الممرات الدولية. 
كما أن الدبلوماسية الكويتية انتهجت مبدأ توسيع دائرة المهتمين بالشأن الخليجي وسلامة دوله وفي حسن الملاحة فيه، بإرسال مبعوثين للتواصل مع المنظمات والتجمعات القارية.
وقد دشن التواجد العالمي الكثيف في الخليج فصلًا ظهرت فيه تقاسيم الإرهاق على البلدين المتحاربين ودخولهما مرحلة الإنهاك والتعب، مع إدراك لخطورة مواصلة العمليات العسكرية، بينما تشهد مياه الخليج تزايد الوجود الدولي البحري، وهذا الوجود رسالة واضحة لضرورة وضع حد لنهاية الحرب.

حرية الملاحة في المضائق البحرية
تلك المشاهد حفزت الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن لبدء الاتصالات الهادئة لاستخراج قرار جماعي يكون شاملًا ومتكاملًا يعبر عن جدية تعاطي المجلس مع الحرب العراقية - الإيرانية، وقد نجح ذلك الموقف الجدي والاقتحامي إلى تبنّي مجلس الأمن للقرار المشهور رقم  (598) في العشرين من يوليو 1987، بحضور أحد عشر وزيرًا للخارجية من أعضاء المجلس. 
صار القرار (598) هو القرار الثامن الذي يصدره المجلس حول الحرب بين البلدين، وأعلن العراق قبوله للقرار بعد يومين من تبنيه، بينما لم تقبل إيران بالقرار إلا بعد أن حطم الأسطول الأمريكي القوارب البحرية الإيرانية في أبريل 1988، حيث قبل الإمام الخميني وقف إطلاق النار «كأنه يشرب السم» كما جاء في كلمات القبول، وعندها توقف القتال وتنفس الخليج نسيم الهدوء. 
يبقى موضوع حرية الملاحة في المضائق البحرية، فقد وفرت الحرب العراقية - الإيرانية لهذا المبدأ الحماية العالمية الجماعية الصارمة، وحصنته من تدخلات الأنظمة المتطرفة، ووفرت له هالة تقيه من طيش الحكومات، كما ساهم هذا القرار (598) في استذكار أهمية قرار المجلس رقم (552) لعام 1984، الذي صدر إثر شكوى قدمتها دول مجلس التعاون ضد تدخلات إيران في ممرات الملاحة الدولية في الخليج، وتولى المغفور له الشيخ صباح الأحمد الجابر، النائب الأول وزير خارجية الكويت آنذاك ، والمرحوم الشيخ أحمد بن سيف آل ثاني، وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية الدفاع عن مواقف المجلس خلال المداولات، كما كنت شخصيًا بصفتي الأمين العام للمجلس متواجدًا في تلك المداولات. 
من رسالة مجلس التعاون إلى مجلس الأمن في عام 1984، رسخت حرية المرور في المضائق البحرية، ومن متاعب الحرب العراقية - الإيرانية صارت الحرية حقًا لكل بلد وشأنًا لكل مواطن.
وأقدر أن أشير إلى دروس الكويت من تجربتها مع إيران في التعرض للبواخر خلال تلك السنوات، ومن أهمها ما نراه الآن في الشراكة الكويتية - العمانية حول ميناء «الدقم»، الذي يبنى على ساحل الأراضي العمانية التي تطل على بحر العرب، بعيدًا عن المناورات الإيرانية التي قد تحدث مستقبلًا، رغم الحسم القوي الذي أظهرته الأسرة العالمية تجاه مساعي إيران لتعطيل السفن الكويتية وغيرها من العبور في مضيق هرمز. 
 يمكن لي التأكيد على أن الأسرة العالمية أقرت الاستثنائية الأمنية التي تملكها دول مجلس التعاون في بنية الأمن العالمي، بسبب ملكيتها لاحتياطي نفطي واسع يؤمن للعالم الوسائل التي تثبت قواعد الاستقرار الأمني العالمي، وتحمي استدامة تواصل التجارة العالمية والبقاء على الازدهار الاقتصادي وتحصين القواعد التي تقوم عليها العلاقات بين الدول، كما احتلت دول مجلس التعاون واقعًا مميزًا في الانسياب المالي لمساهمتها الإيجابية في المنظمات المالية ومسؤولياتها في التطور التنموي في الدول النامية، مع نجاحها في نيل ثقة العالم بالدبلوماسية النفطية التي تلتزم بها والمتميزة بالاعتدال في الأسعار وبإدامة الإنتاج بما يؤمن التعافي للاقتصاد العالمي. 
وأهم من ذلك كله إدراك الأسرة العالمية أن دول الخليج وسيادتها واستقرارها شرط أساسي لمستقبل الاقتصاد العالمي ولترسيخ السلام في جميع زوايا الأرض ■