«هرمز»... مضيق تزداد أهميته الاستراتيجية عبر التاريخ

«هرمز»... مضيق تزداد أهميته الاستراتيجية عبر التاريخ

نادرًا ما يكون مضيق هرمز بعيدًا عن اهتمام المجتمع الدولي بسبب أهميته الاستراتيجية الكبيرة والاضطراب الذي يمكن أن تسببه له إيران في ضوء حربها الكلامية المشتعلة مع العالم، بسبب برامجها النووية والصاروخية، وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول المجاورة له، والذي يُخشى أن تتحول إلى حرب حقيقية، حيث يؤكد كثير من الخبراء على أن هذا المضيق، الذي يعد من أهم الممرات الملاحية في العالم، سوف يشهد عواقب وخيمة حال اندلاع أي حرب بين واشنطن وحلفائها في المنطقة من جهة وطهران من جهة أخرى، لا سيما بعد التهديدات الإيرانية المتكررة بأن الحرب لو حصلت فإنها ستكون «أم المعارك»، وتحذير واشنطن لطهران من «اللعب بالنار» في المضيق، الذي يتعامل مع حوالي ثلث النفط المنقول بحريًا في العالم.  

 

يحمل المضيق اسم «هرمز» لتوسّطه مملكة هرمز القديمة، والتي اشتهرت باسم «باب الشرق السحري»، كما نُسبت تسميته لـ «هرمز» أحد ملوك بلاد فارس، كذلك إلى اسم الجزيرة «هرمز»، الواقعة على ساحل «إقليم مكران» التابع لإيران اليوم ولبلاد فارس سابقًا. وكانت «جزيرة هرمز» في القرن السادس عشر مملكة تخضع لحكم أسرة عربية من عمان، ونجح البرتغاليون في احتلالها عام 1515، وفي عام 1632 استطاعت القوات البريطانية والفارسية المشتركة طرد البرتغاليين منها، وهي تتبع لإيران منذ ذلك الوقت. ويضم المضيق عددًا من الجزر الصغيرة غير المأهولة، أكبرها جزيرة قشم الإيرانية وجزيرة لارك وجزيرة هرمز، إضافةً إلى الجزر الثلاث الإماراتية التي تحتلها إيران، وهي طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. وكلمة هُرْمُزُ هي كلمة فارسية، من معانيها: الإِلهُ، وكوكبُ المُشترِي، وأَحدُ ملوك الفرس هُرمز (272م)، وقد أَطلقَ العربُ الهرمُزَ والهارَمُوز والهُرمُزان على الكبير من ملوك العَجَم. 
ويربط مضيق هرمز، وهو على شكـل حرف  V مقلوب، بين الخليج العربي من ناحية وبين المحيط الهندي وخليج عمان وبحر العرب من ناحية أخرى، ويحده من الشمال إيران، ومن الجنوب كل من الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان. ويبلغ طول المضيق حوالي 100 ميل (161 كيلومترًا) وعرضه 21 ميلًا (34 كيلومترًا) في أضيق نقطة، مع عرض لا يزيد على ميلين بحريّين (أي 10.5كم) فقط لممر الشحن في كل اتجاه. ويجعل عمق المضيق الضحل (حوالي 60م فقط) السفن العابرة عرضة للألغام، كما أن ممر الشحن القريب من اليابسة يجعل الناقلات الكبيرة معرضة دومًا للهجمات الصاروخية أو للاعتراض من جانب القطع البحرية والمروحيات العسكرية، وخصوصًا من الجانب الإيراني.
ونظرًا لأن مضيق هرمز يمثل مدخلًا للخليج العربي، وممرًا مائيًا استراتيجيًا، فإنه لم يستطع الإفلات عبر التاريخ من الأطماع وصراع الدول الكبرى للسيطرة عليه، فمنذ القرن السابع قبل الميلاد، وهو يلعب دورًا دوليًا وإقليميًا مهمًا في التجارة الدولية. وقد خضع للاحتلال البرتغالي، ثم سائر الدول الأوربية خصوصًا بريطانيا، الذي اعتبرته مفترق طرق إستراتيجية، وطريقا رئيسيا إلى الهند، فتدخلت بأساليب مباشرة وغير مباشرة في شؤون الدول الواقعة على شواطئه لتأمين مواصلاتها الضرورية. وفي هذا السياق، قامت بريطانيا بالاحتلال المباشر لمعظم الدول المجاورة لمضيق هرمز، بل ودخلت في صراع عنيف مع الفرنسيين والهولنديين لسنوات طويلة لفرض سيطرتها على الملاحة في المضيق، إضافة إلى صدامها مع البرتغاليين ابتداء من العام 1588 بعد معركة الأرمادا وإثر إنشاء شركة الهند الشرقية. 
وقد بقي مضيق هرمز موضوع رهان استراتيجي بين الدول العظمى بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة. فالاتحاد السوفييتي السابق كان يتوق إلى الوصول إلى المضيق لتحقيق تفوقه المنشود والتمكن من نفط المنطقة، بينما سعت الولايات المتحدة إلى إطلاق أساطيلها في مياه المحيط الهندي والخليج العربي، ومتَّنَت الروابط السياسية والتجارية والعسكرية مع دول المنطقة، ضمانًا لوصولها إلى منابع النفط والإشراف على طرق إمداده.

ممر ضروري لتجارة النفط والغاز العالمية
ويتفق الخبراء على أن أهمية مضيق هرمز قد ازدادت بشكل ملحوظ، رغم أهميته الاستراتيجية منذ القدم، مع اكتشاف النفط في إيران والجزيرة العربية في بداية القرن الماضي، حيث يعتبر المضيق ممرًا ضروريًا لتجارة النفط والغاز العالمية، وهمزة الوصل بين منتجي النفط والغاز في شرق شبه الجزيرة العربية وزبائنهم في كافة أنحاء العالم. وقد عبر المضيق ما يقرب من 12 مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمكثفات القادمة من المملكة العربية السعودية والعراق والكويت والإمارات العربية المتحدة وإيران في عام 2020، وفقًا لبيانات جمعتها «بلومبرج». وهنا تجدر الإشارة إلى أنه قبل تفشي جائحة كوفيد – 19 في العام المذكور، وما ترتب عليها من تراجع كبير في الطلب العالمي على النفط نتيجة الإجراءات الاحترازية التي تم اتخاذها لمنع تفشي الوباء، وصلت كمية النفط الخام التي عبرت مضيق هرمز إلى نحو 18.5 مليون برميل نفط يوميًا في 2016، ونحو 17.2 مليون برميل يوميًا في 2017، وبذلك جاء مضيق هرمز، في عام 2016، في مقدمة نقاط الاختناق لعبور حاملات النفط في العالم، يليه مضيق مالاقا (16 مليون برميل يوميًا)، ثم قناة السويس وخط سوميد (5.5 ملايين برميل يوميًا)، ثم مضيق باب المندب (4.8 ملايين برميل يوميًا)، ثم المضائق الدانماركية (3.2 ملايين برميل يوميًا)، ثم المضائق التركية (2.4 مليون برميل يوميًا) وأخيرًا قناة بنما (0.9 مليون برميل يوميًا).
وتعد الإمارات العربية المتحدة من أكثر الدول الخليجية استفادة من مضيق هرمز، حيث تصدر حوالي 99 في المائة من صادراتها النفطية عبر هذا المضيق، وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية من حيث الاعتماد على هذا الممر البحري المهم، حيث تصدر حوالي 88 في المائة من صادراتها النفطية عبره. بينما يتم شحن 85 في المائة من الصادرات النفطية العراقية عن طريق المضيق. أما الكويت وقطر والبحرين وإيران فليس لديهم خيار، في الوقت الراهن، سوى تصدير نفطهم عبر هذا الممر المائي. وفي عام 2020، على سبيل المثال، صدرت السعودية حوالي 5.8 ملايين برميل يوميًا عبر المضيق، تلتها العراق بحوالي 2.7 مليون برميل يوميًا، ثم الكويت  1.9 مليون برميل يوميًا، ثم الإمارات العربية المتحدة بحوالي 1.5 مليون برميل يوميًا.
 كما يعد مضيق هرمز أيضًا مهمًا لمرور ناقلات الغاز الطبيعي المسال، حيث عبر من خلاله، في عام 2020، كل إنتاج قطر تقريبًا من الغاز الطبيعي المسال، وهو حوالي ربع الإمدادات العالمية.
وهذا الذهب الأسود الذي يخرج من دول الخليج العربية، عبر مضيق هرمز، يذهب 80 في المائة منه إلى الدول الآسيوية كالصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، فيما يتم نقل الباقي إلى دول أوربا وأمريكا الشمالية.

تأثير التوترات السياسية
كلما زاد التوتر في العلاقات السياسية بين إيران من جهة، وبين المجتمع الدولي بشكل عام، والولايات المتحدة بشكل خاص، من جهة أخرى، ولاحت نذر المواجهة بين الجانبين، تعلن طهران أن مضيق هرمز لن يكون آمنًا إذا تعرضت لهجوم عسكري من جانب الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، مؤكدة على أنها قادرة على «إغلاقه متى شاءت»، بل ويقول الإيرانيون إن إغلاق الممر الملاحي العالمي سيكون «أسهل من شربة ماء»، وفي المقابل، تحذر الولايات المتحدة دومًا الإيرانيين من مغبة التفكير في غلق مضيق هرمز، مشددة على أنه «لن يتم السماح بعرقلة حركة الملاحة البحرية... وعبور السفن عبر مضيق هرمز». وفي هذا السياق، عززت واشنطن من تواجدها العسكري في المنطقة، كما سعت إلى تعزيز تعاونها الأمني والعسكري مع معظم دول المنطقة من أجل ردع طهران عن القيام بأي أعمال عدائية من شأنها غلق المضيق أو العبث باستقرار منطقة الخليج العربي.
وفقًا للقانون الدولي، يعتبر مضيق هرمز جزءًا من أعالي البحار، ولكل السفن الحق والحرية في المرور فيه مادام لا يضر بسلامة الدول الساحلية أو يمس نظامها أو أمنها. وفي هذا السياق، لم تكن الملاحة يومًا عبر هذا المضيق موضوع معاهدة إقليمية أو دولية، وإنما تخضع لنظام الترانزيت الذي لا يفرض شروطًا على السفن طالما أن مرورها يكون سريعًا، ومن دون توقف أو تهديد للدول الواقعة عليه، على أن تخضع السفن للأنظمة المقررة من «المنظمة البحرية الاستشارية الحكومية المشتركة». وهنا تجدر الإشارة إلى أن إيران حاولت، خلال المؤتمرين الأول والثاني لوضع قانون البحار (اللذين انعقدا تحت راية الأمم المتحدة في جنيف خلال الفترة من  1958م إلى 1960م)، المطالبة بالإشراف على مضيق هرمز باعتباره يقع ضمن مياهها الإقليمية، إلا أن طلبها رُفض من قِبل جميع المشاركين، ثم تكرر هذا الرفض، بشكل قاطع، للمرة الثالثة في مؤتمر قانون البحار، الذي انعقد في30 أبريل 1980م.

مستقبل مفتوح على كل الاحتمالات
حرية الملاحة في مضيق هرمز سوف تشهد تحديًا كبيرًا في الفترة القادمة. فرغم إعلان الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن عن رغبته في تحسين العلاقات مع إيران، وإعادة واشنطن إلى الاتفاق النووي، الذي انسحب منه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في مايو 2018م، إلا أن التوتر بين البلدين، يبدو مستمرًا، حتى كتابة هذه السطور، في ضوء تعثر استئناف المفاوضات المتعلقة بالبرنامج النووي الإيراني. ومما يزيد الأمور تعقيدًا، أن طهران أكدت، في يناير 2021، أن الولايات المتحدة مدينة لها بتعويض قدره 70 مليار دولار عن عقوبات النفط وأنها ستزيد أنشطتها النووية من خلال تخصيب المزيد من اليورانيوم.
وفي ضوء هذه التطورات، تزداد إمكانية قيام إيران بمحاولة تعطيل الملاحة في المضيق في المستقبل القريب، لأن هذا التعطيل من شأنه أن يظهر طهران كما لو كان لديها «أوراق تفاوضية مؤثرة» لتحدي الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. ومع ذلك، يبدو لكثير من المراقبين أنه من غير المعقول أو المنطقي دخول التهديد الإيراني بالعبث بمضيق هرمز حيز التنفيذ، بما في ذلك على المدى الطويل، ويعود ذلك لعوامل كثيرة، لعل في مقدمتها:
أولاً: التفوق العسكري الأمريكي في المنطقة، خاصة في ضوء مرابطة الأسطول الخامس الأمريكي في مملكة البحرين، وعدم إمكانية أن تقف الإدارة الأمريكية الحالية مكتوفة الأيدي أمام أي عبث إيراني في المضيق. وبالإضافة إلى ذلك، لا يبدو أن البحرية الإيرانية سوف تستطيع تحدي عملية «بناء الأمن البحري الدولي» International Maritime Security Construct، والتي انطلقت منذ عام 2019 بمشاركة عدة دول من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا والبحرين والإمارات وغيرها. 
ثانيًا: ليس من الوارد، بالحسابات المنطقية، أن تغلق طهران مضيق هرمز بالكامل، لأن ذلك سيمنع إيران من تصدير نفطها وغازها إلى الأسواق العالمية، علمًا بأن طهران تمتلك رابع احتياطي نفطي في العالم، وثاني احتياطي عالمي من الغاز الطبيعي. ومن المعروف أن نحو 90 في المائة من النفط الإيراني، ومعظم صادارت الغاز الإيرانية، يتجه نحو الدول الآسيوية عبر مضيق هرمز. 
ثالثًا: من المشكوك فيه أن تلجأ طهران إلى غلق مضيق هرمز، لأنّ هذا لن يستعدي الولايات المتحدة وحلفاءها في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل سيلقى أيضًا اعتراضًا شديدًا من جانب شركاء إيران الكبار في آسيا، مثل الصين واليابان، حيث يلعب المضيق دورًا فاعلًا في استمرار الازدهار الاقتصادي لكثير من الدول الآسيوية.
رابعًا: الخبرة التاريخية تشير إلى أن طهران لم تقم أبدًا بغلق مضيق هرمز. فخلال الحرب الإيرانية - العراقية في الفترة من 1980 إلى 1988 لم تحاول طهران أبدا إغلاق المضيق، وإنما شنت ما يعرف بـ «حرب الناقلات»، التي هاجمت فيها مع الجانب العراقي حوالي 451 سفينة، مما أدى إلى رفع تكلفة التأمين على الناقلات بشكل كبير وبالتالي رفع أسعار النفط العالمية. كما أن إيران تراجعت في النهاية عن تهديداتها الجوفاء بغلق مضيق هرمز أيضًا، بعدما فُرضت العقوبات على إيران عام 2011.  
خامسًا: تكثيف دول الخليج والعراق لجهودهم من أجل إيجاد بدائل لصادراتها النفطية والغازية ولتجارتها البحرية مع العالم تحسبًا لاندلاع أية أعمال حربية في المضيق أو حوله، وشمل ذلك عدة مشروعات لخطوط أنابيب النفط. فعلى سبيل المثال، توجد مشروعات لبناء خطوط أنابيب جديدة من السعودية إلى سلطنة عمان واليمن، كما يوجد مشروع سعودي آخر لزيادة طاقة خط الأنابيب الذي يصل شرق السعودية بمدينة ينبع على البحر الأحمر، بهدف تجنب مياه مضيق هرمز. وفي إطار التقارب العراقي السعودي، ليس من المستبعد الاتفاق على تصدير نفط عراقي عبر خط قديم للأنابيب يربط حقول نفط في البصرة العراقية بميناء المعجز على البحر الأحمر. وقد توقف العمل بهذا الخط، الذي يستوعب أكثر من 1.5 مليون برميل يوميًاعام 1990  بسبب حرب الخليج. وإماراتيًا، يوجد مشروع لزيادة طاقة خط أنابيب يصل نفط أبو ظبي بساحل الفجيرة المطل على بحر عُمان، والذي تبلغ طاقته 1.6 مليون برميل يوميًا، دون المرور بمضيق هرمز. كما تعمل دولة الإمارات أيضًا على زيادة سعة التخزين والشحن خارج الفجيرة. ومن جهة أخرى، يبدو العراق هو الأكثر انشغالا بالبدائل عن مضيق هرمز. ومن ضمن المشروعات المطروحة في هذا السياق، إحياء خط الأنابيب بين العراق وسورية الذي كان مهجورًا لشحن النفط إلى البحر المتوسط. كما أن بغداد أيضًا مهتمة جدًا على ما يبدو بمشروع لبناء خط أنابيب جديد يصل حقول النفط بكركوك مع ميناء جيهان التركي، وبمشروع لنقل النفط الخام إلى الأردن ومصر. 
وفي ضوء هذه العوامل الخمسة، يؤكد المحللون على أنه يصعب أن تترجم إيران وعيدها وتهديداتها بغلق مضيق هرمز الاستراتيجي إلى أفعال، مشيرين إلى أن كل ما تعتزم القيام به هو التأزيم السياسي والأمني إلى أقصى حد، حتى تكتسب قدرة أكبر على التفاوض بشأن مستقبل برامجها النووية والصاروخية ومشروعها للهيمنة الإقليمية في المنطقة. كما يشدد هؤلاء أيضًا على أن طهران غير قادرة على تحمل عواقب أي عمل يشكّل خطرًا على السفن الحربية أو التجارية التي تعبر هذا الممر الملاحي الحيوي في الخليج العربي. فدول المنطقة والولايات المتحدة والمجتمع الدولي لن يسمحوا لطهران بذلك، خاصة وأن الأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمضيق هرمز تمثل عقبة حقيقية أمام قدرة إيران على غلق هذا المضيق ■