قناة السويس وتحديات المستقبل

قناة السويس  وتحديات المستقبل

فرض الموقع الجغرافي لمصر أن يرتبط تاريخها البعيد والقريب بممر ملاحي يربط بين الشرق والغرب. لذلك، ترسخت قناة السويس في وجدان كل مصري، بل وكل عربي، لما كان لها من تأثير على مجريات الأحداث التاريخية العالمية. ومن جانب آخر، ظل هذا الممر الملاحي يمثل من الناحية الاستراتيجية نقطة ارتكاز لسياسات الدول والامبراطوريات عبر العصور التاريخية المختلفة؛ حتى أن مصر نفسها تحولت إلى مطمع لمختلف القوى المهيمنة في العالم، سواء وجدت القناة أم لا، فهي الحيز الجغرافي الذي استخدمه العالم بالقوافل التجارية، البرية أحيانًا والبحرية أحيانًا أخرى، وموقع هيمنة جيوش وحكومات الامبراطوريات. وهكذا تواجدت ونمت خصوصية قناة السويس بالمقارنة بأي ممر ملاحي آخر في العالم.

 

ومع إلقاء الضوء على التاريخ المعاصر لقناة السويس الحديثة، خاصة منذ استعادة مصر لها بقرار التأميم في 26 يوليو 1956، يمكننا ملاحظة قدر اهتمام العالم بمصيرها، حتى كاد أن يتسبب تأميمها في حرب نووية عالمية نتيجة للعدوان الثلاثي على مصر، بادعاء الحفاظ على حرية الملاحة بها... ومع ذلك، تنبه المصريون، منذ إنشائها في القرن التاسع عشر، بأهميتها السياسية والاقتصادية، وعملوا طوال عقود على استعادتها وتمصيرها لتكون تحت سيطرتهم دون سواهم، حتى تعود عليهم بالفائدة بدلًا من تركها مرتعًا للقوى الاستعمارية، لا ينوبهم منها إلا الفتات، لذلك، تحول قرار إعادتها للحظيرة المصرية إلى ملحمة وطنية شهد لها العالم بعدالتها القانونية.
 امتدادًا لملحمة التأميم، بدأت الإدارة المصرية فورًا في ملحمة الإدارة والتطوير بنجاح فاق كل التوقعات، وكانت أهم إنجازاتها ما يلي:
● في محاولة إخضاع الإدارة المصرية وتعجيزها، سحبت الدول الاستعمارية في 14 سبتمبر 1956 أطقم الإدارة الأجنبية وجميع مرشدي السفن، إلا أن الفريق المصري الذي قاد هيئة القناة الجديدة تحت رئاسة المهندس محمود يونس، استطاع مواجهة هذا الاختبار القاسي الذي فرض عليهم، فاحتفظت القناة بمعدلات تشغيلها منتظمة. كما قام طقم الإرشاد المصري بعد تطعيمه بمرشدين من البحرية المصرية، بالإضافة إلى بعض اليونانيين واليوغوسلاف ممن بقوا في موقع العمل، بضمان استمرارية الملاحة.
● نتج عن العمليات العسكرية أثناء العدوان الثلاثي، توقف الملاحة واحتجاز 12 سفينة كانت في المجرى الملاحي، وغرق 15 قطعة بحرية في القناة، و11 أخرى في ميناء بورسعيد. لكن هيئة القناة نجحت بمفردها في إخراج السفن المحتجزة رغم العوائق الغارقة، عن طريق تدويرها من حول جزيرة تفريعة البلح شمالاً. وأشاد خبراء الأمم المتحدة بنجاح المصريين في تلك العملية الدقيقة. وللإسراع بعملية التطهير من القطع الغارقة والعوائق، استعانت الهيئة بمهمات ومعدات وخبراء من خارج مصر، وأدارت عملية التطهير بنجاح ساحق في ثلاثة أشهر ونصف الشهر فقط، حتى عادت الملاحة في 10 أبريل 1957.
● مع انتهاء تبعات العدوان الثلاثي، بدأت مصر في مفاوضات تعويض حملة أسهم الشركة المؤممة في بداية 1958، وانتهت في يوليو 1958 بتوقيع اتفاقية التسوية تحت رعاية البنك الدولي وآلت قناة السويس إلى مصر بلا رجعة.
● من أول عمليات التطوير التي قامت بها هيئة قناة السويس عام 1957 كانت إعادة إحياء وصيانة وإصلاح ورش القناة ووحداتها العائمة من كراكات وقاطرات. 
وقد تم ذلك بمعرفة مهندسين مصريين على أكمل وجه، كما تم تجديد العديد من الآلات الميكانيكية دون أي تدخل أجنبي. وكانت الشركة المؤممة قد تركت كل تلك التجهيزات في حالة سيئة تحسبًا لعدم تجديد عقد الامتياز المتوقع انتهاؤه في 1968.
● بدأت هيئة القناة المصرية في تطوير المجرى الملاحي. وكان هذا المجرى عند إنشاء القناة بعرض 60 مترًا عند السطح، وباتساع 22 مترًا عند أقصى عمق، وهي مواصفات كانت تلائم آنذاك حجم البواخر الخشبية أو المعدنية الصغيرة بمحركات بخارية بدائية. وفي 1956، كان عرض القناة قد زاد على مراحل إلى 150 مترًا و60 مترًا عند عمق 10 أمتار. ومع التطهير، تمت زيادة العمق إلى 13 مترًا، مما زاد من غاطس السفن لتصل إلى 35 قدمًا بدلاً من 24، وبذلك انخفضت مدة عبور السفن من 40 ساعة إلى 15 ساعة.
● زادت كثافة السفن العابرة للقناة في ظل الإدارة المصرية الجديدة، وقد تحقق الرقم القياسي في مارس 1958 بعبور 84 سفينة يوميًا بعد أن كانت 49 سنة 1956. كما ارتفعت الحمولة العابرة في ذلك العام بنحو 35 في المائة، مما كانت عليه من قبل.
● قامت الهيئة بوضع مشروع كامل لتطوير القناة وتحسين الملاحة بها تحت اسم «مشروع ناصر»، مقسم إلى عدة مراحل. وبدأ تنفيذه بالفعل في بداية 1958 لتوسيع وتعميق المجرى الملاحي، وكانت المرحلة الأخيرة منه تقتضي عمل ازدواج كامل للقناة في الاتجاهين. وخلال التسع سنوات الأولى من 1958 إلى 1967، كان حجم ما أزيل من قاع وجوانب المجرى الملاحي يفوق مرتين ما تمت إزالته من المجرى الملاحي لحفرها وتوسيعها حتى 1956.
● تسببت حرب 1967 وحرب الاستنزاف التي شنتها مصر على إسرائيل من على ضفاف القناة إلى توقف الملاحة بها لمدة ثماني سنوات. وبعد إعادة افتتاحها وتطهيرها في 1975، عادت عمليات التوسعة والتعميق وإنشاء التفريعات لاستكمال مشروع ناصر. وقد وصلت القناة عام 2010 إلى زيادة طول المسارات المزدوجة إلى 80 كم، ووصل العمق إلى 24 مترًا ليسمح بغاطس 66 قدمًا مع اتساع عرض القاع عند 11 متر عمق إلى 220 مترًا، فسمح ذلك باستيعاب سفن تصل حمولتها إلى 240 ألف طن.
وبما أن دور قناة السويس هو أساسًا خدمة النقل البحري والتجارة العالمية، فقد وضعت هيئة القناة مشروعًا خدميًا ضخمًا للقيام بدور أكبر من مجرد معاونة السفن في العبور من الممر الملاحي، وذلك بتقديم خدمات صيانة السفن وتزويدها بالوقود، إلى تفريغها من حمولاتها وإعادة تحميلها أو تحميل غيرها في موانئ الدخول أو الخروج. وقد بدأ ذلك منذ نهاية الخمسينيات باستخدام الأحواض العائمة الضخمة وبإنشاء الأرصفة الكبرى المزودة بالرافعات الكبرى، بالإضافة إلى إقامة مختلف الورش الميكانيكية والترسانات البحرية. وفى إطار نفس التوجه الخدمي، درست الهيئة مشروع إقامة المناطق التخزينية واللوجيستية على ضفاف القناة وتفريعاتها منذ منتصف السبعينيات بعد إعادة افتتاحها عام 1975.
واستمرارًا في تطوير وتحديث قناة السويس كمعبر استراتيجي من الدرجة الأولى يخدم التجارة العالمية، أعيد طرح مشروع استكمال ازدواج الممر الملاحي مع تنمية الخدمات اللوجيستية على ضفاف القناة. ولتنفيذ ذلك التوجه، بدأ العمل في مشروع الازدواج في أغسطس من عام 2014، فتم إنشاء تفريعة من الكيلو 60 إلى الكيلو95 بالإضافة إلى توسيع وتعميق تفريعات البحيرات الكبرى والبلاح بطول 37 كم، ليصبح إجمالى الازدواج الجديد بطول 72 كم، تضاف إلى التفريعات/ القديمة: بورسعيد بطول 37 كم، والتمساح بطول 5 كم، والدفرسوار بطول 27 كم.
ومع إطلاق مشروع ازدواج الممر الملاحي في 2014، تم ربطه بمشروعات التنمية الاقتصادية على المحور الجغرافي للقناة، حتى تتحول المنطقة كلها إلى منطقة اقتصادية متكاملة بشقها الخدمي والتجاري، مع استنادها إلى التنمية الصناعية والزراعية والعمرانية في المنطقة. ومع تنفيذ مشروعات الأنفاق الستة لربط شرق القناة بغربها، ومع صدور قانون إنشاء المنطقة الاقتصادية لمحور قناة السويس في،2015 ومع خفض زمن عبور السفن في القناة من 18 ساعة إلى 11 ساعة، ومع توافر الخدمات اللوجيستية المتكاملة للسفن، ومع رفع كفاءة عمليات عبور القناة بتكلفة زمنية متميزة؛ مع كل ذلك، نجحت مصر في وضع قناة السويس على رأس قائمة الممرات البحرية المصنفة من الدرجة الأولى في العالم، والقادرة على مواجهة النمو المتوقع لحجم التجارة العالمية.
لا يمكن إنكار التحديات المستقبلية التي يمكن أن تواجهها قناة السويس مع ازدياد حركة التجارة العالمية في الأعوام القادمة، حتى لو كانت النظرة الاستراتيجية للإدارة المصرية قد استطاعت حتى الآن الحفاظ على المرتبة المتقدمة لتصنيف الممرات الملاحية في العالم. لذلك، يجب الانتباه لكل المتغيرات الدولية في حركة التجارة بين البلاد والقارات. فلننظر سريعًا للتحديات المرئية حتى تاريخه:
1 - مع تنوع وسائل النقل، لا يمثل النقل برًا تحديًا حقيقيًا، فاستخدام سيارات النقل على الطرق العابرة للبلاد والقارات يواجه العديد من الصعوبات، حيث تكون الطرق غير مجهزة للحمولات الكبيرة أو الضخمة في معظم البلاد، وغير آمنة في العديد منها. ويضيف ذلك من زمن النقل وتكلفته كما يزيد من الصعوبات الإدارية بالمرور عبر العديد من الحدود، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة التأمين. قد نستثني من ذلك النقل الخفيف والمتوسط داخل حدود دول أوربا الغربية.
2 - النقل جوًا، لا يمثل تحديًا على المدى القريب والمتوسط، فلا تزال تكلفته مرتفعة جدًا وتأثيره البيئي شديد الضرر. وهذا النوع من النقل يصلح للشحنات العاجلة والمهمة والتي لا تكون التكلفة معيارًا في اختياره.
3 - النقل من خلال خطوط السكك الحديدية هو الوسيلة التى تحاول الصين الرهان عليها لتسيير طريق الحرير البري الجديد منها إلى القارة الأوربية. ولكنه يمثل تكلفة استثمارية باهظة، بالإضافة إلى المخاطر الأمنية عند عبور بعض البلاد غير المستقرة؛ لذلك فهي تركز أيضًا على الطريق البحري.
4 - مع التأكيد على استمرار النقل البحري كأفضل الوسائل في نقل السلع وأقلها تكلفة، تنحصر التحديات على الاختيار بين الطرق الملاحية المتاحة وفقًا لطولها وتكلفة المرور منها... ويظل المعروض على الساحة العالمية محصورًا بين الممرات الآتية:
أ. قناة السويس، وتأتي بكل مميزاتها في المرتبة الأولى.
ب. قناة بنما، طولها وزمن العبور منها، والمناطق الجغرافية التي تخدمها لا تجعلها تنافس قناة السويس، ولا ينقل من خلالها إلا أقل من نصف ما ينقل عبر قناة السويس.
ج. طريق رأس رجاء الصالح هو المنافس الوحيد القائم لقناة السويس، ولكن بسبب طوله وزمن ارتياده لا يمثل تحديًا إلا للسفن ذات الحمولات الضخمة غير القادرة على العبور من قناة السويس... وهي سفن لا يزيد عددها على 2 في المائة من أسطول السفن العالمية.
أما التحديات المستقبلية المطروحة على بساط الدراسات في العالم، فتتلخص في الآتي:
1 - مشروع القناة الإسرائيلية بين إيلات على البحر الأحمر، وأشدود على البحر المتوسط. ولكن الدراسات أظهرت ارتفاع تكلفة تنفيذه، حيث يزيد على 300 كم، وارتفاع تكلفة تنفيذ المرافق الخدمية حوله. وجار استبداله بمشروع نقل بري بالسكك الحديدية، فقد يمثل مستقبلاً شيئًا من المنافسة في نقل نوعيات معينة من السلع التي تحتاج إلى خدمات لوجيستية متخصصة تكنولوجيا.
2 - مشروع ممر القطب الشمالي، ويدرس البعض إمكانية تنفيذه في أحد من ممرين عبر ثلوج الممر القطبي الشمالي أو القطبي الغربي. ولكن وحتى الآن تتضح صعوبة ذلك مع تراكم الثلوج معظم أوقات السنة، والتقلبات المناخية المفاجئة التي قد تتعرض لها السفن العابرة للممر القطبي. هذا بالإضافة إلى غياب البيئة القانونية لتنظيم الملاحة في القطب الشمالي. وإن تم المشروع مع التغيرات المناخية المنتظرة، فقد يضر هذا الطريق بقناة بنما أكثر من قناة السويس. 
وهكذا يتضح أن هناك مشروعات عديدة تحاول دائمًا استقطاب الملاحة التجارية بعيدًا عن قناة السويس، ولكن تظل القناة بكل مميزاتها وبكل مشروعات التنمية المصاحبة لها هي الأولى بلا منازع حتى الآن. ولكن لا يمكن إنكار التحديات والاستعداد لها بتقديم المزيد والجديد من الخدمات للنقل البحري الدولي.
وقد نلخص المخاطر على قناة السويس بمقولة أنها تتمثل في الاستهانة بالتحديات المستقبلية وعدم الانتباه لها استنادًا على مكتسبات الماضي، وعدم الإعداد والعمل على التطوير الدائم والمستمر لقناة السويس ومحيطها ■