باب المندب أو بوابة الدموع كيف تتصاعد التهديدات؟

باب المندب أو بوابة الدموع كيف تتصاعد التهديدات؟

مضى هذا الزمن الذي كان فيه البحر الأحمر بحيرة عربية، وانتهى ربما لغير رجعة الهدوء في باب المندب، والذي كان يميزه، فمع حرب 1973 ووقف الإمدادات البترولية العربية، على خلفية حرب أكتوبر، ربما يكون قد تم اتخاذ قرار في الأروقة والكواليس العالمية بضرورة تدويل الأوضاع في مضيق باب المندب الذي تم إغلاقه، وأيضًا البحر الأحمر، حتى يمكن السيطرة على الممر الملاحي الأهم في العلاقات التجارية بين آسيا وأوربا، ويحوز على حجم ضخم من التجارة الدولية، وهو ما ثبت مجددًا ومؤخرًا مع تعطل الملاحة في قناة السويس لستة أيام بسبب جنوح سفينة.

 

حاليًا يعد باب المندب أحد ثلاثة مضائق في المنطقة العربية، حيث يحتل موقعًا استراتيجيًا بين الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، وتحديدًا بين جيبوتي وإريتريا في إفريقيا واليمن في آسيا، ويربط البحر الأحمر بخليج عدن وبحر العرب، ويصل ما بين البحر المتوسط والمحيط الهندي، فيبلغ عرض المضيق حوالي 18 ميلًا في أضيق نقاطه، مما يحد من حركة الناقلات في قناتين بعرض ميلين، وذلك لمرور الشحنات الواردة والصادرة.
وقد تغيرت البيئة الجيوسياسية لباب المندب خلال العقدين الأخيرين، نتيجة ظهور الفواعل غير العربية في هذه المنطقة، فنشطت كل من إيران وتركيا وظهر الفاعل الخليجي في منطقة القرن الإفريقي مؤثرًا في التحولات الجيوسياسية هناك، وكذلك تنامت المصالح الاقتصادية الإفريقية المرتبطة بالبحر الأحمر، كما تزايد وزن بعض دول حوض النيل غير المشاطئة للبحر في تفاعلاته، وحافظ اللاعب الإسرائيلي على اهتمامه بالبحر الأحمر نظرًا لمصالحه السياسية والاقتصادية المرتبطة به. 
في هذا السياق ارتفع مستوى التهديدات الأمنية في مضيق باب المندب، والتي تبلورت في ثلاث ظواهر، هي العسكرة بالمضيق خصوصًا وبالبحر الأحمر عمومًا، وكذلك تصاعد الإرهاب والقرصنة البحرية، وفي سياق مواز تصاعدت التهديدات الاقتصادية المرتبطة بأمن الطاقة العالمي، كما هدد أيضًا أمن التجارة المنقولة عبره؛ ذلك أن البحر الأحمر أقصر طرق النقل بين الشمال والجنوب، ويلعب أدوارًا مؤثرة على اقتصادات دول جنوب شرق آسيا والدول الأوربية، إضافة لدوره كناقل للنفط الخليجي، ومنفذ للتبادل التجاري للدول المشاطئة عليه، وبعضها لا تملك غيره ليربطها بالعالم، وأيضًا دوره المؤثر على مجمل العلاقات العربية - الإفريقية كممر ملاحي رئيس في عمليات التعاون بين الطرفين.

أولاً: حالة التهديدات في باب المندب 
في مضيق باب المندب ترتفع حاليًا مستويات التضاغطات بين قوى دولية وإقليمية متنافسة، وتشكل هذه الحالة تصاعدًا للمخاطر الاستراتيجية المؤثرة على الأمن العالمي والإقليمي، حيث إن حجم التهديدات في مضيق باب المندب يشهد تصاعدًا للتوتر لم يهدأ على الأقل خلال العقد الأخير ويهدد بشكل جاد حركة التجارة العالمية، كما يهدد كلًا من عناصر الأمن الخليجي بشقيه السعودي والإماراتي، فضلاً عن تهديد حركة التجارة عبر قناة السويس لمصر، حيث يبرز التطور التكنولوجي المرتبط بالألغام البحرية كأداة فعالة في تصاعد هذا التهديد.
هذه التهديدات غير المسبوقة مرتبطة بعدد من العوامل، منها: التمدد الإيراني عبر ثلاثة عقود في البحر الأحمر، وتمركزه مؤخرًا في اليمن، كما أنه مرتبط أيضًا بالقرصنة البحرية التي برزت خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، والمترتبة على انهيار الدولة في الصومال وطبيعة الطموح السياسي لحركة الشباب، فضلاً عن انهيار الدولة في اليمن، ويمكن تفصيل المهددات ببوابة الدموع في الآتي:
أ- التهديدات العسكرية:
تصاعد حجم التهديدات على الصعيد العسكري في منطقة باب المندب منذ أكتوبر 2017 وذلك مع استحداث الضربات الصاروخية وانتشار الألغام البحرية اللاسلكية، التي زرعتها المليشيات الحوثية، فضلًا عن تنفيذ ضربات للقطع البحرية الخليجية بواسطة طيارة من دون طيار، حيث تحاول البحرية الأمريكية تحجيم هذا النوع من الهجمات، وتنصح دائمًا بعبور مضيق المندب خلال ساعات النهار فقط مع تزايد حجم التهديدات من الألغام البحرية اللاسلكية لكافة السفن.
أما التهديدات المرتبطة بالقرصنة البحرية فمازالت ماثلة، حيث دفعت عمليات القرصنة البحرية، التي برزت في أعوام 2008 و2009 إلى تعزيز التواجد العسكري الدولي في منطقة المضيق والبحر الأحمر، وفقد العرب وزنهم الأبرز فيه وتحول البحر الأحمر إلى منظومة دولية عسكرية لحماية حركة التجارة العالمية من جهة، والمصالح الاستراتيجية للدول الكبرى، حيث توجد قواعد عسكرية من دول تتقاطع مصالحها، مثل الولايات المتحدة والصين، إلى جانب انتشار واضح لأساطيل الدول العظمى والإقليمية، وذلك لمراقبة خليج عدن وحماية الممر المائي من عمليات القرصنة، فضلاً عن تطورات الحرب في اليمن. 
ولعل القاعدة العسكرية الفرنسية هي الأكبر في القارة الإفريقية، وتتمركز في جيبوتي، التي تقع على الجانب الغربي من مضيق باب المندب، وهي تضم 2735 عسكريًا، يتمركز منهم 1576 بشكل دائم في جيبوتي، بينما يقوم 1159 آخرون بمهام قصيرة الأجل في المنطقة. ثم تأتي القاعدة العسكرية الأمريكية «ليمونير» في جيبوتي، التي أنشئت عام 2007، وهي مسؤولة عن العمليات والعلاقات العسكرية مع الدول الإفريقية، وبلغ تعداد قواتها ما يقرب من 4 آلاف جندي، وأصبحت مقرًا لقوات «أفريكوم» فترات متقطعة في المنطقة، ومهمتها مراقبة المجال الجوي والبحري والبري للسودان وإريتريا والصومال وجيبوتي وكينيا، واليمن، هذا إلى جانب وجود قواعد يابانية وصينية، حيث يشير الاحتفال بالذكرى الـ49 لإنشاء الجيش الصيني أخيرًا في بكين إلى توجه صيني بعسكرة دوره حول العالم. 
ب- التهديدات الاقتصادية:
يشكل باب المندب شريانًا حاسمًا للاقتصاد العالمي، فهناك 52 سفينة و4 ملايين برميل من النفط تمر عبر المضيق يوميًا، و50 مليون طن من المنتجات الزراعية، مما يجعله رابع أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، والوحيد الذي يواجه سيولة أمنية تصل إلى حد الفوضي. وهو ما يجعل المخاوف مستمرة بشأن تأمينه، وحساب حجم الخسائر المترتبة على تصاعد المخاطر ببوابة الدموع، فطبقًا لتقرير الطاقة السنوي الصادر عن جامعة كولومبيا عام 2018 فإن إغلاق باب المندب كممر مائي، ولو مؤقتًا، يمكن أن يؤدي إلى زيادات كبيرة في تكاليف الطاقة الإجمالية وأسعار الطاقة العالمية، حيث إن إغلاق باب المندب سيمنع وصول نفط الخليج العربي إلى قناة السويس أو خط أنابيب سوميد وتحويلها إلى الطرف الجنوبي من إفريقيا، مما يزيد من وقت العبور وتكلفته، بالإضافة إلى ذلك، لن يعود بالإمكان لتدفقات النفط الأوربي والجنوبي الإفريقي التوجه إلى الأسواق الآسيوية عبر قناة السويس وباب المندب. وطبقًا للتوقعات الاقتصادية فإن التكاليف الإضافية للنقل البحري سوف تتزايد بمبلغ 45 مليون دولار يوميًا، إضافة إلى الارتفاع في تكاليف الشحن المترتبة على زيادة مسار الناقلات بحوالي 6000 ميل بحري.

ثانيًا: لماذا تحول باب المندب إلى بوابة الدموع:
أ- الدور الإيراني
تعزز الوجود الإيراني في منطقة القرن الإفريقي بعد حرب يوليو 2006 في لبنان، احتسابًا لردود الفعل الإقليمية والدولية على نتائج هذه الحرب، حيث استقر الأمر في طهران على خروج إيران من دائرتها المعتادة، والعمل على رسم خريطة جديدة لنفوذها البحري، والخروج من الدائرة المحدودة بمياه الخليج العربي والمياه الساحلية للمحيط الهندي. وبدأت عناصر القوات البحرية لفيلق الحرس الثوري الإسلامي في خليج عدن في العمل منذ نوفمبر 2008، عندما أَرسلت أول سفينة حربية لتسيير دوريات لمكافحة القرصنة ردًا على استيلاء قراصنة صوماليين على سفينة شحن إيرانية.
وقد تبلورت ملامح الاستراتيجية الإيرانية في البحر الأحمر عام،2009 وذلك بانعقاد القمة الإيرانية الجيبوتية وهي القمة التي انتهت بالتوقيع على مذكرة تفاهم للتعاون المشترك، تضمنت الإعفاء من تأشيرات الدخول لمواطني البلدين، وبناء مراكز للتدريب فيما عرف لاحقًا بالحرس الثوري الإفريقي، بالإضافة إلى منح البنك الإيراني قروضًا للبنك المركزي الجيبوتي، وإنشاء لجنة مشتركة ومساهمة في عملية التنمية في جيبوتي، وقد تعزز الدور الإيراني في اليمن مع تزايد علاقاته مع الحوثيين في اليمن، فكان للمجهود الإيراني دور كبير في تحول الحوثيين إلى ميليشيا عسكرية مسلحة، مهددة للأمن القومي اليمني، وهو التداعي الأبرز الذي أسفر عن توجهات التحالف العربي ضد تصاعد الدور الإيراني في اليمن.
ب- استمرار تأثير حركة الشباب الصومالية 
بعد فترة من الهدوء النسبي، عادت حركة الشباب المجاهدين لتطفو مجددًا على سطح الأحداث في الصومال، وذلك اعتبارًا من نهاية 2017، كما تضاعفت قدراتها مع الانسحاب الأمريكي العسكري من الصومال نهاية 2020، وذلك بمعيار قوة التدمير وحجم الخسائر الناجمة عنها، الأمر الذي يحمل رسائل قوية لخصوم الحركة في الداخل والخارج. وبطبيعة الحال فإن مساعي حركة الشباب في تقويض المحاولات الجنينية لإنشاء مؤسسات الدولة في الصومال يشكل تهديدًا واسعًا لكل دول الخليج مع تصاعد فرص تنامي الهجمات الإرهابية في الإقليم. 

ثالثًا: كيف يمكن مواجهة التهديدات؟
أ- على الصعيد الإقليمي 
تبدو التفاعلات الراهنة بين المملكة العربية السعودية وإيران مقدمة ربما لتحولات جدية في الإقليم، حيث برزت لقاءات بين الطرفين في الآونة الأخيرة، في هذا السياق فإن خطوات معالجة الانقسامات الخليجة تبدو مهمة.
 وبطبيعة الحال قد يترتب على التفاعلات الإيرانية السعودية من جهة، والخليجية - الخليجية من جهة أخرى، تخفيض لمستويات التوتر الناتجة عن الحرب السعودية - الإيرانية، انطلاقًا من المنصة اليمنية، حتى يمكن صياغة الأوضاع في اليمن على نحو يراعي إجمالي معطيات الأمن الخليجي بكل دوله دون استثناء.
ب- على الصعيد الدولي 
تبدو المعالجات العسكرية مطلوبة كمرحلة أولى لتحسين حالة الأمن بباب المندب، وذلك من حيث تعزيز القدرات المرتبطة بمواجهة الصواريخ من الساحل اليمني، وكذلك الزوارق الصغيرة. ومن شأن تحسين منظومات الأسلحة على متن السفن والمروحيات المخصصة للاشتباك المتوسط المدى على سطح المياه أن يساعد قوات التحالف على تعزيز قدرة سفنها على مقاومة تلك التهديدات.
وفي هذا السياق لابد من تكرار مجهود دولي لإزالة الألغام البحرية على نحو مماثل لما جرى عام 1984، على أن المجهود الأبرز يبدو عربيًا بامتياز، وذلك بالعمل على تعزيز القدرات الشاملة للنظام العربي بحوامله المصرية والخليجية، وذلك في مواجهة مطامع دول الجوار الإقليمية.
أما على المستوى السياسي فيبدو أن التضاغط الأمريكي - الصيني في المرحلة الحالية سيكون مؤثرًا بشكل كبير على حالة الأمن في كل من باب المندب والقرن الإفريقي، وذلك في مساحات متشابكة استراتيجيًا.
إجمالاً نستطيع القول إن ضعف النظام العربي الذي ترتب على حرب الخليج الثانية، قد أسفر عن فراغ في مناطق المصالح العربية الحيوية، وهو الفراغ الذي سمح بالتمدد الإقليمي لقوى غير عربية، كما سمح بتمدد المصالح الدولية بمضيق باب المندب. وربما تكون استعادة قدرات وفاعلية النظام العربي هي أحد شروط الاستقرار والأمن الإقليمي خصوصًا في المناطق الحساسة لجميع أنواع وجنسيات المصالح كباب المندب، حتى يتخلص من دموعه المسالة، ويعيش البشر في مناطقه بسلام ■