الحُجّاج المزيّفون وصلوا إلى مكة

الحُجّاج المزيّفون وصلوا إلى مكة

أثارت مكة بقداسة كعبتها المشرّفة، ومنع دخول غير المسلمين إليها، فضول الغرب قرونًا عديدة، فقد بلغت مكة من العزلة حدًا لم يستطع معه أحد من أولئك الذين يدينون بديانات أخرى غير الإسلام، رؤية الكعبة والبقاء على قيد الحياة، وذلك اعتبارًا من بداية الهجرة. لكن هذه السرية البالغة أثارت فضول كثير من الأوربيين، الأمر الذي شدهم تمامًا إلى الجزيرة العربية، وبناء عليه، وبالرغم من شدة المصاعب والأخطار، وبالرغم أيضًا من صغر العائد أو المكافأة، فإنّ هناك اتفاقًا على أن ما يقرب من عشرين رجلًا، من أولئك الذين وُلدوا على المسيحية وماتوا عليها، استطاعوا تسجيل مغامراتهم في أقدس أماكن تلك المدينة.

 

من المؤكد أن هناك أوربيين كثيرين زاروا المدينة، ولم يتركوا أي شيء عن رواياتهم عن تلك الزيارات، كما يقول الكاتب الإنجليزي ديفيد جورج هوجارث في كتابه «اختراق الجزيرة العربية»، الذي يتناول الرحلات التي قام بها أوربيون إلى داخل الجزيرة العربية وليس إلى سواحلها التي كانت معروفة بشكل جيد للأوربيين في ذلك الوقت، وهو يرصد تلك الرحلات التي تمت خلال ما يقرب من ثلاثة قرون تنتهي في أوائل القرن العشرين، حيث صدر كتابه عام 1905، وقد صدرت الطبعة العربية للكتاب عن المركز القومي للترجمة في مصر، وترجمه صبري محمد حسن، وبين أيدينا الطبعة الثانية الصادرة عام 2009.
يركّز الكتاب على جانب الاكتشافات الجغرافية التي قدّمها هؤلاء الرحالة المتنكرون، أو الحجاج المزيّفون، حيث كان بعضهم يدّعي الإسلام، ويذهب إلى مكة ليحج، وخلال الرحلة يرصد الكثير من مظاهر الحياة والجغرافيا، والشعائر، والطقوس.
وبرغم الأهمية العلمية والتاريخية للكتاب؛ التي تجعلنا نقرؤه ونحلل ما فيه، فإنّ كاتب هذا المقال ينبغي أن يوضّح موقفه من مؤلف الكتاب ديفيد هوجارث، الذي كان ممثلًا للمندوب السامي البريطاني في مصر خلال الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918)، وكان أحد المخططين لثورة الشريف حسين عام 1916م المعروفة بالثورة العربية، والتي كان من أهم أهدافها عرقلة الزحف الألماني - التركي المشترك نحو بلاد العرب. فقد كان له موقف مشين من القضية العربية الكبرى في العصر الحديث (قضية إنشاء الكيان الصهيوني) على أرض فلسطين، والتي بدأت بوعد بلفور المشؤوم عام 1917.
ويصف مترجم الكتاب موقف هوجارث بأنه نفاق وتغرير بالشريف حسين، لكنّني أراه ليس أقل من موقف شديد الخسّة، فعقب صدور تصريح بلفور «طلب الشريف حسين من المكتب العربي في القاهرة تعريفًا لمعنى التصريح، وأجيب إلى طلبه بإيفاد هوجارث إلى الحجاز، الذي تمكّن بمراوغته السياسية من تهدئة الشريف حسين وطمأنته، مؤكدًا له أن الاستيطان اليهودي في فلسطين لن يكون مسموحًا به إلّا بقدر ما يتفق مع حرية السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، وكان من نتيجة تلك التهدئة أن بعث الشريف حسين إلى القائمين بالثورة، مؤكدًا لهم أنه تلقّى تبليغًا من الحكومة البريطانية بأن الاستيطان اليهودي لن يتعارض مع استقلال العرب. 
وليس ثمة ما هو أشد من ذلك التبليغ الذي نقله هوجارث إلى الشريف حسين نفاقًا وتغريرًا».

صدق الإدريسي
كان الغرب قد ترجم كتابات الإدريسي وعرف من خلالها الكثير عن مكة، ثم أكّد رحالة الغرب المتنكرون في زيّ الحجاج صدق ما ذكره الإدريسي، مع تغييرات تتعلّق بالتوسعات أو الإنشاءات التي تحدث بمرور الزمن.
ويصف دي فارتيما (الإيطالي) مكة سنة 1503م بأنها «مستوطنة جيدة البناء وغير مسوّرة، وتضم حوالي ثلاثين ألف نسمة وطائفة كبيرة ومتباينة من التجار».
أما بدو الصحراء في ذلك الزمان فيصفهم فارتيما بأنهم «رجال أصحاب بشرة صفراء تميل إلى السواد، ولهم خصلات من الشعر الأسود الطويل، وأصواتهم حادة، ويتسلّح كل واحد منهم بحربة طويلة، ويركبون الخيول دون أن يضعوا سُرجًا على ظهورها». أما المدينة المنورة فكانت في هذا الزمان مكانًا قاحلًا صغيرًا.
وأما الرحالة نيبور، الذي وصل إلى جدة عام 1762، فلم يزد كثيرًا عما ذكره دي فارتيما قبله، لكنّه كرر «خرافة دي فارتيما التي مفادها أنه لا يزال في خيبر بعض من اليهود القدامى غير المتحضرين، وذلك بالرغم من أن بعض معارفه من المسلمين العليمين قالوا له إن هؤلاء العبرانيين الذين يعملون في مواسم الحج ليسوا إلّا عربًا من قبيلتي حرب وعنزة».
لكن الاهتمام الحقيقي اشتد بعد ظهور مشروعات نابليون في الشرق، وفشل حملاته على كل من مصر وسورية، وخصوصًا بعد ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتحالفه مع محمد بن سعود، وانتشار تلك الدعوة الإصلاحية على المستويين المعنوي بكثرة الأتباع والمريدين، والمادي باكتساب ابن سعود نصرًا وأرضًا جديدة يومًا بعد آخر.
ويرى نيبور أن «المسلمين بشكل عام لا يضطهدون أصحاب الديانات الأخرى عندما لا يكون لديهم ما يخيفهم... وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينادي بإيمان أبسط بكثير من ذلك الذي ينادي به أتباعه... وأن العناصر الخرافية في ذلك الإيمان، التي منها تأليه الأولياء على سبيل المثال، ليست من عند مؤسس هذا الإيمان».

علي بك العباسي
من أشهر الرحالة المتنكرين أو الحجاج المزيفين، رجل أطلق على نفسه اسم علي بك العباسي. جاء هذا الرجل ومعه عدد من الخدم والآلات والأجهزة العلمية، بهدف معلن هو الملاحظة العلمية، حيث كان يتقن اللغة العربية وعلم النبات والجيولوجيا. لكنّه إسباني الأصل، اسمه دومينجو باديا ليبلش، وهناك إشارات إلى أنه كان يهوديًا، وأنه من جواسيس نابليون بونابرت.
رأى علي بك حشود الحج النجدية عام 1807، وأفرادها يتدافعون بغية الوصول إلى الحجر الأسود ويحطمون المنطقة المحيطة به، ويصفهم قائلًا: «إنهم لا يسرقون لا بالقوة أو النصب والاحتيال، اللهم إلّا إذا علموا أن ذلك الذي سيسرقونه إنما هو ملك لعدو أو لواحد من الكفار. وهم يدفعون من أموالهم أثمان كل الأشياء التي يبتاعونها، كما يدفعون أيضًا ثمن أية خدمة من الخدمات التي تؤدى إليهم».
أتقن هذا الرجل تنكّره لدرجة أنه سُمِح له بالمشاركة في غسل بيت الله، وكان أول من حدّد موقع مكة المكرمة عن طريق الملاحظة الفلكية. وبعد ذلك بثلاث سنوات جاء رجل آخر يدّعي الإسلام، وقد أهّل نفسه ليكون درويشًا يغامر ويخاطر في أراضي المسلمين، هذا الرجل هو أولريش جسبار سيتزن، الذي كان واحدًا من علماء النبات المشهورين في أوربا، وكان يتقن اللغة العربية، ويعمل في الخدمة الدبلوماسية الروسية.
أدى سيتزن فريضة الحج، وزار كلًّا من صنعاء وعدن، وهو ينتحل شخصية الحاج موسى الطبيب، لكنّه لم يتجاوز منطقة تعز، نظرًا لاغتياله هناك.
شعر الخليفة العثماني بخطر ازدياد نفوذ وقوة الوهابيين وآل سعود في الحجاز، فأصدر أوامره إلى واليه في مصر (محمد علي) بالتصدي لهم، فتجاهل الأخير هذه الأوامر أكثر من مرة، ثم اضطر إلى تنفيذها بإيفاد ابنه طوسون على رأس حملة في خريف عام 1811.
يقول جوهارث: «تميزت حقبة الحملات المصرية على الجزيرة العربية بحدوث تقدُّم بالغ في تعرُّف أوربا على شبه الجزيرة العربية، هذه الحملات زادت من هذه المعرفة بطريق غير مباشر لا بطريق مباشر.
فقد رافق هذه الحملات حوالي عشرة من الأوربيين في مواقع رسمية وبطريقة علنية، ويضاف إلى هؤلاء العشرة عدد آخر غير معروف من الأوربيين الآخرين الذين تحوّلوا إلى شرقيين عن طريق الارتداد عن دينهم والدخول في الدين الإسلامي؛ منهم على سبيل المثال ذلك الأغا المملوكي الذي يُدعى توماس كيث في بعض الأحيان، والذي كان جنديًا في الوحدة الثانية والسبعين من الجنود الأسكتلنديين؛ هذا الرجل شغل - لفترة قصيرة من عام 1815 - أغرب منصب يمكن أن يصل إليه مواطن أسكتلندي، ألا وهو تولي منصب محافظ المدينة (المنورة)».
أما الوحيد الذي وصلت إلينا روايته وتسجيلاته؛ كما يقول هوجارث، فهو جيوفاني فناتي الفيراري، الذي هجر الجيش الفرنسي والتحق بالجيش التركي وخدم مع طوسون (الابن الثاني لمحمد علي)، وقضى مدة في مكة.

وصف موسوعي
أما أشهر الحجاج المتنكرين فهو سويسري من مدينة بازل يُدعى جوهان لودفيج بركخاردت، الذي كان معروفًا عند محمد علي بصفته إنجليزيًا مرتدًا عن دينه، وهو الذي اكتشف بيترا (Petra) في الأردن، وهي مدينة قديمة تقع في أحد الأحواض على الضفة الشرقية لوادي عرابة، وكانت عاصمة للأنباط.
نزل بركخاردت إلى مدينة جدة متنكرًا باسم إبراهيم بن عبدالله، وهو يقر أنه «لم ينعم بالسلام والطمأنينة إلّا عندما كان في مكة، ويعد وصفه لكل من جدة ومكة (المكرمة) وصفًا موسوعيًا، والثمرة الطيبة لعين متأنية وفاحصة لم تغمض مطلقًا عن الاهتمام بكل ما لا يتعلق بالبشر.
ذهب مباشرة من جدة إلى الطائف، مارًّا بذلك على ركن من أركان مكة (المكرمة)، كما مرّ أيضًا من فوق جبل قورة؛ وبعد أن تحسّنت علاقته بمحمد علي، عاد في ثوب التقوى والدين إلى المدينة المقدسة، ليكون في انتظار مجيء قوافل الحج، وبصحبة المؤمنين أدّى الرجل فريضة الحج في شهري نوفمبر وديسمبر، لكن ضاعت منه فرصة العودة ومغادرة مكة (المكرمة) مع بعثة الحج السورية، وكان السبب في ذلك هو هروب الجمّالة المرافقين لبركخاردت.
ومع ذلك، وعندما عثر الرجل على جماعة صغيرة متجهة إلى المدينة (المنورة) في شهر يناير عام 1815، رافق تلك الجماعة على الطريق الساحلي، وزار قبر النبي (صلى الله عليه وسلم). 
وصف بركخاردت مشاهد الحج بدقّة وتفصيل، يوم عرفة وسماع الخطبة ورمي الجمار والنحر في منى... إلخ، وهو يصف مثلًا الأحوال المختلفة لمن يستمعون إلى الخطبة «بعض منهم، ومعظمهم من الأجانب، كانوا يصيحون بصوت عال ويبكون، ويضربون صدورهم، ويعترفون بأخطائهم وخطاياهم الكبيرة أمام الله؛ آخرون (وهم الأقل عددًا) كانوا واقفين يتأملون ويفكرون في صمت وقد اغرورقت عيونهم بالدموع. في الوقت نفسه كان هناك كثيرون من أهل الحجاز وكثيرون من الجنود في الجيش التركي كل أولئك يتسامرون وينكّتون؛ وعندما كان الآخرون يلوّحون بملابس الإحرام، كانوا يأتون بحركات عنيفة، كما لو كانوا يسخرون من ذلك التجمّع. وفي الخلف، وعلى تلّ من التلال، لاحظت جماعات عدة من الجنود العرب الذين كانوا يدخّنون النرجيلة؛ وفي قافلة قريبة، كانت تجلس امرأة من العامة، كانت تبيع القهوة، في حين أن زوّار هذه المرأة يزعجون الحجاج من حولهم بضحكهم وتصرفاتهم الصاخبة».
كما فعل الأوربيون في إفريقيا وآسيا فعلوا في الجزيرة العربية، لم يدّخروا وسعًا ولا حيلة أيًا كانت مدى أخلاقيتها ولياقتها إنسانيًا، لمعرفة البلاد الأجنبية؛ وجغرافيتها، وتاريخها، وعادات أهلها، وإمكاناتها الاقتصادية والتجارية... إلخ، تمهيدًا لمدّ أذرع أوربا الأخطبوطية لتستولي على كل هذا لنفسها. لو كان التاريخ سيعلّمنا شيئًا فهو الحذر ممّن يرغب في أن يسرق لنفسه ممّا منح الله الآخرين ■