الحضارة المنسيّة لـ «قفصة» التونسية
تُنسب هذه الحضارة إلى مدينة قفصة بجنوب تونس الحالية. وقد ظهرت قبل الحضارات الكبرى التي عرفتها الإنسانية كالحضارات الفرعونية والصينية والبابلية والفارسية واليونانية. ذلك أنها ظهرت بين 10000 و6000 سنة قبل الميلاد، أي في آخر العصر الحجري القديم وفي العصر الحجري الوسيط والحديث، في المناطق الداخلية من شمال إفريقيا الحالي، خصوصًا في تونس والجزائر والمغرب، حيث وجدت آثار الإنسان المشتاني الممتدة إلى الحضارة القفصية، وذلك في مغارة تافوغالت، وفي بعض المناطق ببرقة. وكانت عاصمتها مدينة قفصة الحالية وأحوازها بالجنوب الغربي التونسي، ومنها انتشرت حتى عمّت كل الشمال الإفريقي، بما في ذلك الصحراء الكبرى. في تلك الحقبة الزمنية، كان المناخ المغاربي شبيهًا بالمناخ الحالي لإفريقيا الشرقية، حيث كانت السهول مكسوّة بالأعشاب (مروج عشبية) والمرتفعات مكسوة بالأشجار (غابات) فيها من الحيوانات الفيلة والأسود والنمور والقردة والغزلان والأيائل وبقر الوحش والثعابين العملاقة، وكانت بها أنهار جارية تعجّ بما لا يُحصى من أنواع السمك.
ومن خلال أعمال البحث التي قام بها علماء الآثار المحدثون والتطور الكبير الذي عرفته الاكتشافات الإتنولوجية والبحوث البالينتولوجية، أثبت كل ذلك أن المغرب الكبير عرف استقرار الإنسان على امتداد جغرافيّته منذ أكثر من 10 آلاف سنة قبل الميلاد.
اكتشف الباحثون بقاياهم في منطقة «مشتى العربي» قريبًا من مدينة قسنطينة الجزائرية حاليًا، ثم انتشروا في كل أنحاء المغرب الكبير، وقد ورثهم الإنسان القفصي منذ 8 آلاف سنة قبل المسيح عليه السلام، حيث وجدت آثار هذا الإنسان وبقاياه في البلاد التونسية الحالية، وقد اعتاشوا على الحلازين التي وجدت بقاياها ضمن تلال سوداء سمّيت بالرماديات.
كما كانوا يقتاتون من أنواع عديدة من الحيوانات، إذ تراوح قوتهم الغذائي من الثيران والغزلان إلى الأرانب البرية، كما تمثّل قوتهم النباتي في الثمار والحبوب والفواكه الجافة والعساقيل. وقد دجّن القفصيون، في العصر الحجري الحديث، أي منذ 6500 سنة قبل الميلاد، الخرفان والماعز والثياثل والرعي بها، فضلًا عن مواصلتهم صيد الحيوانات الأخرى، إذ يعدّ القفصيون أول الرعاة في تاريخ الإنسانية، كما أظهرت بعض الأبحاث أن بعض المجتمعات القفصية قامت بنوع من الزراعة البدائية.
يعد الإنسان القفصي إنسانًا عاقلًا، ويعتبر الأب الأصلي والحقيقي لكل الحضارات التي عرفتها ضفاف البحر الأبيض المتوسط. ومن هذا المنطلق يحسب علماء التاريخ القديم أن الإنسان العاقل استقر في منطقة المغرب الكبير في الفترة نفسها التي عاش فيها هذا الإنسان في أوربا. وهناك من يعتقد أن القفصي عمّر المغرب الكبير قبل الإنسان الأوربي ببضع مئات السنين، ويذهب علماء آخرون إلى الظن بأن سكان أوربا الأوائل هم قفصيون وصلوا إليها عن طريق مضيق جبل طارق في إسبانيا من جهة الجنوب، مع هجرات بشرية أخرى وصلت إليها من الشرق ومن الهند.
أقسام الحضارة القفصية:
1- الحضارة القفصية المثالية أو الشرقية
تمركزت وسط تونس حول مدينة قفصة وفي شرق الجزائر حول مدينة تبسة، وقد تميّزت بصناعة أدوات حجرية كبيرة، مصنوعة من صفيحات صوّانية ذات قفا منحوت بحدّة، منها الشفرات والمكاشط (المساحج)، خصوصًا الأزاميل، ولم يكن الشكل الهندسي لهذه الأدوات مهمًّا لديهم، فإن وُجد فهو مثلث.
أما صناعة الأدوات العظمية فكانت نادرة لديهم، وهي متمثلة في مثاقب ضيقة ومستدقة.
كما نلاحظ من خلال المكتشفات أن تلك الحضارة طورت فنونًا جميلة غاية في الدقة، خصوصًا المنحوتات الحجرية التي تمثّل جانبًا من حياة الإنسان القفصي في تلك الأزمان الغابرة.
2- الحضارة القفصية العليا
تمركزت الحضارة القفصية العليا أو الغربية في وسط الجزائر (حول مدينة سطيف وجنوبها)، وتميّزت بصناعة أدوات حجرية صغيرة ومتنوعة ذات شكل مثلث أو شبه منحرف، أحيانًا مثلّمة أو مسنّنة، منها الشفرات والمثاقب والنصال، ونادرًا الأزاميل. وكانوا ماهرين في صقل الأدوات التي يستعملونها في معيشتهم: فؤوس حجرية من حجارة الصوان يستعملونها للحفر، ورؤوس نبال لصيد الحيوانات البرية والأسماك النهرية، كما مهروا في صناعة المكاشط والإبر والمخارز لخياطة الجلود لملابسهم وأحذيتهم، ويدلّ ذلك على أن حضارتهم كانت متقدمة بمقاييس تلك الأزمان الغابرة.
السكن لدى القفصيين
سكن القفصيون أكواخًا صنعوها من أغصان الشجر، كما سكن الرعاة المغارات في الجبال أثناء فصل الصيف. ونجد في الأماكن التي سكن فيها القفصيون كديات تبلغ مساحتها من بضعة أمتار مربعة إلى مئات الأمتار، ويبلغ ارتفاعها من أقل من متر إلى ثلاثة أمتار أو أكثر، وتحوي هذه الكديات قواقع حلازين كاملة ومهشّمة، وكمية كبيرة من الرماد والأحجار المحروقة وبقايا منحوتات، وأحيانًا مقابر، وتسمى هذه الكديات بالرَمَادِيات أو الكُدْيَات السُود.
الديانة في الحضارة القفصية
لا تتوافر أدلة كبيرة عن المعتقدات والأديان القفصية، لعدم وجود تدوينات مكتوبة عن تلك الفقرة البعيدة من حياة الإنسان، غير أن الحفريات أظهرت أن طرق دفنهم لموتاهم توحي أنه كانت لديهم معتقدات بحياة أخرى بعد الموت، إذ كانوا يدفنون موتاهم في أوضاع مختلفة (منها الوضع الجانبي المثني)، مزيّنة أبدانهم بحجر المُغْرَة، ومرفقين بأدواتهم وأوانيهم. ويعتبر معلم «القطار» القريب من مدينة قفصة أقدم المعالم الدينية المكتشفة، وهو يجسّد بناء بسيطًا أقامه الإنسان القفصي منذ أكثر من 10 آلاف سنة على ضفاف سبخة، لغايات عقائدية للمحافظة على منبع الماء. ويتمثّل البناء في كومة مخروطية الشكل تتركب عناصرها من حجارة مدوّرة وعظام حيوانات وقواقع حلزون وأدوات من الصوان، وقد اكتشف هذا المَعْلم سنة 1950 عالم الآثار والأركيولوجيا الفرنسي ميشال غرويي.
الفنون في الحضارة القفصية
اشتهرت الحضارة القفصية بالجداريات التي رسمها فنانو ذلك العصر على الصخر الأملس للجبال أو داخل المغارات، كما أنهم لم يكتفوا بالرسم، بل حفروا بعض مشاهد هذه الجداريات بآلاتهم الحجرية البسيطة المصنوعة من حجر الصوان، وتظهر فيها مشاهد عمّا كانت عليه طبيعة تلك البلاد في الأزمان الغابرة، قبل أن تتحول إلى صحارى قاحلة. وفي قراءة بسيطة لتلك الجداريات المرسومة أو المحفورة نشاهد حيوانات السافانا الإفريقية الحالية: أسود ونمور وفيلة وقردة وأبقار وحشية وغيرها، مما يدل على أن كل بلاد المغرب الكبير كان يسودها مناخ ماطر لا يشبه المناخ الصحراوي السائد الآن في هذه البلاد.
ولم يكتفِ إنسان تلك الأزمان بالجداريات الكبيرة والصغيرة، بل ترك لنا مجموعة كبيرة من المنحوتات للإنسان والحيوان الذين تعايشوا في ذلك الزمن البعيد. وبواسطة أدوات بسيطة مصنوعة من حجر الصوان (إذ لم يكتشف الحديد واستعمالاته في ذلك الزمن) أبدع فنانو الحضارة القفصية منحوتات غاية في الدقة والجمال. وهذه نماذج من تلك المنحوتات:
أم الحضارات
تٌعد الحضارة القفصية أم الحضارات التي عرفتها الإنسانية منذ بواكيرها الأولى (بين 10 و4 آلاف سنة قبل ميلاد المسيح). وكانت مدينة قفصة التونسية عاصمة تلك الحضارة التي انطلقت منها لتعمّ كل أنحاء المغرب الكبير، بما فيه الصحراء الكبرى التي كانت تعجّ بالحياة الحيوانية والنباتية وبمياه الأنهار والبحيرات. وقد وصلت في أوج ازدهارها حتى واحات سيوة المصرية شرقًا وإسبانيا وجنوب أوربا في الشمال. لكن هذه الحضارة ظلت مجهولة أو تكاد خاصة لدى المؤرخين العرب قديمًا وحديثًا، لولا أن نفض عنها غبار النسيان ثلّة من المؤرخين الغربيين والفرنسيين، خاصة في بدايات القرن العشرين عندما اكتشفت شركات الفوسفات الحوض المنجمي في قفصة ■
تدجين الأبقار