بيات موندريان «موسيقى برودواي»

بيات موندريان «موسيقى برودواي»

  بيات موندريان رسام هولندي ومنظّر، وواحد من روّاد الفن التجريدي، خرج تأثيره من دائرة فن الرسم ليطال العمارة والديكور وحتى تصميم الأزياء، حيث بات يُنظر إليه على أنه المؤسس الأكبر لكل الحداثة التي ظهرت في القرن العشرين.
وُلِد موندريان في هولندا عام 1872م، ودرس الفن أولًا على يد والده المتشدد في المحافظة على أصول الرسم الكلاسيكية، ومن ثم في أكاديمية الفنون، وغلبت الانطباعية على أعماله الأولى التي ظهرت قبل عام 1905. لكن في السنوات الأربع أو الخمس التي تلت ذلك، بدأت ملامح التجريد تظهر على لوحاته الانطباعية، حيث صارت أهمية توزيع المساحات اللونية تطغى على أهمية الموضوع المستوحى من الطبيعة.
في عام 1911، سافر موندريان إلى باريس، حيث تأثر بالفن التكعيبي الناشئ على أيدي بيكاسو وجورج براك. لكن ذلك لم يشفِ غليله، فراح يسعى للوصول إلى «لغة جمالية كونية» صالحة للقراءة والتذوق في مختلف الثقافات.
في عام 1914، عاد موندريان إلى هولندا، واضطرته الحرب العالمية الأولى إلى البقاء فيها. ومن بين التيارات الفنية التي تلت التكعيب، كان التجريد المستوحى من الطبيعة قد ظهر، وبدأ التجريد الهندسي يُطلّ برأسه على يد الروسي كازيمير ماليفيتش، الذي رسم عام 1914 نفسه «مربع أبيض على خلفية بيضاء». لكن فيما كان ماليفيتش يحتفي باللون كمادة وغاية في حد ذاتها، كان موندريان يبحث عن خطاب فني مختلف.
وانطلاقًا من اقتناعه بفلسفة إيمانويل كانْت التي ترى أن العقل قادر على أن يُبدع بالاعتماد على قواه الذاتية، ومن دون العودة إلى أي مرجع خارجي، وبفعل صداقته للرسام بارت فان در ليك، الذي كان يرسم بالألوان الأساسية الثلاثة فقط، وتأثره به، أطلق موندريان حركة فنية جديدة باسم «دى ستيل» (الأسلوب)، ضمّت إليه عددًا من الفنانين والمعماريين من أبرزهم فيلموس هوتزر، وروبرت فان توف، وجيريت ريتفلد، إضافة إلى فان در ليك. 
وأصدر المنضوون في هذه الحركة نشرة فنية عام 1917 تحمل اسم حركتهم، وشرح موندريان على صفحاتها نظريته، ودعوته إلى فن يحتفي بأبسط الأشكال الهندسية، ألا وهو الخط المستقيم، واعتماد الألوان الأساسية الثلاثة فقط؛ الأصفر والأحمر والأزرق، إضافة إلى الأسود، لأنّ الفن أسمى من الواقع، ولا علاقة مباشرة له بالواقع». وقد سمّى هذا الاتجاه الفني «التشكيلية الجديدة» (نيوبلاستيسيسم).
 وبعدما أقام موندريان في باريس مدة 10 سنوات تقريبًا، بلغت فيها شخصيته الفنية نضوجها الكامل، عاد إلى هولندا في أواخر الثلاثينيات، بسبب صعود الفاشية، ومنها سافر إلى لندن، ثم إلى أمريكا عام 1940، حيث بقي حتى وفاته عام 1944.
واللوحة التي نقف أمامها هنا، هي من آخر أعمال الفنان، وتُعبّر عن خاتمة مطافه مع التجريد الهندسي.
 وهنا تجدر الإشارة إلى أن اسم هذه اللوحة بالإنجليزية هو «برودواي بوجي ووجي»، والـ «بوجي ووجي» هو اسم نوع من الموسيقى الاستعراضية راج خلال أربعينيات القرن العشرين في مسارح برودواي، التي كثيرًا ما كان موندريان يتردد عليها في مدينة نيويورك. فبخلاف لوحاته الريادية في هذا المجال، صار للوحة عنده اسم يربطها بمصدر أو موضوع خارجي.
وأول ما نلاحظه في هذه اللوحة، مقارنة بما سبق للرسام أن أنتجه باللغة الشكلية نفسها، هو غياب الخطوط السوداء السميكة، لتحلّ محلها خطوط أفقية وعمودية مؤلفة من عدد كبير من المستطيلات والمربعات الملوّنة الصغيرة، مع طغيان واضح للون الأصفر الذي يسهل ردّه إلى كثرة الأضواء الاصطناعية في شارع المسارح ودور العرض هذا.
 ولربما كان في كثرة المربعات والمستطيلات الصغيرة هذه ما يعبّر عن النوتة الموسيقية وتعدد جُمَلها وتلوّنها، أو حركة السيارات في هذا الحي. ولكن إن كان يصعب تأكيد هذه النقطة بالبرهان الواضح، فلا شك في أن تركيب هذه الخطوط الأفقية والعمودية مستوحى بوضوح من تخطيط شوارع مدينة نيويورك. وفي هذا ما يدل على أن الفنان الذي أراد التحرر من الواقع والتأثر بالطبيعة، بقي فنه غارقًا حتى الأذنين بالواقع والاستلهام منه.
في المقابل، لا شك في أن موندريان أبدع لغة جمالية تجاوزت حدود الفن التشكيلي، وألهمت تشكيل مدرسة البوهاوس في فن التصميم، ووصل استلهامها إلى حدود استنساخها في تصميم الأزياء (كما هي الحال عند إيف سان لوران عام 1966)، وصناعة المفروشات والحليّ والعمارة، وبسبب بلاغتها في التعبير عن الحداثة، فإن الأعمال التي استنسخت هذه اللغة تمتعت بمستوى من القيمة فتح أمامها أبواب متاحف الفنون الحديثة ■