داود حسني ملحّن مصري أصيل

داود حسني  ملحّن مصري أصيل

تحوّل الدّور الغنائي في الموسيقى العربيّة إلى قيمة تذكاريّة نجلّها ونحترمها إن صادفنا وجودها في كتاب أو في قرص مسجّل، أو لنقل، إن سمعنا من يصدح بها في حفلة أو في مجلس طرب. وننساها، ونتجاهل مبدعيها واحدًا تلو الآخر، في ماعدا ذلك. لقد طرأت تطوّرات مختلفة، وتنوّعت الصّيغ الغنائيّة وحلّ بعضها محل البعض الآخر، وتراجع الملحّن عن تلحين الدّور، وابتعدت المطربة وابتعد المطرب عن غنائه، لصعوبته ربّما، أو لعدم مؤالفته للأجيال الحاضرة. ونحن بتنا نقرّ بما حصل، فلعلّ لكلّ عصر أعلامه ونجومه، وما على الآفل منها سوى الانضمام إلى صرح التّراث، والإقامة في ردهاته المكتظّة. هناك يقيم داود حسني منذ ثمانين سنة، يصلح عوده، ويحصي أعماله، معتمرًا طربوشه اعتزازًا بما أبدع، وافتخارًا بما أعطى.

 

وُلد داود حسني، دافيد حاييم إلياهو ليفي، في حي الصّنادقيّة قرب القاهرة، في 26 فبراير 1870. والده كان يعمل في صناعة الحلى، ويعزف على العود، ووالدته كانت تهوى الغناء. درس في مدرسة الفرير الفرنسيّة بالخرنفش حوالي 4 سنوات، لم يُظهر خلالها اهتمامًا كافيًا بالتّحصيل العلمي، إلّا أنّه كان ميّالًا إلى الغناء، ومتميّزًا في إلقاء الأناشيد وإدارة رفاقه في الجوقة المدرسيّة (من مقابلة مسجّلة مع ابنه بديع). واستعاض دافيد الصّغير عن دروسه بالإصغاء إلى أصوات المآذن وأجراس الكنائس وصلوات المعابد، وراح يعدّ مقاطع تلحينيّة، باللّغتين العربيّة والفرنسيّة، ينشرها بين رفاقه فيحفظونها ويردّدونها، كان منها: Dimanche dimanche, le jour de vacance…
إضافة إلى اهتمامه بالإصغاء إلى الألحان الدّينيّة، كان دافيد الصّغير يولي الإصغاء إلى ألحان الباعة والحرفيّين والعمّال، الأهميّة البالغة، كما أنّه كان يترك المدينة كلّما تيسّر له ذلك، قاصدًا الأرياف حيث يتعرّف إلى الطَّبيعة من خلال أصوات طيورها وحيواناتها ورياحها وأشجارها، من هنا جاء  إضفاؤه صفة التّعبير على ألحانه في المسرح الغنائي، في ما بعد، وفي الأوبرات والأوبريتات، تاركًا صفة الطّرب لصيغ الغناء الأخرى: الموشّحات والمواويل والقصائد والأدوار... من دون أن ينفي عن هذه، حالات الوجد والتّأثّر والشّكوى.
وترك دافيد المدرسة قاصدًا مطبعة الشّيخ علي سكّر (الّذي كان من واضعي الأذكار والقصائد الدّينيّة)، حيث راح يتدرّب على تجليد الكتب. هناك، وخلال ساعات عمله، كان لا ينقطع عن الدّندنة والغناء بصوت خافت يسلّي نفسه بواسطته. أنصت إليه الشّيخ سكّر مبديًا إعجابه بما سمع، لا بل سمح له بأن يستمرّ في ذلك، وبأن يرفع صوته إن شاء. لم يقتصر الأمر على هذا، إنّما سمعه بالتّالي الإمام محمّد عبده، الذي كان يقصد المطبعة لتجليد كتبه. أعجب به هو الآخر، وكافأه بشيء من ماله وهو يقول للحاضرين: سيكون لهذا الفتى شأن في عالم الفنّ إذا ما احترف الغناء (وكان محمّد عبده من دعاة الإصلاح، والانفتاح الثّقافي).
استوعب العامل الصّغير ما تيسّر له من مضمون الكتب الّتي كانت تدور بين يديه في المطبعة، معوّضًا بذلك عن بعض ما فاته في المدرسة، وازدادت رغبة الفنّ في نفسه، بينما ازداد رفض والده لهذه الرّغبة. وقف حائرًا بين الحالين، إلى أن قرّرَ أن يسلك الطّريق الّذي سلكه عبده الحامولي في بداية حياته، حين هجر منزله العائلي قاصدًا المنصورة للتّدرّب على أصول الموسيقى والغناء لدى الشَّيخ محمّد شعبان. لا بل يقال إنّه قصد الحامولي للوقوف على نصيحته بهذا الخصوص. وهكذا استقلّ الولد الفنّان أحد المراكب الشّراعيّة قاصدًا المنصورة حيث تيسّر له، بعد طول تفتيش، لقاء الشّيخ المعلّم شعبان، والنَّهل من مَعينه، إيقاعاتٍ وموشحاتٍ وعزفًا على العود، ولم يعد إلى منزله إلاَّ بعد 3 سنوات وثق خلالها معلِّمه من وسع تحصيله، ومن قدرته على خوض غمار الفن في أعلى مستوياته: اذهب على بركة الله. أرى من أستار الغيب أنَّك سوف تُحدث شيئًا مهمًّا في الفن. تلقَّفه والداه بالتّرحاب، وأصبح احترافه للموسيقى أمرًا واقعًا، حيث راح يتابع تحصيله الموسيقي من خلال الاطّلاع على فنون أعلام عصره: عبدالرّحيم المسلوب، عبده الحامولي، محمّد عثمان (برنامج ألحان زمان، محمود كامل وهالة الحريري، إذاعة القاهرة).
وهكذا بدأ الفنّان الجديد يتجرأ في زيادة خطواته الفنّيّة من خلال إطلاق بعض الألحان، وإحياء بعض الحفلات، ممّا لفت نظر عثمان إليه، فأشار إلى فرقته الموسيقيّة بأن ترافقه، إلى أن بدأ اسمه «داود حسني» يحتلّ مكانه بين جماعة الفنّانين، ومن أوائل الأدوار التي عُرفت من تلحينه: «الحق لك عندي يا اللّي غرامك زايد». ويقال إن الحامولي حضر مرّة للاستماع إليه، فأومأ داود إلى الفرقة بالتّوقف عن العزف فور رؤيته له، تهيّبًا واحترامًا. لكنَّ الحامولي بادره بالقول: إنَّما أنا آتٍ للاستماع إليك. فكان جوابه: وأنا يصعب عليّ الغناء وسي عبده موجود... إلى أن هدأت مشاعره واستأنف الغناء. وهكذا كانت شهادة الحامولي به: إنَّ فن داود يرتفع بمكانته إلى مصاف الخالدين. بتلك الشّهادة، وما يماثلها، انتقل داود حسني يخطّ خطواته الواثقة أكثر وأكثر في مطلع القرن العشرين، وقد اشتدَّ عوده وزادت معارفه وتوسّعت شهرته.
    
الدّور
ظهر الدّور في النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر، وكتب بالزّجل، وتكوّن من قسمين: الأوَّل هو المذهب، والثّاني هو الأغصان المتلاحقة، وكان في ذلك شبيهًا بالطّقطوقة، إلى أن استقرّ القسم الثّاني على غصن واحد عُرف بالدّور، مستعيضًا عن تعدّد الأغصان بتعدّد الآهات الّتي يتمّ تبادلها بين المغنّية، أو المغنّي، ومجموعة المردّدين (المذهبجيّة أو السّنّيدة). والدّور في كل حال هو شكل غنائي يلتزم فيه الملحّن بضرورة العودة إلى اللّحن الأساس، بحيث يتمّ الاستقرار على المقام الرّئيس، بعد المرور بألحان ومقامات مختلفة.
عرف الدّور استقراره الأوّل مع عبدالرّحيم المسلوب، إلى أن تطوّر مع الحامولي، وعثمان الّذي عدَّل كثيرًا في إيقاعه وفي تبادل آهاته بحيث أدخل ترجيحات حيويّة على غصنه، ومضى الدّور ليتطوّر أكثر وأكثر مع داود حسني وإبراهيم القبّاني وكامل الخلعي (حسين محفوظ: كتاب  معجم الموسيقى العلابيّة، القاهرة)، ومن الّذين تناولوا الدّور في ذلك العصر أيضًا: محمّد المقدّم، حسين السّاعاتي، محمود الخضراوي، إلى أن وصل الأمر إلى سيّد درويش وزكريّا أحمد ومحمّد عبدالوهّاب.
صحيح أنَّ داود تمكّن من التّعبير عن إبداعه في الفنون الغنائيَّة جميعًا: الطّقطوقة، الأغنية الدّينيّة، الغناء المسرحي، القصيدة، الموشّح (عدا عن الصّيغ الأخرى في الأوبرا والأوبريت...)، إلّا أنّ عطاءه الأبرز كان في صيغة الدّور، خصوصًا بعد أن تميَّز في آهاته، وحيث جال فيها وصال ونوّع. وقد تغنّى بأدواره أئمّة الغناء: يوسف المنيلاوي، عبدالحي حلمي، سيّد الصّفتي، علي عبدالباري، زكي مراد، عبداللّطيف البنّا، محمّد الشّنتوري، محمّد السّبع، صالح عبدالحيّ، محمّد عبدالمطّلب، اللاّونديّة، سهام، أم كلثوم، نادرة أمين، ليلى مراد... أمّا أسمهان فكانت رسالته أن يكون بين مكتشفيها ومشجّعيها، وأن يكون هو من اختار اسمها بدلًا من اسمها الأوّل: آمال، لكي تحلّ برأيه محل مطربة فارسيّة جميلة الصَّوت، كان من سوء حظّها أنَّها رحلت مبكّرة (هذا بالإضافة إلى أنّه يُحسب بين مُكتشفي ومشجّعي ليلى مراد ابنة زميله زكي مراد).
وقد ذهب الأمر ببعض المؤرّخين الذوّاقين إلى استخلاص مختارات من الآهات الّتي وردت في أدواره، وتعميمها في تسجيلات خاصّة، في إشارة إلى براعة الملحّن في صياغتها، وفي الوقت نفسه إلى نجاح المطربات والمطربين في تنفيذها، فمن صفات الدّور أنَّ قطبيه هما: الملحّن، وكلّ من المطربة والمطرب. ومن صفاته أيضًا أنّ التّلحين فيه هو أبعد مدى من النّظم، فعلى العكس من القصيدة الّتي يكون فيها النَّص الشّعري عنصرًا أساسًا بين العناصر الثَّلاثة: النَّص، اللَّحن، والأداء، فإنّ هذا النّص يكون هنا مبسّطًا ومختصرًا، والأهمّية هي في الآهات التي يلبسه إيّاها الملحّن وتتفنّن المطربة، أو المطرب، في إظهارها في ما بعد. ويلاحظ المستمع المتابع، كم من دور غنائي جميل ومشهور، في الوقت الّذي يكون فيه نصّه الكلامي مُرسلًا ومباشرًا وخاليًا من الصّور البيانيّة والمعاني اللّماحة. كما أنّ ذاك المستمع لابدّ أنّه يلاحظ أهمّية الأداء الّذي تتولاّه المطربة أو المطرب خلال تنفيذ اللّحن والتّعبير عنه والانتقال به إلى الجمهور. وتوقّف مسيرة الدّور في الموسيقى العربيّة قبيل نهاية النّصف الأوّل من القرن العشرين خير دليل على صعوبة تلحينه من جهة، وصعوبة أدائه من جهة أخرى، وما العبارة المعروفة «الدّور الغنائي هو سمفونيّة الموسيقى العربيَّة والغناء العربي»، إلّا التّعبير الأبلغ على هذا الصّعيد. أمّا القصيدة فقد عرفت أيّامها الذّهبيّة مع عبده الحامولي وعبدالحيّ حلمي، ومن بعدهما مع سلامة حجازي وأبي العلا محمّد.
لم يكن الدّور يُتلى مفردًا من دون غيره من صيغ الموسيقى والغناء في جلسات الطَّرب، إنّما كانت تسبقه ممهّدات، بحيث يأتي هو طبَقًا رئيسًا يُقدّم للجمهور بعدها (فريدريك لاغرانج، محسن صوّه، مصطفى سعيد: كتاب يوسف المنيلاوي مطرب النّهضة العربيّة، بيروت، مؤسَّسة أمار). ويدخل في تلك الممهّدات: المقدّمات الآليّة، تقاسيم العازفين، اللّيالي، الموشّحات، لازمة العواذل، القصيدة، إلى أن يكون الدّور.
أمّا عن التّخت، أو الفرقة الموسيقيَّة الّتي رافقت داود، فقد تكوَّنت غالبًا من: إبراهيم سهلون (كمان)، يوسف أخي داود (قانون)، علي صالح (ناي)، إبراهيم عيد (إيقاع)، محمّد سليمان ومحمّد فريد (مذهبجيّين).
وكانت لداود تسجيلات كافية في فترة انعقاد المؤتمر الأوّل للموسيقى العربيّة سنة 1932، توزّعت بين أدوار أستاذه محمّد عثمان «عشق الخالص لحبّك»، وأدواره الشّخصيّة «أسير العشق ياما بشوف»، إضافة إلى تقاسيم منوعّة على العود بالطريقة القديمة المشبعة بالطَّرب، والّتي تسودها الهيبة والوقار، وتعتمد على الجمل القصيرة والقفلات الطّروبة المحكمة.

طلّة الرّسم وطلّة النّغم
تميّزت ألحان داود بالعذوبة والإحساس والشّجن. ومن يراقب رسمه يتوقّع أن يتلقّى منه تعابير أخرى مختلفة. واللّافت أنَّ تلك الوقفات «الباشويّة» في رسوم الفنّانين في ذلك العصر كانت متشابهة متقاربة: عبده الحامولي، محمّد العقّاد، عبدالحميد القضّابي، سلامة حجازي، يوسف المنيلاوي، عبدالحي حلمي، أمين حسنين... ولعلّ الفنّان كان يمهّد بذلك للحصول على نيشان فنّي من نوع يرضي به نفسه، ثمّ إنّ تلك الرّسوم كانت تحصل في مرّات قليلة، أو في مرّة واحدة للفنّان الواحد، من هنا كان التّحضير لها تامًّا، ولنا أن نفترض أنّ هناك تشاورًا يحصل بين الفنّان وذويه وأصحابه والمصورّين الّذين يتحلّقون حوله، لاختيار النّظرة المعبِّرة والوضع المناسب. وما من دلالة إلى ندرة تلك الرّسوم أوضح من مراقبة رسم يفترض أنّه لمحمّد عثمان حين كان صغيرًا، بينما هناك من يقول إنّ ذاك الرّسم ليس لمحمّد عثمان، وإنّ هذا الفنّان لم يترك أيّ رسم، ممّا يدع الغلبة في تلقّي ألحانه إلى الأذن وحدها من دون العين، ولنا أن نقيم هنا المقارنة بين هذا الملحّن، ابن القرن التّاسع عشر، صاحب: أصل الغرام نظرة، يا ما أنت واحشني، كادني الهوا...، وفنّانة حسناء ما، من بنات، لا بل من حوريّات، القرن الحادي والعشرين، وذلك حين تكون مستلقية في رسم يُظهر لنا شعرها ووجهها وصدرها وظهرها، وساعديها وساقيها اللّذين تقفز بواسطتهما فوق المسرح وكأنّها في سيرك كبير، تصارع النّمور والسّباع. فما حظّ الأذن من هذه الفنّانة عند غياب حصّة العين؟ في المقابل كان داود يلقّب بـ«صاحب الآذان الذهبيّة» وليس الأذن الواحدة، ولا الأذنين الاثنتين، فالسّمع كان الرّكيزة الأولى في بناء الطّرب في عصره، وما هزّة الرأس التي كانت تتمّ خلال تلقّي الألحان، إلّا إشارة إلى توزيع النّشوة السّمعية بين الأذن ورفيقتها، قبل الوصول إلى الصّدر، والاستقرار في أعماق الفؤاد.

الأعمال
أحصى الباحثون في عطاء داود: في الطّرب 500 مقطوعة للمطربات والمطربين، 25 أوبريت لفرقة نجيب الرّيحاني وفرقة منيرة المهديّة وفرقة أولاد عكاشة (أحمد منسي: كتاب الأغاني والموسيقى الشّرقيّة بين القديم والحديث، القاهرة)، من ذلك العطاء:
- سلّمت روحك يا فؤادي للغرام، دور: يوسف المنيلاوي.
- من يوم عرفت الحبّ، دور: عبدالحي حلمي.
- يا طالع السّعد افرح لي، دور: سيّد الصفتي.
- فؤادي أمره عجيب، دور: محمّد السّبع.
- دع العذول ده من فكرك، دور: علي عبدالباري.
- القلب في حبّ الهوى، دور: سليمان أبو داود.
- الحبّ سلطانه قاسي، دور: زكي مراد.
- إن عاش فؤادك، دور: صالح عبدالحي.
- ليه الغرام يأسر قلوب العاشقين، دور: نادرة أمين.
- هوّ الدّلال يعني الخصام، دور: ليلى مراد.
أمّا الأدوار التي قدّمها لأم كلثوم، فهي:
- شرّف حبيب القلب.
- يوم الهنا حبّي صفا لي.
- قلبي عرف معنى الأشواق.
- البعد علّمني السهر.
- يا عين دموعك.
- روحي وروحك في امتزاج.
- كنت خالي.
- يا فؤادي إيه ينوبك.
- حسن طبع اللّي فتنّي.
ويذكر البعض أنّ الحامولي قد غنّى من أدواره، بينما يستبعد البعض الآخر ذلك، وليس هناك ما يمنع الاحتمال الأوّل، خصوصًا وأنّ ألحان داود قد بدأت تنال الاستحسان قبل رحيل عبده.
وجدير بالذّكر هنا أنّ مجرّد ذكر اسم الدّور لا يحتّم الاهتداء إلى ملحّنه، فكم من دور تولّى تلحينه أكثر من ملحّن، وبأكثر من مقام موسيقي، وغنّاه بالتّالي أكثر من مطربة وأكثر من مطرب، وهذا الأسلوب كان سائدًا في ذلك العصر.
ألحان داود التي شدت بها أم كلثوم، استمرّت تخاطب المستمعين أكثر من تلك الّتي شدا بها الآخرون، وذلك بسبب نجاح هذه المطربة في الرّبط بين عصرين متلاحقين. وما تمّ أداؤه من قبل أم كلثوم، ومن قبل العازفين الذين رافقوها، ثمّ بالأسلوب والطّبع اللّذين كانا سائدين في عصر داود نفسه، وهذا ما نلاحظه في تسجيلات نادرة أمين أيضًا. أمّا في الأداء اللاّحق (ماري جبران، لور دكّاش، صباح فخري، نور الهدى، عصمت عبدالعليم...)، فإنَّنا نصادف تصرّفات غنائيّة وعزفيّة، لا تذكّر كثيرًا بذينك الأسلوب والطّبع، مع أنّ الأداء تمّ بأصوات مقتدرة، ومستويات عزفيّة متمكّنة.
أمّا في الطّقطوقة الغنائيّة فنذكر:
- صيد العصاري يا سمك بنّي / تلعب في الميَّة لعبك يعجبني:
وهي من نظم أحمد عاشور، وقد كتبها لصبايا ثلاث (قمر، ليلى، جميلة)، التقى بهنّ في أحد المقاهي (مقهى ألف ليلة وليلة).
-  جنّنتيني يا بنت يا بيضا: وجّهها داود لزوجته في بداية لقائه بها (ونذكر هنا دور: ودّعت روحي وحبّي لم يودّعني، الّذي وضعه وغنّاه حين رحلت زوجته، وهذا يُذكّر بما غنّاه الحامولي حزنًا بعد رحيل زوجته المطربة ألمظ: شربت الصّبر من بعد التّصافي. من كتاب فكري بطرس: أعلام الموسيقى والغناء العربي، القاهرة).
- حيرانة ليه بين القلوب: غناء ليلى مراد.
- جنّة نعيمي في هواك: غناء أم كلثوم.
ومن ألحانه الدّينيّة: لحن المباخر (آدي المباخر).

الزّملاء
كان بين داود وإبراهيم القبَّاني رفاقيّة وزمالة وتنافس فنّانين واعدين. أستاذ كلّ منها محمّد عثمان. أشاد بهما الاثنين، ووثق بقدرتهما على العطاء. رأى في الأوّل خليفته، وفي الثّاني ابنه الرّوحي (بدليل أنّه زوجّه ابنته، وقد أحيا الحفلة الحامولي)، وكان القبّاني يقول عن داود: إنّه الفنّان الحقّ، والمنافس الخطر، وإنّي مدين له بالمجد للمنافسة الشّريفة بيننا. وفي نظرة سيّد درويش إلى هذين الفنّانين، ما عُرِفَ عنه من قوله عن داود: كلّما لاح لي باب جديد في الموسيقى، وجدت داود سبقني إليه، فيزيدني في ذلك إعجابًا به. كما أنّ درويش كان مواظبًا على متابعة أوبرا داود: شمشون ودليلة، قائلًا في كل مرّة: يا سلام سلّم. ما أروع هذا الحسن. ويُضاف إلى ذلك أنّه بعد الرّحيل المبكّر لسيّد درويش، تولّى داود إتمام أكثر من أوبريت كان قد بدأها ولم يتيسّر له الانتهاء منها. أمّا بخصوص القبّاني، فإنّ من إعجاب درويش به أنّه نسب إليه أوّل أدواره: يا فؤادي ليه بعشق.
وكان أحمد شوقي كثيرًا ما يجالس داود حين يذهب إلى معهد الموسيقى العربيّة ليلتقي بالفنّانين، ويقال إنّه سأله في مرّة: كيف رضاك على تلميذك محمّد عبدالوهاب (ولم يقل تلميذي)، فكان جوابه: إنّه يسير بخطى واسعة، وأرى أنّه سوف يصل إلى درجة من الكمال. ويقال إنّ محمود صبح قد عاتبه على ذلك، خصوصًا وأنَّ هذا الفنَّان كان ملتزمًا بالتّراث القديم بشكل شديد، وكان يسمّي عبدالوهاب «الكردي» لأنَّه كان يُكثر من استخدام مقام كرد في ألحانه. وكان داود في لقاءاته الشّخصيَّة مع عبدالوهاب، لا يشجّعه على اعتماد المنهاج الغربي في التّلحين ما دام يحيا في مجتمع شرقي، وكان يبرهن له ذلك من خلال طلبه إليه أن يرافقه غناءً، في حين كان داود يحاوره من خلال العزف على العود. وكان قصده دائمًا أنّ ربع الصّوت، أو ربع «التّون»، لا بدّ أن يظهر في غنائنا حتّى ولو حاولنا أن نتجنّبه (مجلّة أدب ونقد، عدد قديم خاص بداود حسني).
وداود كان ميّالًا إلى أسلوب محمود صبح في التّلحين والغناء، وقد روى عبدالحليم نويرة أنّه كثيرًا ما كان يلتقي به في الشّارع فيسأله عن وجهة سيره، فيجيب: إنّني ذاهب لزيارة محمود صبح. أحبّ أن أستمع إلى جديد يبتكره، وجميل يبدع في أدائه (محمَّد صبح: كتاب محمود صبح موسيقاه، القاهرة، الهيئة المصريَّة العامَّة للكتاب).
وفي تذكّر ما قاله الزّملاء عن داود:
- كامل الخلعي: إنّه زميلي وخديني، والفنّان الّذي يشار إليه بالبنان.
- زكريّا أحمد: إنّ عذوبة ألحانه ورقّة أغانيه وهندسة بنائها، تشفّ عن روحه الخالصة.
- محمَّد القصبجي: داود لحّن أعذب أدواره لأم كلثوم، وكان بالنّسبة إليّ مثالًا للزّمالة الحقّ.
- سامي الشوّا: إنّه أستاذي الأوّل. لقد عزفت له أكثر من 200 لحن لشركات التّسجيل.
- محمود الحفني: سوف يظلّ لحنه بكرًا على طول الزَّمن.
- أحمد رامي: علَّمني أن أعشق الطَّرب للطّرب.
(محمود كامل: كتاب داود حسني، القاهرة، معهد الموسيقى العربيَّة).

ختام الرّحلة
كان داود شعبيّ النّزعة، يضع ألحانه حينما تخطر في باله، كائنًا ما كان المكان الّذي يوجد فيه، كان طريفًا حلو الفكاهة، باسم الثّغر قانعًا بالحياة المتواضعة، وقد جعل فنّه مشاعًا بين أهل الفنّ يعيشون من نتاج عبقريَّته وألحانه (أدهم الجندي: كتاب أعلام الأدب والفن، دمشق).
وفي أيّامه الأخيرة كان يقول لأبنائه وبناته، خصوصًا حين اشتدّت متاعبه وازدادت صعوبة ظروفه: أشعر أنّ رحلة الحياة قاربت على الانتهاء. لقد شغفني الطَّرب وعبدت ربّي فيه. إنّني مدين للفن. ملاذي هو في ما حقّقته من إنجازات فنّية. قد لا ألقاكم في مرّة أخرى. لقد رأيت الحامولي يناديني في المنام (من تسجيل مقابلة إذاعية مع ابنته أليس). بذلك كان رحيله في 10 ديسمبر 1937، وقد مضى وفي نفسه اطمئنان إلى حالة الموسيقى العربيّة ما دام المقرئ قائمًا، وما دام ربع «التوّن» مستمرًّا في أصوات الباعة وأصحاب الحرف والبحّارة والفلاّحين ■