فيلم «حظر تجول» محاولة جادة لاستعادة المشاعر الإنسانية
يسير فيلم «حظر تجول» (2020) للمخرج وكاتب السيناريو أمير رمسيس، في خط درامي يعرج على مشاعر أبطاله المحوريين، للكشف عن جوهرها والدفع بها للوصول إلى ذروة التوهج الدرامي، وتعرية ما تكتنزه الشخصيات في وعيها من أحاسيس حقيقية تجاه الآخرين، لاسيما لمن هم أقرب، ويتم ذلك من خلال ما تحققه المعطيات الدرامية التي تطرحها الأحداث عبر عديد من المشاهد الدالة التي تمر بها الشخصيات الرئيسة، وتطمح إلى الكشف عن أبعادٍ شتّى في العلاقة الإنسانية التي تربط بين الشخصية المحورية «الأم»، والأشخاص المحيطين وخاصة الابنة... حيث تبدأ العلاقة من حالة تنافر تام، وعدم تقبل الابنة لأمها، مستندة إلى موقف ثابت وحاد يستحضر الماضي بالتباساته، ليحصر الأم في دائرة القاتل الذي هدم البيت وأضاع الأسرة، وذهب بعيدًا في غياهب السجون.
يتمحور الفيلم حول فاتن (إلهام شاهين) التي خرجت من السجن بعد قضاء فترة عقوبة 20 سنة لقيامها بقتل زوجها، وتواجه شائعات حول السبب الحقيقي وراء جريمتها، وبعد خروجها من السجن تجد معاملة جافة من ابنتها «ليلى» (أمينة خليل) التي استقبلتها بمشاعر فاترة، وتقيم الحواجز بينهما وترفضها، وترفض الاقتراب منها معنويًا وإنسانيًا، فضلًا عن الشائعات التي أُطلقت حول الأم وتزامنت مع دخولها السجن.
البناء المحكم للفيلم
يؤدي تطور الشخصيات واستقرارها النفسي؛ إلى تطور العلاقة تدريجيًا، من خلال مواقف إنسانية دالة، تصل بالأحداث إلى مرحلة أخرى أكثر ألفة بين الشخصيتين، ويوظف المخرج في ذلك الأغاني العاطفية التي تكون خلفية للأحداث، وكعادته في بناء الفيلم، يعتمد أمير رمسيس على التكثيف الشديد للحدث الرئيس، والبناء المحكم للمشاهد المتعاقبة، وقلة عدد الشخصيات، فكل شخصية وُضعت وفق نظام سردي بصري محدد، تمتزج فيه لغة حوار تخلو من الثرثرة، مع لغة صورة تتآزر مفرداتها الدالة، لإنتاج رؤية بصرية تعبيرية أشبه بقصيدة درامية تتعدد بها الأصوات، والأصوات هنا هي صوت الأم الغائبة منذ سنين بعيدة، وصوت الابنة الواقعة في حيرة من أمرها بين حبها لأمها من جهة، وموقفها الصارم تجاهها من جهة أخرى، وصوت زوجها «حسن» (أحمد مجدي) الطبيب المحب لزوجته... وغيرها.
تتشابه هذه السمات الفنية مع فيلم أمير رمسيس «بتوقيت القاهرة» (2015)، حيث شاعرية الطرح، وعذوبة الصورة، والتناقضات بين زمنين مختلفين، وكذلك الرؤية الإخراجية القائمة على استفهامات كثيرة لمسألة الزمن وأثره على العلاقة بين الآباء والأبناء، لاسيما في مرحلة زمنية متأخرة من عمر الشخصية المحورية، فقد تناول «بتوقيت القاهرة» - ضمن ما تناول - العلاقة بالابن، مما يجعل الأحداث ترتبط بطريقة ما بحالة من الصراع النفسي مع الذات، وفي «حظر تجول» يتولد لدى كل من الشخصيتين (الأم والابنة) حالة من الصراع النفسي، نتيجة لطبيعة العلاقة بينهما، وخاصة لدى الأم التي تتعمد عدم الإفصاح عن السر الحقيقي لقتل زوجها، وكذلك ليلى التي تعيش في حيرة من أمرها بسبب إحساسها تجاه أمها، الذي بدأ ينمو نتيجة لبعض المواقف، وبين بغضها لها وابتعادها عنها، لاسيما أنها عاشت اليُتم وتربت في بيوت الأقارب، فعانت مبكرًا بعد أن فقدت والديها. ويمزج الفيلم الجريمة بالمشاعر الإنسانية، سواء مشاعر الأم، أو الابنة، أو زوج الابنة، في جديلة فنية تنساب فيها شاعرية ورومانسية بين الأبطال.
تقع أحداث الفيلم خلال ليلة واحدة، وهي الليلة التي مكثت فيها فاتن عقب خروجها من السجن وحتى صباح اليوم التالي، حيث تصطحبها ابنتها وزوجها إلى البيت، لتغادر صباحًا إلى بلدتها خارج القاهرة، وتقع خلال هذه الليلة عديد من الأحداث التي تُشعِر ليلى بحنان الأم الذي طالما حُرمت منه، فتشعر بها ويميل قلبها. فقد عبرت الأم، في بعض المشاهد، عن امتعاضها من الصخب القادم من فوق سطح البناية، فقامت بمواجهة مجموعة الشبان الخارجين على الأعراف الاجتماعية ويتزعمهم سوستة (محمود الليثي)، واستطاعت أن تعبر عن إحساسها بحريتها التي استردتها بعد سنين طويل، فواجهتهم ونالت من كبيرهم سوستة أمام الجميع، مما أدهش الابنة التي شعرت بأمها تظللها وتحميها من المخاطر التي تحيط بها، وتهدد حياتها الأسرية، ومن هذه المخاطر - أيضًا - هواجسها المؤرقة تجاه «شمس» الممرضة الحسناء التي تعمل في المستشفى وتسعى للتقرب من زوجها، فتقوم الأم بمواجهتها، وتنجح في إبعادها في مشهد امتزجت فيه الجديّة بالكوميديا.
الحظر... وخريف 2013
اختار المخرج أن تقع أحداث الفيلم في إحدى ليالي خريف 2013، حيث حظر التجوال المفروض على القاهرة عقب ثورة 30 يونيو، فتواجه فاتن عديدًا من المواقف من أجل ابنتها وحفيدتها، ويكون للحظر دورًا في التطور الدرامي للأحداث، ويكون مبررًا لعودة التقارب النفسي والعاطفي بينهما. ومن أبرز هذه المواقف مرض الحفيدة «دنيا» التي تعاني من حساسية شديدة بسبب تناولها للشيكولاته بكثرة، مما يتطلب نقلها إلى المستشفى. ولما كان حظر التجوال يشكل عائقًا يحول دون الوصول بالطفلة إلى المستشفى، فقد تحدت فاتن كل الظروف وكان موقفها جريئًا وحاسمًا، فحملت حفيدتها وذهبت بها إلى المستشفى رغم كل الصعوبات التي تحاصر الثلاثة، وأشار الفيلم من خلال دلالات الباب الموصد والمرور من فتحة ضيقة في السور الحديدي إلى إمكانية مرورها إلى قلب الابنة، أي أن ثمة فتحة ضيقة - أيضًا - ستعبر منها إلى مشاعر ابنتها، كما نفذت إلى قلب الحفيدة منذ البداية.
يأخذنا الفيلم إلى ليلى وعالمها، فيصور الحالة النفسية لها بموضوعية لافتة، من خلال ارتباطها بابنتها وزوجها، وخشيتها على حياتها الأسرية باستمرار، ورفض التعامل مع أغلب الجيران، فعلى الرغم من أن الفيلم صور محدودية علاقاتها، واختزال هذه العلاقات في الارتباط بالزوج والابنة دنيا، وقلة من الجيران، الذين يعلم بعضهم حقيقة الجريمة التي ارتكبتها فاتن، إلا أن ظروف نشأة ليلى أثرت عليها من الناحية النفسية، وأصبحت ترتاب من الجميع، كالريبة من الزوج في علاقته بالممرضة، وعلاقة أمها بالجار يحيى، وعلاقة جارتها الشابة بالزوج، رغم براءة كل هذه العلاقات، فضلًا عن الشائعات التي أطلقت على أمها من قبل بعض الجيران رغم براءتها من تلك الشائعات.
ساهم كل ذلك في إنتاج شخصية نفسية لها هواجسها الخاصة، وهو ما جعلها تمر بحالات من الأرق، كما بدت علامات الحيرة على وجهها وعينيها. أسفر هذا البناء لشخصيتها إلى اتساق تام بين الموضوع وظروف النشأة الاجتماعية التي مرت بها منذ الطفولة؛ وما آلت إليه نتيجة لهذه التراكمات.
أضفت المشاعر الرومانسية القديمة، واستعادة حالة الحب التي يشعر بها يحيى تجاه فاتن بعد خروجها من السجن، في إضفاء طابع رومانسي على الأحداث، فقد عاش وحيدًا وظل يستمع إلى أغاني عبد الحليم حافظ، وكأنه في انتظار عودتها، وهو من كان يحرص على زيارتها في محبسها ولا يكف عن ذكر اسمها، وعندما عادت بعد سنين السجن سمعت أثناء صعودها الدرج صوت حليم يخرج من شقته، وعند مغادرتها البيت في الصباح وبينما تهبط الدرج؛ سمعت مرة أخرى صوت حليم يغني «أهواك»، وكان المشهد التالي من داخل شقته، ليرصد موته، وكأنه العاشق الذي يموت في حضرة ذكرى محبوبه، وكأنه - أيضًا - يموت مُدانًا، بجُرم لم يرتكبه، فقد ظُلم في علاقته بفاتن من قبل بعض الجيران، وحتى من ابنتها التي طردته من بيتها. وقد أدى الممثل الفلسطيني كامل الباشا دور يحيى الذي يعلم الحقيقة ولا يفصح عنها، كما يظل يخفي حبه داخله حتى يموت جالسًا على مقعده، مستندًا برأسه إلى طاولة الطعام في مشهد إنساني مهم عن الوحدة والكِبر والحب الذي يعيش نقيًا حتى الموت.
رصد الفيلم حالات ومواقف مختلفة نتيجة لأثر الزمن على الشخصيات، وهو ما أصبح سمة أساسية عند أمير رمسيس، الذي عمل جديًا على هذه السمة من قبل في فيلمه الروائي «بتوقيت القاهرة» (2015)، أما في «حظر تجول» فيأتي تناول الزمن من خلال رصد أثره في الشخصيات، وفي مشاعرها العاطفية التي تكنها لبعضها، ولا تستطيع أن تبوح بها رغم مرور السنين، وهو ما جعل ليلى تخفي حبها لأمها، رغم ميلها إليها ورضاها الداخلي تجاه مواقفها، وهو أيضًا ما جعل يحيى يحرص على زيارة فاتن طوال فترة سجنها، باستثناء آخر عامين بسبب بتر ساقه.
أثر الزمن على الشخصيات
كما بدا أثر الزمن على شخصية الجارة العجوز (عارفة عبدالرسول)، التي تنسى كل شيء بسرعة، ثم نكتشف أنها تدّعي الإصابة بالزهايمر، حتى تظل مثار اهتمام المحيطين بها. ولم يعرض الفيلم القضية الأساسية بطريقة مباشرة، وهي علاقة الأب بابنته، والسر الذي لم تبح به فاتن، لكي تظل صورته ناصعة في نظرها، وهي الرؤية الفنية التي اعتادها المخرج، وعبرت عنها الأحداث والمشاهد، بأن تكون العلاقات الإنسانية العميقة بين الشخصيات هي الأساس رغم مرور السنين، وهي المتن الرئيس للأحداث، بينما تتوارى القضية في الهامش، لذلك اتسمت العلاقات بين الشخصيات بالعواطف والشجن والحيرة.
وارتكز الفيلم بإمعان على رصد أبعاد العلاقة بين الأم والابنة، وأظهر كيفية حدوث الاقتراب التدريجي بينهما، ولم يذهب إلى طفولة ليلى، إلا في قليل من المشاهد، نظرًا لمتطلبات البناء الدرامي، ومن خلال توظيف الفلاش باك (الاسترجاع)، ولم يُظهر الفيلم أي مشهد لجريمة القتل، باستثناء مشهد قصير (فلاش باك) من وجهة نظر البطلة لسكين ملطخ بالدماء، وذلك حتى تظل الشاعرية والرومانسية والعلاقات الإنسانية هي القيم المهيمنة على الأحداث، فضلًا عن استمرار التعاطف مع البطلة حتى النهاية، إذ إن التأثير قد يتغير لدى المشاهد إذا رأى البطلة تقوم بجريمتها. وكان لبعض العلاقات العاطفية الأخرى، دورها في تشكيل بنية الفيلم وتكثيف محاوره، مثل العلاقة بالجارة العجوز وابنتها، والعلاقة بيحيى.
وظف الفيلم الكوميديا بإتقان، لاسيما في المشاهد التي جمعت بين إلهام شاهين والليثي، وعبرت عن قدرتها على المواجهة، وكذلك في تراجعها عن موقفها لحاجتها إلى «توك توك» من أجل الطفلة المريضة، وكشف الفيلم عن أداء كوميدي مميز لمحمود الليثي، فكان لحضوره بهجة خاصة في الأحداث وكسر حدة الجدية التي غطت أغلب المشاهد. وشارك المخرج خيري بشارة كضيف شرف، حيث قدم شخصية البقال بتميز كبير، كما شارك الفنان أحمد حاتم كضيف شرف أيضًا في دور الطبيب صديق الدكتور حسن.
مقومات اللغة الشاعرية
استطاع المصور عمر أبو دومة أن يلتقط بالكاميرا التفاصيل الصغيرة، وأن يصاحب الممثلين في حركتهم داخل البيت، بداية من السلم المتسع نسبيًا، والذي يدل على بيت متوسط الحال، فساعد التصوير على الكشف عن مستوى الأسرة وانتمائها إلى الطبقة المتوسطة، من خلال رصدت الكاميرا لما بذله الديكور في تنظيم البيت من الداخل، فبدت مفردات الشقة من غرف وأثاث تدل على الأصالة وملاءمتها لحال الأسرة والموضوع المطروح، حيث بدت الإضاءة مناسبة بما يُشعر بدفء إنساني، امتزج بأصالة الأثاث الذي مال إلى العراقة، وأثمر رابطة ذهنية وبصرية متسقة مع ثيمة الفيلم، لاسيما أن المشاهد يشعر بالونس وبالدفء، كلما ارتبطت الأحداث بذكريات وصور من الزمن الماضي، ولذلك تنساب حالة من الشاعرية على الأحداث مصدرها الدفء القادم من الزمن القديم، وارتباط الشخصيات بالماضي، برغم أن عملية حسابية بسيطة تكشف أن فاتن دخلت السجن في أوائل التسعينيات، ولم تكن طرز الأثاث السائدة بهذا الشكل، فقد لجأ إليها المخرج لما تحمله من معاني الأصالة والدفء. كما استطاعت الكاميرا أن تنقل انفعالات الممثلين وأن تكون كاشفة للحظات الحزن، والفرح، والأرق، التي تمر بها الشخصيات.
أما الإضاءة فقد عبرت بخفوتها عن الحالة التي تمر بها فاتن في حزنها بسبب موقف ابنتها، وكذلك بعض المشاهد الخاصة بليلى في غرفتها، فقد ساعدت الإضاءة على التعبير عن الحالة النفسية التي تمر بها وخاصة حالة الأرق التي انتابتها. وعبر التكوين الذي صممه المخرج بطرائق عدّة عن حالة الألفة والدفء بين أفراد البيت، كما عبر أيضًا عن موقف ليلى بتمركزها في أحد المشاهد بين الأم والزوج والابنة، ما يوحي بمركزية حضورها في الأحداث، وجاءت الموسيقى التصويرية لتامر كروان معبرة إلى حد بعيد عن الأحداث في لحظات الصعود الدرامي وما تمر به الشخصيات، وامتزجت الموسيقى بمكونات الصورة وما حملته من تعبيرات المكان من ناحية، وانفعالات الممثلين من ناحية أخرى، لتنتج رؤية بصرية وسمعية ساهمت في طرح الأفكار الرئيسة وتفاصيل العلاقات، كما عبرت الملابس للستايلست ناهد نصر الله عن الشخصيات وتكوينها النفسي والفكري، والصراع الذي تعيشه سواء مع نفسها أو مع الآخرين.
طرح الفيلم رؤية جديدة للسينما الواقعية، وطرق بابًا غير مألوف لأبعاد العلاقات الإنسانية بين أفراد الأسرة، وتناول إمكانية تقبل الآخر رغم الاختلاف، وأن جبال الثلج ممكن أن تذوب، إذا سنحت الظروف في مكان واحد يجمع المختلفين، ولو لمدة زمنية قصيرة. كما عبّر الفيلم عن العلاقة بين الأبناء والآباء، من خلال لغة سينمائية راقية تخللتها صور شاعرية، ومشاعر صادقة، وموسيقى حالمة.
ويعدّ أمير رمسيس واحدًا من المخرجين المتميزين الذين ظهروا في الألفية الثالثة، إذ قدم عدة أفلام روائية طويلة لاقت إعجاب الجمهور، مثل «آخر الدنيا»، و«كشف حساب»، و«ورقة شفرة»، و«بتوقيت القاهرة»، و«خانة اليك»، كما قدم فيلمًا وثائقيًا عن يهود مصر في جزأين. وقد عُرض «حظر تجول» في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ 42 الذي أقيمت فعالياته في الفترة من 2 – 10 ديسمبر الماضي، ومثل مصر في المسابقة الدولية، وحازت إلهام شاهين جائزة أفضل ممثلة عن دورها في الفيلم ■