سيكولوجية الموضة

سيكولوجية الموضة

     يعتبر علم سيكولوجية الموضة من العلوم الجديدة نسبيًا، وهو ينتمي إلى علم النفس التطبيقي، ويهدف إلى تعميق فهمنا لسلوكياتنا وممارساتنا المتعلقة بالأزياء والموضة، وفهم سلوكيات وممارسات المتخصصين في مختلف مجالات هذا القطاع والوقوف على تأثير ذلك علينا، وعلى من حولنا وما حولنا من بشر وكائنات حية. وما يثير التفاؤل اليوم، تزايد الإقبال على دراسة هذا التخصص والتفات قطاع صناعة الموضة له؛ مما يعني الانفتاح، والاقتناع بأهميته، والرغبة في تحسين الواقع وتطويره.  

 

إلى جانب ما تقدمه مجلات ومواقع الأزياء وخبراء الموضة من تأكيدات، يفيد بعضها بأن ما نرتديه يقول الكثير عنا، ويعبر عن شخصياتنا وهوياتنا وتفضيلاتنا من خلال تواصل غير منطوق؛ هناك ما هو أعمق من ذلك لدى المتخصصين في هذا العلم الناشئ الذي يتقاطع مع فروع متعددة من علم النفس، كعلم النفس الاجتماعي، وعلم النفس المعرفي، وعلم النفس الإيجابي، وعلم النفس المهني، وعلم النفس السلوكي، ليقدم في النهاية أدوات تحليلية، وأخرى علاجية يمكن توظيفها لتوضيح الوضع، وتشخيصه، ثم تطويره للوصول إلى النتائج المرغوبة، سواء على الصعيد الفردي، أو على مستوى نماذج الأعمال. 

رائدتان 
  ساهمت د. كارولين مير، البريطانية، في تطور العلم المذكور، منطلقة من اهتمام وشغف مبكر في مجال الأزياء والموضة. فقد كانت مهمتها في أول عمل حصلت عليه بعد تخرجها من المدرسة، انتقاء ملابس العرض في واجهات المحلات، ثم قامت بتنفيذ بعض الأعمال الإبداعية كصنع الملابس لنفسها وللآخرين. وفي الثلاثينيات من عمرها - بعد أن أصبحت أمًا لثلاثة أطفال  - قررت الحصول على درجة جامعية في علم النفس التطبيقي والحاسوب، تبعته بماجستير في مناهج البحث، ثم حصلت على منحة لنيل الدكتوراه في علم النفس التطبيقي في مجال الموضة. وبعد تخرجها عملت لسنوات كمحاضرة وأستاذة، حتى التقت شخصية مؤثرة بكلية لندن للموضة في مؤتمر، واقترحت وضع مقررات، وتأسيس قسم يمنح تخصصها. ونجحت بعد ذلك في تأسيس قسم لعلم نفس الموضة بكلية لندن في جامعة الفنون، واستحدثت برامج أكاديمية تمنح الدرجة الجامعية الأولى ودرجة الماجستير، وقامت بتأليف كتاب متخصص في الموضوع، وكثيرًا ما تؤكد أن المعنى النفسي لما نرتدي لا يتأثر بنا فحسب، بل بمن يرانا، وبالسياقين الاجتماعي والثقافي. فما نرتديه جزء من هويتنا ووسيلتنا لاتساقنا مع مجموعة دون سواها، أو انفصالنا عن أخرى. 
  من جانب آخر، سعت دون كارن - عارضة أزياء أمريكية سابقة - إلى تطوير المجال، مستفيدة من درجتها الجامعية الأولى في الإرشاد النفسي من جامعة كولومبيا، وتخصصها في مجال سيكولوجية الموضة في مرحلة الماجستير. فقد سافرت إلى الشرق الأوسط وإلى آسيا للتحقق من نظريتين: ترى الأولى ضرورة أن يرتقي ما نلبس إلى مستوى مزاجنا الرائع؛ وتؤكد الثانية على أن ما نلبسه يمكن أن يحسن من مزاجنا. وبعد عودتها إلى بلادها، عملت في التدريس بمعهد تكنولوجيا الموضة، وواصلت الجلسات العلاجية التي كانت تمارسها. كما أسست في عام 2015 معهدًا دوليًا للموضة يقدم خدماته عبر الإنترنت للراغبين في التعلم في كل مكان، ويعد مقررات وبرامج لفئات مختلفة، كخريجي المدارس، والمتخصصين والعاملين في مجالي علم النفس والموضة، كما يوفر برامج خاصة لطلاب المدارس، ومحاضرة أسبوعية مجانية. وينتمي طلاب المعهد إلى بلدان مختلفة كالصين، وأستراليا، وكندا، وبلجيكا، واليابان، ولبنان، وسويسرا، وإيطاليا، وهولندا، والسويد، وأمريكا. وترى كارن أن هذا التخصص يتضمن التعامل مع أسئلة مهمة، مثل: لماذا نلبس ما نلبس؟ وما تأثير ما نلبس علينا وعلى الآخرين؟ ولا يخلو الأمر من التعامل مع حساسيات ثقافية وعرقية. وتضرب مثلاً بسيدة شرقية تلبس عباءة في بلادها، وتخلعها في أوربا، لأنها لا تمثل شخصيتها. وبإرشادها نفسيًا وإجراء بعض التعديلات على طريقة لبسها والألوان المستخدمة باستلهام زي أوربي قديم، حل الصراع وشعرت السيدة بالراحة. ومن تجاربها الشخصية، يوم بدت متألقة في إحدى محاضراتها - رغم مرورها بأزمة نفسية حادة - وكان ذلك من تأثير ألوان ملابسها المشرقة الباعثة على السرور، وكعبها العالي الذي منحها شعورًا بالقوة  كما أشارت في كتابها: «ارتدي أفضل حياتك: استغل قوة الملابس لتحول ثقتك بنفسك».

سلامة العاملين
أكدت د. كارولين مير ــ في كتابها ــ «سيكولوجية الموضة»، وفي مقابلات أجريت معها، أن قطاع صناعة الأزياء والموضة، الذي يوظف الملايين حول العالم، ويخاطب مختلف الفئات، لا يتمتع بسمعة طيبة، فيما يتعلق بالمسؤولية الاجتماعية، بل يعد من أكثر الصناعات تدميرًا للبيئة. وكثيرًا من بيوت الأزياء الكبرى متهمة بالعنصرية. وهنا يأتي دور علم النفس التطبيقي حيث يقدم المساعدة للمعنيين لتحسين أوضاعهم، فالاهتمام بالصحة العقلية والسلامة النفسية والجسدية للعاملين في المجال من الجوانب المهمة لدور المتخصص في هذا العلم، حيث يتعرض المبدعون سواء من المصممين، أو المنفذين، أو العارضين إلى ضغوط - تضاعفها شدة حساسيتهم - تأتي من سرعة إيقاع مواسم الموضة، والمنافسة الشرسة، والقلق والخوف من تحمل مسؤولية أعمال بعشرات الملايين من الدولارات، إضافة إلى صرامة المعايير والشروط المطلوب تحقيقها، وغياب العدالة بالنسبة لمن هم خارج دوائر الشهرة، والعاملون في ظروف غير إنسانية - كعمالة البلدان الآسيوية الفقيرة - مما يجعل تقديم المساندة وإتاحة فرص التعبير عن المشاعر والمخاوف أمرًا ضروريًا. 

مفهوم الجمال  
من تبعات الموضة السلبية - كما ترى د. مير-  ما يتعلق بمفهوم الجمال والنظرة إلى الجسد في ضوء ما يقدمه هذا القطاع من صور في مجلات أو على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يعاني كثير من الناس من مشاعر عدم الرضا عن أوزانهم وأجسامهم ووجوههم. ويسعون للتغلب على هذه المشاعر إلى تدابير تجسر الفجوة بين وضعهم الراهن والوضع المثالي الذي يصدر لهم عبر النجوم والأفلام ومروجي الموضة. ولا يكون الوصول للمطلوب هينًا دائمًا، بل مجهدًا ومكلفًا، ومستحيلًا في بعض الأحيان، فالوصول إلى القوام المثالي يقتضي تحمل معاناة نظم غذائية صارمة، أو عمليات جراحية لتكميم المعدة أو شفط الدهون. ويتطلب الاحتفاظ بمظهر شاب التغلب على التجاعيد وعلامات تقدم السن بمستحضرات مضادة للشيخوخة، وعمليات تجميل، وتمارين رياضية مجهدة. وكل ذلك يعني مليارات الدولارات التي تنفق، وآثار نفسية مصاحبة للنتائج غير المرغوبة، وعدم القدرة على التأقلم مع التغيرات الطبيعية للجسد، وقبول الشيخوخة كمرحلة لها مميزاتها الخاصة. وقد زادت «ديمقراطية الموضة» ومشاركتها عبر وسائل التواصل ومتابعيها من ضراوة الوضع، بعد أن صار من السهل متابعة ما تقدمه الماركات العالمية وبيوت الأزياء. ويسعى علم نفس الموضة إلى دعوة هذا القطاع لتمثيل جميع الفئات العمرية والعرقية وجميع الأشكال والألوان، والأوزان وإعادة النظر في مفهوم الجمال وفقًا للسياقات الثقافية والاجتماعية المختلفة؛ حتى لا يتحول الجسد أو الوجه إلى شيء منفصل عن الشخصية.
 
الموضة والهوية 
  قضايا أخرى طرحها الكتاب، اتصلت بعلاقة الموضة بالهوية وحماية الذات وتقديرها. فما نلبسه يحمينا، ويصنفنا ويغيرنا، فقد يثير شراؤنا لقطع تحمل ماركات معينة معروفة بجودتها العالية وأثمانها المرتفعة شعورنا بالثقة بأنفسنا، وتقدير ذواتنا؛ مثلما يعبر شكل ما نرتدي ونستخدم - بسيطًا أو معقدًا، أو كلاسيكيًا، أو براقًا، أو غير ذلك - عن شخصياتنا وأمزجتنا. وربما يجعلنا نقارن أنفسنا بصور وسائل الإعلام والتواصل، وبزملائنا لنحدد موقعنا على مقاييس الأنوثة أو الذكورة، والتحرر والمحافظة، والجرأة والخجل. ونتواصل مع الآخرين من خلال ذلك، فيرسل إطراء مثل «تبدين أصغر» رسالة مفادها أن الشباب أفضل. وتعبر كلمة «جميل» عن سعادتنا لرؤية ما يشبهنا. ونربط بين ملابسنا وأشيائنا وبين الذكريات الجميلة، فلا نفرط فيها مهما طال الزمن. ومن بين ما يتعامل علم نفس الموضة معه أيضًا مشاعر الموظفين الذين يجبرون على ارتداء أزياء موحدة لا تتناسب مع شخصياتهم. ويعتبر فك الارتباط بين الوظيفة والملابس أمرًا مهمًا للصحة النفسية، وعاملًا من عوامل زيادة الإنتاج والإبداع. 

لماذا نرتدي ما نرتدي؟
يدرس علم نفس الموضة كذلك سلوك المستهلك وما يقبع وراءه؛ ويسعى إلى مساعدته على الاستهلاك بوعي وبحكمة بتحديد الاحتياجات، وتفضيل الجودة على الكم عند الشراء، والتعامل مع إغراءات الإعلانات وإدمان التسوق - الذي قد ينتج عن رغبة لملء الفراغ، ومواجهة انخفاض تقدير الذات - كما يعمل - هذا العلم - مع قطاع صناعة الموضة لتشجيعه على مقابلة طلبات العملاء وتوقعاتهم من البضائع والخدمات في إطار أخلاقي مستدام؛ كتوفير ملابس لا تضر الصحة، ولا تؤذي البيئة. ويلقي الضوء على اختيار أشكال الملابس وألوانها والإكسسوارات وعلاقة ذلك بالتعبير عن الشخصية القوية، والذكاء، ولفت الانتباه، والقبول الاجتماعي، والتميز؛ إلى جانب علاقة الملابس بالجسد والعقل. والكشف عن تبعات الإفراط في الاستهلاك، وعلاقة انخفاض الرضا عن المظهر بالإصابة باضطرابات - كاضطراب تناول الطعام. فالملابس في نهاية المطاف تغير رؤيتنا للعالم، وتغير رؤية العالم لنا - كما قالت الكاتبة الإنجليزية فيرجينا ولف - وتغزو أجسادنا وأدمغتنا وتضعنا في حالة نفسية مختلفة - مثلما أكد عالم النفس الأمريكي آدم غالينسكي.

نظرة على المستقبل  
وهكذا، توجد أمام المستهلكين والمصنعين في قطاع الأزياء والموضة اليوم فرص مدهشة للاستفادة من استشارات ونصائح المختصين في علم النفس، وفرص مفتوحة للتعاون مع علوم أخرى كالذكاء الاصطناعي، وعلوم الأعصاب، وعلوم الأنسجة الحيوية. ويحمل المستقبل الكثير من التقدم التكنولوجي الذي يتيح تجربة الملابس والإكسسوارات على شاشات الهواتف المحمولة، وفرصًا للتحول إلى مواد ومنسوجات حيوية - كالأقمشة المصنوعة من الغزل الفطري - وتوفير وظائف جديدة لعلماء أحياء، وعلماء مواد، ومتخصصين في الطباعة، وبيئيين للممارسات المستدامة، ومحللين للبيانات، وعلماء نفس، وخبراء الموضة «البطيئة»، الصديقة للإنسان والبيئة ■