رغيف العيش

رغيف العيش

رغيف العيش، أساس الحياة وقائد مائدة الطعام وحلم الشعوب وملك الشائعات ومحطم الحكومات، من أجله تشن الحروب وتقام الثورات، ويسبق الحرية في المطالبة به، إنه الصغير ككوكب، الضخم ككسرة خبز، حامل البهجة دائمًا، لكنه أيضًا إحدى لعنات التاريخ، وبسببه تتذمر حياتنا.
والرغيف عبارة عن قطعة من العجين، جمعه أرغفة ورغف ورغفان، وعندما يتم تقسيمه إلى نصفين يطلق عليه «شقه» أي أخذ نصفه، وتقدّد الرغيف أي يبس وجف ولم يعد به ليونة، وجَفْنا الرغيف أي وجهاه، وقمّر الرغيف أي سخنه أو حمصه على النار حتى يحمَّر لونه.

 

العيش أي الحياة، ورغيف العيش هو أساسها، وهو مرادف للحياة في كل حضارات العالم، وقد يختلف شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، أو حتى في المكان الواحد، إلا أن رمزه يبقى واحدًا في التراث والتاريخ والوجدان الشعبي. 
ولتلك المكانة العظيمة التي يحتلها رغيف العيش، فقد ارتبط ببدء حضارة الإنسان، كنوع من الاستقرار أمد الإنسان بأن يعمل ويتطور. فهو يُصنع في كل بقاع الأرض، وقد تفنن الإنسان طوال تاريخه لصنع أنواع مختلفة منه، فمنه البلدي والشامي والشمسي والمرحرح والبتاو والأبيض والأسمر والرقيق والمبسوط والمكتنز والطري واللين والملدن والناشف والجاف، وهي مسميات حسب أنواعه وظروف صنعه وتناوله.
ومهما تبدل اسم رغيف العيش من بلد إلى آخر، فإن مكوناته الأربعة تبقى هي نفسها: دقيق القمح (وفي أحيان قليلة الذرة، أو الشعير)، الماء، الخميرة، والملح. لكن بعض الدول أصبح العيش لديه هو الأرز كدول الخليج وشرق آسيا.
ولأن العيش تعبير عن الحياة، فكلمة «العيشة» هي الحياة اليومية، ونجدها في فم النساء كثيرًا، للتعبير عن السخط أو الضيق والتذمر من حياتها مع زوجها، فدائمًا تردد: «عيشة سودة» للدلالة على سخطها، ويقال «عيشته ارتاحت» وهي تدل على تبدل الحالة المادية والاقتصادية للناس، وعندما يتبدل شخص أو يتكبر نجد من يقول له: «عيش عيشة أهلك» للدلالة على أصله الوضيع، أو الهروب من الحياة الحقيقية التي يعلمها الجميع عنه، و«أكل معه عيش وملح» للصداقة والعشرة، وللخيانة «يخونه العيش والملح»، و«عيشني النهاردة وموتني بكره»: تعبير يعني أنقذني اليوم وليكن غدًا ما يكون، «والجعان يحلم بسوق العيش» أي أن أحلام الرجل أو المرأة صورة لحال المرء في اليقظة، و«رجع قفاه يقمر عيش»  يعني رجع خجولًا لم ينجح في مهمته، و«عيشته ضنك» أي فقيرة وسيئة، بينما «معيشةُ الضَّنْكُ» هو عذابُ القَبْرِ، و«آمنه على مشنة مليانة عيش ولا تآمنه على بيت مليان جيش» كتعبير عن الأمانة، و«إدي العيش لخبازه ولو ياكل نصه» وهو للخبرة، و«اللي عنده عيش وبله عنده الفرح والخير كله» أي من كان عنده خبز جاف وبله ويأكله فعنده الفرح والسرور كله، وللمزاح خاصة عندما يتم القبض عليك يقال «أجبلك عيش وحلاوة». و«عيوشة» هو المكان الذي يحفظ فيه العيش، لأنه سريع التلف، خاصة لو ترك في الهواء، والجراية: هي خبز من القمح كان يوزع قديمًا على مجاوري الأزهر وعلمائه، وكان لهم مقدار معين من الخبز كل يوم، ثم تحول هذا المقدار على مال، وقد استعار بعض الناس هذه الكلمة فأطلقوها على كل مرتب معين، وإن كانت منتشرة بين أفراد الجيش المصري في المعسكرات، عند استلام الخبز فيطلقون عليها الجراية.
والعَيْشُ: هو الخُبْزُ، وهو الأمان والبهجة، لكن لفظ عيش اتسع ليشمل الحياة كلها، من طعام وشراب ودخل، فيقال «بَسْطة العيش» أي سعته، و«أكل عيش» أو «لقمة عيش» وهي السعي على الرزق، وهي أدني درجة وأبسطها للتعبير عن العمل، و«سرق لقمة عيشي» أي أن أحدًا آخر أخذ عمله، ويقال «مَرّة عيش ومرّة جيش» أي مرة ينفع ومرة يضر، أي مرة معك ومرة عليك.
والعيش: اسم يطلقونه على الخبز وهم يجلونه كثيرًا، فإذا رأى أحدهم قطعة من الخبز نحاها بجانب الحائط، وربما قبلها ونفض عنها التراب قبل أن يركنها مرة أخرى، ولا يستحلون أن يدوسوا عليها.

العيش هو الحياة
ولأن العيش هو الحياة فإن العيش في الدنيا عبارة عن كفاح دائم، بحثًا عنه، ومن أجل تحقيقه الدائم، سواء أصبح هذا العيش نقودًا أو عقارات أو ثروات.
وجميعنا الكبير والصغير يعمل من أجل رغيف أبنائه، أي أن العيش هنا يتحول إلى القوت والكسب والعمل، كي يستطيع توفير معيشتهم والالتزام بما يريدون، ومن هنا نجد العيش أصبح حياة مكتملة.
ولأن العيش هو الحياة، فإنه يستطيع ضبط مزاج البشرية، وبمجرد اللعب فيه أو في مقدراته، تنقلب الأمور. فرغيف العيش مؤشر قوي لمقياس الرضا أو التذمر بين الشعب والحكومة أو الحاكم، وهو يحدث على مستوى الدول أو البيت، ففي البيت يتحول التذمر لكلمات في أفواه النساء، عن تذمر حياتها مع زوجها «عيشه نكد» أو عدم الرضا، هذا الرضا الذي سريعًا ما ينتقل للشارع وللحياة العامة.
اللعب في مكونات أو سعر رغيف العيش، يقلب موازين البلدان، فكثير من الثورات قامت من أجل رغيف العيش، وفي شعار ثورة يناير بمصر 2011: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية»، نجد العيش جاء قبل الحرية، وقبل العدالة، أي أنه أول الاهتمامات، فكثير من الناس لا يعنيها أن تكبل بالأغلال بحثًا عن لقمة العيش، وهو تفسير يدل على أن العيش فعلاً الحياة.
ولأن رغيف العيش ذو مزاج حاد، فقد يسبب الكثير من الانقلابات ويطيح بحكومات بل وأمم، فتاريخيًا نجد الكثير من الثورات التي قامت بسببه، أو هو أحد الأضلاع الأساسية التي تسببت فيها، ولا ننسى تلك السيدة التي وقفت ذات يوم أثناء الشدة المستنصرية بمصر، وكانت عبارة عن مجاعة لمدة سبع سنوات (1036-1094م) أثناء حكم المستنصر بالله الفاطمي، وهي تصيح «اشهدوا يا سكان مصر رغيف الخبز بألف دينار»، تلك الصيحة التي ظلت ممتدة طوال أيام التاريخ، تعلو أو تخفت وكأنها تتراقص على ألسنة نيران فرن خبز الحياة.
ففي العصر الحديث نجد انتفاضات الخبز في كثير من البلدان العربية، ففي الأربعينيات من القرن الماضي، أدى وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج في سورية، و«انتفاضة الحرامية» وسميت أيضًا انتفاضة الخبز، التي حدثت في مصر في يناير 1977 في عهد السادات، واتهم الشيوعيون بقلب نظام الحكم وعمل مؤامرة ضده، و«انتفاضة الخبز» حدثت في تونس والمغرب عام 1984. وفي الجزائر عام 1986 في مدن قسنطينة وسطيف، ثم مرة أخرى في أكتوبر عام 1988، حدثت انتفاضة الخبز، و«ثورة الخبز» في مدينة «معان» الأردنية عامي 1989 و1996.

المحرك الأساسي للشعوب
رغيف العيش ليس قطعة عيش تخبز وتباع، لكنه حياة مكتملة، فلقمة العيش هي المحرك الأساسي وهي سر قوته البسيطة. وقد ارتبط العيش بالنعمة، وهو ما يدل على مكانته شعبيًا.
ولأن كثيرًا من الحكام أو الطغاة كان يستخف بذلك، مثلما فعلت ماري أنطوانيت ملكة فرنسا وزوجة لويس السادس عشر، والتي تنسب لها المقولة الشهيرة أثناء اشتعال الثورة الفرنسية 1787م، بأن تطعم الشعب الفرنسي قطع الجاتوه أو البسكويت، وهو ما كان سببًا رئيسًا في قصف رقبتها بالمقصلة، ورغم الشك في صحة تلك المقولة، إلا أن هذا يعبر لنا عن مدى الاستخفاف بقدرات رغيف الخبز، وبالتالي عند انقلابه يزيح كل ما أمامه.
المدهش أن منذ عصر الفراعنة دخل الخبز في صميم التمييز الطبقي والاجتماعي، إذ كان الخبز في مصر الفرعونية ثلاثة أصناف: من دقيق القمح للأغنياء، ومن دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، أما الفقراء فكان لهم خبز أسمر من دقيق نوع من الحبوب البرية... بينما في الحضارتين اليونانية والرومانية كان الخبز الأبيض خاصًا بالطبقات الأرستقراطية والنبيلة. وقد أصدر أحد قياصرة روما قرارًا يقضي بسجن كل من يقدم خبزًا أسمر اللون إلى نبيل روماني. أما امتلاك الفقراء للخبز الأبيض فكان جريمة قد تؤدي إلى الإعدام. والغريب أن الاعتقاد ساد آنذاك بأن أمعاء الفلاحين كانت وحدها قادرة على تحمل الخبز الأسمر القاسي، أما أمعاء النبلاء فمرهفة ولا تهضم سوى الخبز الأبيض الخفيف والطري!
وفي التراث الأوربي نجد رغيف العيش لديه الكثير من الدلالات، فيقال إنه بسكويت الملوك وهي حلوى، إذا أردنا أن نعلم الحالة الصحّيّة لأقاربنا البعيدين عنّا، وضعنا الحصص المخصصة لهم من (بسكويت الملوك) في خزانة، ذلك أن حال هذه الحلوى بعد ذلك ببضع ساعات تدلّنا على حال صحّة هؤلاء الأقارب الذين نرغب في معرفة أخبارهم، أكثر مما يمكن أن يدلّونا هم أنفسهم.
كما أنّ رمي الخبز خرق للقدسيات، ومن أراد أن يتناول خبزًا، كان عليه قبل ذلك أن يرسم فوقه صليبًا، بإشارة من يده أو من رأس السكين. أمّا وضع الخبز على ظهره مقلوبًا، فيسبب الشقاء، وهكذا كان الخبازون قديمًا، يعزلون خبز الجلاد عن خبز الزبائن الآخرين، وإذا وضعت الفتاة أو المرأة خبزًا على ظهره مقلوبًا أظهرت أنها تكسب عيشها باتخاذ هذا الوضع. وفي صقلية بإيطاليا، يوضع قرب سرير الميت، خبز وأبريق ماء، مخصصين لروح الميت، أما الخبزة المطليّة بالزبدة فتسقط من الجانب المشؤوم دائمًا، ولا ينبغي لرّب البيت أن يقدم قطعة الخبز الكبيرة إلى مدعويه، وإذا رسم رّب البيت إشارة الصليب فوق الخبز، قبل قسمته، كان بيته ملاذًا للشيطان. وتعتبر فرنسا إحدى الدول التي استطاعت أن تجعل من خبزها أحد المعالم السياحية، والفرنسيون ينتجون أكثر من مئتي نوع مختلف من الخبز، أشهرها «الباغيت» والتي تعني العصا، لأن هذا الرغيف يشبه العصا، فهو طويل، ذو قشرة محمّصة صلبة، ولب طري، لذيذ المذاق، وتفوح منه رائحة زكية عندما يكون طازجًا.
وإذا كان العيش هو الحياة، فإنه في المنام يصبح مرادفًا لذلك، فإذا رأيت العيش في الحلم فيعني ذلك أوجه عديدة؛ فالعيش الأبيض دليل على الرزق الحلال من الأموال، والعيش المر حياة صعبة، والعيش الحلو ارتفاع الأسعار، أما إذا رأيت عفن الخبز في المنام فيدل ذلك على أنه يوجد العديد من الأشخاص يقومون بمراقبتك أو أشخاص منافقين محيطين بك.

العيش في الأعمال الإبداعية
  امتد الرغيف ليصبح بطلًا في الكثير من الأعمال الإبداعية التراثية والمعاصرة، فنحن نجد في ملحمة جلجامش: «كل الخبز يا أنكيدو، بهجة الحياة»، وذلك ليأكل كسائر البشر بدلاً من ارتضاع الحليب من الحيوانات البرية، ونجد رواية «الرغيف» للبناني «توفيق يوسف عواد»، تدور أحداثها عن المجاعة التي حاصرت سكان لبنان أثناء الحرب العالمية الأولى، كما نجد الشاعر «رياض معلوف»، فيتحدّث عن الرغيف في معانٍ رائعة، ثم ينتقل إلى مناجاته ويدعوه لأن يكون إنسانًا أكثر من الإنسان؛ كي يتكرَّم على الذين حَرَمهم الدَهر من اللقمة الطيَّبة، قائلًا: «رَغِيفُنا المُسْتَدِيرُ والقمريُّ الوجهِ، كوجهِ المحبوبِ، وهو الذي يَقْتَتِلُ الملايينُ في سبيل الحصول عليهِ يوميًا، ومنهم من يطاله سهولة، إذا حالفه الحظّ، ومنهم من يسعى ويركض وراءه، والرغيف راكضٌ أمامه هاربًا منه. فرغيفنا الأسمر البلديُّ الشّهيُّ، رائحتُه تُشبعُ النّفس، وهو مُطلٌّ من الفُرنِ، أو الصّاجِ، أو التنّور، وهو معجونٌ بعرقِ الجبين، ودم القلب، وهكذا ترى في احمرار خدِّه، دمًا هدر في سبيله، وماء وجهٍ بذلَ من أجْله، واللّقمة منهُ دونها أهوالٌ ومصاعب، يا رغيفنا، يا أب الّلقمة الطّيّبة، لولاك ما طابت المائدة، يا خبزنا اليوميّ الكريم، كُن إنسانًا أكثر من الإنسان، وتكرّم على من حرمهم الدّهرُ من لُقمتك، وعلى من اشتاقوا كثيرًا إلى طلعتِك وإطلالتِك»، أما العظيم محمد الماغوط فيقول في إحدى قصائده: «دعني أخبئ الخبز في لحمي كالدبابيس وأفتله كالشوارب فوق شفتي»، بينما يعتبر جبران خليل جبران أن تقاسم الخبز يعني الإنسانية ويقول في ذلك: «نصف الرغيف الذي لا تأكله يخص الشخص الآخر»، كما استخدم الشاعر محمود درويش الخبز ليكون رمزًا للمحبة والحنين لوالدته عندما قال: «أحن إلى خبز أمي، وقهوة أمي، ولمسةِ أمي». 
ولا أستطيع ان أغلق هذا الباب أو مائدة العيش إلا بتلك العبارة للكاتب العظيم غسان كنفاني والتي يقول فيها: « يسرقون رغيفك، ثم يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم»!! ■