سقايات ماء السبيل إرث حضاري في المدن الإسلامية يعبر عن قيم الرحمة

سقايات ماء السبيل  إرث حضاري في المدن الإسلامية يعبر عن قيم الرحمة

تمثل سقايات الماء المنتشرة في ربوع المدن العربية، وخاصة في أحيائها القديمة، مظهرًا من مظاهر الحضارة العربية والإسلامية، وتجليًا من تجليات خُلق الرحمة والتعايش؛ إذ وفّرت تلك السقايات الماء بالمجان لكل عابري السبيل، ولذلك كانت تسميتها سقايات ماء السبيل، وكانت أيضًا تؤدي دورًا مهمًا في تلطيف أجواء الشوارع والساحات، فضلًا عن هندستها وفق الطراز الإسلامي العريق، مما يجعل هذه السقايات إرثًا حضاريًا يختزن الكثير من القيم والأفكار، ويعبّر عن نهضة حقيقية عرفتها المدن الإسلامية في بعض الفترات التاريخية، وسوف نخصص هذا المقال لسقايات ماء السبيل في مدينة فاس، التي توجد في المغرب، شمال إفريقيا، وهي مدينة تعدّ إحدى كبريات العواصم الإسلامية، والتي طبقت شهرتها الآفاق، بفضل جامعتها العريقة التي كانت تشدّ إليها الرحال من جميع أنحاء المعمورة، فكانت سقايات الماء نبعًا لتلبية حاجة العطش إلى الماء، مثلما كانت جامعة القرويين ينبوعًا لتلبية حاجة العطش إلى العلوم والمعارف. 

 

يمثل الماء ينبوع الحضارات، بل جوهر الحياة، فبجوار الأنهار وعلى ضفاف الوديان والبحيرات، وامتداد سواحل البحار والمحيطات، نشأت المدن والحضارات، وكانت التبادلات الإنسانية والتفاعلات الثقافية بين مختلف الأجناس البشرية، حيث شكّل وجود الماء أحد أسرار هندسة التجمعات السكانية، فكان التفنّن في عرض الماء مؤشرًا من مؤشرات التنمية والتطوير، والوعي بأهمية هذا العنصر الحيوي في الحفاظ على مختلف أشكال الحياة، وفي العالم الإسلامي كان للماء دور خطير، فبالإضافة إلى ضرورته في الحياة الاجتماعية كان حضوره في الممارسات الدينية شرطًا لصحة العبادات، ولذلك اعتنى المسلمون بالماء اعتناء يفوق الأمم الأخرى.
تجلّت عناية المسلمين بالماء، في التفنّن في أشكال عرض هذا العنصر الحيوي المهم، فتجاوزت وظيفة الماء إرواء العطش أو التنظيف أو ري الحقول... إلى وظائف أخرى جمالية تؤثث الفضاء العام، وتزيّن المدن الإسلامية، لتعبر عن قيم الأمن والرخاء والرحمة والعطاء والبرّ والإحسان... وذلك بإبداع سقايات ماء السبيل، ومن أشهر السقايات التاريخية في مدينة فاس، نستحضر سقاية الصفارين وسقاية النجارين وسقاية السلطان أبوالحسن المريني.

تحفة فنية              
تمثل سقايات ماء السبيل، تحفة معمارية تنتشر في دروب مدينة فاس وساحاتها، وتلبي حاجة عابري السبيل في الحصول على ماء عذب بالمجان، على الرغم من أنَّ الماء لم يكن غائبًا في مدينة فاس، فهي مدينة مشهورة بالعيون والينابيع والآبار، ومع ذلك كانت هذه السقايات إبداعًا عمرانيًا لترسيخ قيم العطاء في المجتمع، وكان بناؤها وفق طراز هندسي بديع، يمثل تحفة فنية تزين شوارع المدينة، حيث احتوت هذه السقايات على فنون الزخرفة والنقش والخط العربي والفسيفساء، وأكواب فخارية ونحاسية مزينة برسوم أو نقوش، دالةٍ على أصالة المجتمع الإسلامي، ونهضته في الصنائع والحرف والفنون اليدوية.
       تقع سقاية النجارين في قلب مدينة فاس النابض، وقد بنيت في القرن الثاني عشر الهجري، الثامن عشر الميلادي، في عهد السلطان المغربي المولى عبدالرحمان، الذي حكم المغرب من عام 1238هـ إلى 1276هـ، وتتكون هذه السقاية من صدرية وحوض ويعلوها غطاء خشبي يرتكز على عمودين، حيث تحضر مادة الخشب مكونًا بارزًا من مكونات هذه السقاية التي بقيت تعمل إلى اليوم، وتسقي عابري السبيل الماء العذب، خاصة وأن الموقع الجغرافي الذي تقع فيه يعتبر منطقة عبور الزوار والسياح من مرتادي المدينة العتيقة، حيث الطريق إلى جامع القرويين وخزانته، وبجوار هذه السقاية يوجد فندق النجارين الذي أصبح الآن متحفًا، أطلق عليه «متحف النجارين»، وبالقرب منها أيضًا دكاكين حرفة النجارة، ولذلك اختير لهذه السقاية اسم «سقاية النجارين» والذي يدلّ على حرفة التفنن في صناعة الخشب والاعتناء بنقشه وزخرفته والإبداع في تركيبه، حيث تُصنع الأبواب والنوافذ والصناديق والأدوات، وكل ما له صلة بمادة الخشب، سواء ما هو ضروي من الأثاث، أو ما له صلة بالتحسينات والكماليات، مثل تزيين واجهات المنازل والقصور والمباني الفخمة.. ذلك أنَّ فن استثمار الخشب عرف تطورًا كبيرًا في هذه المدينة، كما يدل على ذلك جملة الآثار والقطع الفنية التي بقيت إلى اليوم شاهدة على فترة ازدهار حضاري وخاصة بعد توافد أهل الأندلس على مدينة فاس، وكانوا من خيرة الصناع والحرفيين، فضلًا عن الفقهاء والعلماء والأدباء... ولذلك تختزن هندسة «سقاية النجارين» تاريخ هذه الصناعة التقليدية، وتعبّر عن جملةٍ من القيم الإنسانية التي ترتبط بها، وعلى رأسها الإحسان والإتقان في العمل.

سقاية الصفارين
أما سقاية الصفارين، فهي تُعتبر، من الناحية التاريخية، أقدم من سقاية النجارين، فقد أُسِّست في القرن الثامن الهجري، الثالث عشر الميلادي، خلال العصر المريني، وهو العصر الذي عرفَ ازدهارًا ملحوظًا في بناء سقايات ماء السبيل، بشكل لم يشهد له مثيل في أيّ عصر من العصور اللاحقة، ويعود الفضل في هذه النهضة إلى السلطان المغربي آنذاك وهو أبوالحسن المريني، الملقّب بالمنصور بالله، والذي عرف المغرب في عهده نهضة كبيرة، كانت استمرارًا لما شهدته الأندلس من حضارة مجيدة، بعد هجرة الأندلسيين إلى شمال إفريقيا وتأثير ذلك على تطور الحياة الفكرية والاجتماعية والاقتصادية بدول شمال إفريقيا وخاصة تونس والجزائر والمغرب، وبقيت معالم هذه الحضارة اليوم متمثلة في المآثر العمرانية، ومنها هذه السقايات التي يشرب منها الناس الماء العذب الزلال، على الرغم من طمس العديد منها، بسبب نوائب الدهر وعوادي الزمن. 
ويبدو واضحًا أن سبب تسمية هذه السقاية بسقاية الصفارين، هو وجودها بالقرب من دكاكين الصفارين، وهي حرفة صناعة الأواني النحاسية، وخاصة النقش على النحاس، بإبداع تحف من النحاس في غاية الجمال، بقيت هذه الحرفة إلى اليوم في سوق الصفارين، الذي يقع في ظهر جامع القرويين، ولذلك أخذت هذه الساقية اسمها من هذه الحرفة، وتدل كلمة صفارين في معناها اللغوي على النحاس، وقد كانت الأكواب التي توضع رهن إشارة عابري السبيل للشرب من سقاية الصفارين مصنوعة من النحاس ومزينة بنقوش بديعة.

مآثر عمرانية
وعلى الرغم من كثرة سقايات ماء السبيل، التي بناها السلطان المغربي أبو الحسن المريني، إلا أنَّ واحدة منها فقط هي التي حملت اسمه، سقاية أبو الحسن المريني، وكانت أكبر سقايات فاس فخامة ومهابة، مليئة بالزخارف والنقوش والفسيفساء، بشكل يليق بسلطان عظيم عُرِف بالورع والعدل، فقد اشتُهِر بكتابة ثلاثة مصاحف كبيرة الحجم بخط يده؛ أرسل اثنين منها إلى الحرمين الشريفين، وجعل الثالث وقفًا على المسجد الأقصى، ولذلك لم يبحث هذا السلطان عن الألقاب لتخليد اسمه، على الرغم من كثرة ما أنجز في شمال إفريقيا من الأعمال الجليلة، مثل بناء المدارس والمساجد والمارستانات، وسقايات الماء.
إنَّ أهمية سقايات ماء السبيل التي تنتشر في دروب وساحات مدينة فاس، تتجاوز كونها من المآثر العمرانية التاريخية التي تجلب الزوار إلى فضاء هذه المدينة التاريخية، إلى أبعاد أخرى حضارية وإنسانية تدل على قيم الخير والعطاء في المجتمع العربي والإسلامي، فضلًا عن قيم الإحسان والإتقان الذي تميّزت به الحرف والصنائع، لأنَّ الدقة التي بُنيت بها سقايات ماء السبيل، ومدى التفنن في عرض الماء بالمجان للجميع، دون تمييز بين الناس، دليل على العناية الفائقة بالإنسان، وهذا الاهتمام أحد أسرار الحضارة العربية الإسلامية ■