زمنُ الغُرَفِ المغلقةِ

زمنُ الغُرَفِ المغلقةِ

يمرُّ النهارُ ساكنا خاليًا من الأصوات والنداءات التي اعتادت الأم معايشتها؛ فالأبناء ينزوون في غرفهم لساعاتٍ طويلة، لا تراهم إلّا حين تنقطعُ خدمة «الإنترنت»، فتجدهم كمن أضاعَ مفتاحَ بيته وبات خارجَه في شدة قيظٍ أو زمهرير، لا يطيقونَ صبرًا ولا اصطبارًا، فكأنّهم عُزلوا عن العالمِ دفعةً واحدة. 
تلك الغرفُ المغلقةُ التي يشكو منها الآباءُ باتت عنوانًا للمرحلةِ المعاصرةِ، فالمعلوماتُ تحوطُ الفردَ المعاصر، والجيلُ الذي تفتّح وعيه على التكنولوجيا لا يستغني عن وجودِها وعن وجودِه معها، تمدّه بزخمِ معلومات وتجاربَ بصريةٍ ومعرفيةٍ؛ فالشّاشاتُ تشاركُ الوالدينِ في تنشئةِ الأبناء شاؤوا أم أبوا.
الغرفُ المغلقةُ مُشرعةٌ على العالم وعلى سيلٍ ملوّنٍ من المعلوماتِ، الشاشةُ التي تلتصقُ بكفّ الابنِ تمثّلُ جسرًا للتواصلِ مع العالم، خاصةً مع جائحةِ كورونا وأزمنةِ الحجرِ وواقعِ التعليم عن بُعد، ولجوء العائلةِ بأكملها لها، تشدُّه لقضاء ساعاتٍ طويلةٍ بعيدًا عن والديه، وقد يجالسهم لوقتٍ قصيرٍ تسرقه خلاله الشّاشاتُ!
كيف نمدُّ جسور التواصل مجددًا مع الأبناء؟ مع إدراكنا بأنّ الجسورَ القديمة باتت بالية، وتلك الأسئلةُ التي كان الأبناءُ يمطرونَ بها آباءَهم أجدبتْ، ولم يعد الآباءُ مصدر المعلومات الوحيد.
هل يفيدنا الاكتفاءُ بالتحسُّر والمقارنةِ بين زمنين؟ أم إلقاء اللوم على جيلٍ أمسك بالهاتف قبلَ أن يُمسك بالقلم أو بالكتاب؟ جيلٌ مفتونٌ بالتكنولوجيا متقنٌ لأسرارها، وعارفٌ بتفاصيلها، متعطشٌ للمزيد منها، مرتبطٌ بها، مكتفٍ بما تقدّمه، تمثّل له السؤالَ والمعلومةَ والإجاباتِ الجاهزةَ، وتخلقُ في ذهنه أسئلةً جديدةً ومعلومةً متجددةً.
لم يعد مجديًا توجيه اللوم لجيلٍ بأكمله، هؤلاء جيلُ التكنولوجيا وأبناءُ الشّاشات، خاصة عندما ينشأ الطفلُ وهو يرى الشاشةَ حاضرةً في كلِّ الجَمعات، ويجدها بين يديه ليتلّهى بها عن شقاوةِ الطفولة.
علينا استيعابِ ذلك الرباط الوثيق الذي تشكّل بين أبنائنا والشاشات، ومحاولة التقرُّبِ منهم عبر مسارات وعيهم الجديدةِ، التي لا تشبه تلك التي تشكّلت لدى جيلِ الآباء والأجدادِ منّا، ومشاركتهم قلقَ الأسئلةِ، والتسليم بأنَّهم يعرفونَ ويشاهدونَ أكثرَ مما أتيح لجيلنا مراتٍ مضاعفة، تتسللُ الصورُ إلى مخادعهم بلا أبوابٍ ولا مسافات، علينا تفهُّم حالةِ الفائض المعلوماتيّ التي تُغرقُ أذهانَهم وتحاصرُ مفاهيمهم.
لا بدّ لنا - آباءَ وتربويينَ - من التسليم بأنّ الشاشات واقعٌ مفروضٌ وحالةُ معيشةُ لا يمكننا الانعزال عنها، وأبناؤنا أبناء هذا الزمن؛ِ زمن الشّاشات المحمّلةِ بالمعلومةِ والدهشة التي لا تنتهي ■